رسالة اعتذار للشعب التونسي
شريف عبد العزيز
الشعب التونسي اليوم يثبت ويبرهن لكل من وصفه بالميوعة والانحلال
والتفلت، بأنهم رجال ونعم الرجال، وأبطال عز وجودهم في هذا الزمان
المليء بالجبناء والأدعياء، ومشاهدهم وهم يستقبلون الرصاص بصدورهم
تلوي أعناق المتطاولين عليهم والشاتمين لهم في كل الاتجاهات..
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
هذه الرسالة هي حق علي كل الكتّاب والمحللين والمتابعين للشأن التونسي، أن يتوجهوا بالاعتذار للشعب التونسي بأسره، نعم لابد من أن يعتذر كل من مسك قلماً وكتب عن الأحوال التونسية، لأننا ما أنصفنا هذا الشعب العظيم يوماً، وما وفيناه حقه، بل اشتركنا من حيث لا ندري في ذبحه والمزايدة عليه، لابد أن نعتذر لهؤلاء الأحرار الشرفاء الذين ظن الكثيرون وأنا واحد منهم، أنهم قد ماتوا ودفنوا منذ سنوات في مقابر الطغاة.
الشعب التونسي اليوم يثبت ويبرهن لكل من وصفه بالميوعة والانحلال والتفلت، بأنهم رجال ونعم الرجال، وأبطال عز وجودهم في هذا الزمان المليء بالجبناء والأدعياء، ومشاهدهم وهم يستقبلون الرصاص بصدورهم تلوي أعناق المتطاولين عليهم والشاتمين لهم في كل الاتجاهات.
الشعب التونسي اليوم يثبت أنه ما زال حيا أبيا معتزا بدينه وعروبته وهويته، رافضا تيارات التغريب العنيفة التي حاولت زمرة بن علي وعقيلته أن يغرقوا البلاد فيها غرقاً؛ حيث كان لا إسلام يري ولا حق يسمع ولا فضيلة ترفع.
الشعب التونسي خيب توقعات كل من حكم علي المجتمع التونسي بالعلمنة والتهتك، فليس سكان العاصمة الراقية هم سائر الشعب التونسي، وليست قصور علية القوم في الأحياء الراقية؛ حيث السفارات الأجنبية والشركات السياحية، هي بيوت ومساكن سائر الشعب التونسي، وأخطأ كل من ظن أن الطغمة الحاكمة قد وأدت طموحات وآمال التوانسة إلي الأبد، وأن منتهي آمالهم اللذة وفنونها، واللعب واللهو والعبث بأنواعه المختلفة.
الشعب التونسي الذي يسقط كل يوم منه عدة شهداء بنيران رجال الدولة البوليسية أثبت صلابة موقفه وعدالة قضيته، فلم تردعه القوة المفرطة، ولم تحل دون دوي جماهيره الهادرة أرتال الدبابات والمصفحات التي تجوب شوارع المدن التونسية تمطر المتظاهرين والمحتجين بنيران الأسلحة الثقيلة والرشاشات.
الشعب التونسي أثبت أنه علي دارية ووعي كامل بمكائد وألاعيب الطاغية، فلم تخدعه الوعود الكاذبة والخطوات الوهمية والإقالات الاستعراضية لبعض المسئولين، فظل علي انتفاضته وثورته ضد الفساد والطغيان والنهب المنظم والرسمي لثروات البلاد، فالشعب التونسي ليس شعباً مغيباً أو سادراً في غيه كما يظن قطاع كبير من العرب والمسلمين، بل إن الأحداث اليوم تثبت أنه أكثر شعوب العرب حياة وحرارة ورغبة في التغيير.
الشعب التونسي اليوم ينوب عن باقي شعوب المنطقة المغلوبة والتي ترزح تحت الظلم والطغيان والفساد منذ عشرات السنين، في التصدي لهيمنة وسيطرة وطغيان زين العابدين وأقرانه، وتحسس طريق الحرية والخلاص، وأثبت الشعب التونسي بجماهيره وعامته من البسطاء العفويين أن كلمة الشعوب أقوى من بطش وقمع الطغاة، وأن إرادتها حاسمة، وأنها قادرة على كسر الأغلال وفرض التغيير، وأعطت المثال والقدوة لغيرها، وأرغمت الطغاة في منطقتنا علي أن يراجعوا أنفسهم سريعاً قبل أن تدور عليهم دائرة الشعوب إذا ما غضبت واستيقظت، وما جري في الأردن والجزائر خير دليل علي ما نقول.
الشعب التونسي بغضبته اليوم يعيد ترتيب المشهد السياسي في المنطقة بأسرها، ويحطم القاعدة الاستبدادية المعمل بها في كثير من دول المنطقة وهي: مقايضة السياسة بالاقتصاد، أو الخبز لقاء الحرية، أو لقمة العيش لقاء الاستقرار والنظام والانضباط، هي الأصلح للشعوب المستعبدة، وهذه المعادلة الذهبية، المتبعة في أكثر البلاد العربية، وهي تعني الجمع بين إغلاق باب السياسة أو إزالتها من الحياة العامة وتحريم العمل فيها، في أي صورة كان، سواء كان عملا سياسيا مباشرا أو نشاطات مدنية، وتحليل الاقتصاد في أي شكل كان، سواء أجاء على صورة استثمارات أجنبية أو تجميعاً للثروة بالطرق الشرعية وغير الشرعية، أو بعبارة أخرى إطلاق يد المفسدين.
الشعب التونسي بغضبته اليوم قد أرغم الطغاة للاستماع إلي شعوبهم، والتعاطي مع رغباتهم وتلبية حاجاتهم، وأيضاً قد رد الاعتبار للشعوب المهملة والمهمشة منذ عهود الاستعمار الأولي، وأثبت أن تجاهل قوة الجماهير ونبض وعيها خطأ استراتيجي قاتل، فما يفعله التوانسة الآن أعاد للجماهير قيمتها في موازين القوي المؤثرة في اتخاذ القرارات، وأصبح نبض الشارع لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، اليوم أدخل الشعب التونسي الرقم الجماهيري في حساب أي أنظمة وحكومات، بعدما كانت تتخذ القرارات المصيرية والخطيرة وبعيدة المدى، دون الرجوع إليهم والتعرف علي رأيهم، في ظل مجالس نيابية وهمية جاءت بها انتخابات مزيفة وإرادة مستوردة ولا تعبر مطلقاً عن أي رغبات للشعب.
الشعب التونسي كشف عن مدي النفاق الأوروبي والأمريكي إزاء التعامل مع قضايا العالم العربي والإسلامي، وفضح الانحياز الغربي الكامل لطغاة الشرق الأوسط، وهتك أكاذيب الدفاع عن الحريات ونشر الديمقراطية التي ملئ أعداء أمتنا به فضاءنا الإعلامي، ففي الوقت الذي ينتفض الجميع فيه غضباً لضحايا كنيستي سيدة النجاة في العراق والقديسين في مصر، وتصل التهديدات الغربية لمستوى التدخل العسكري من أجل حماية الأقباط، هذا الغرب نفسه يطبق فمه ويلجم لسانه تجاه ضحايا مجازر بن علي وعسسه، ويدين ويشجب علي استحياء، وغاية تعامله مع هذا الشطط الجنوني لعسكر بن علي والقوة لمفرطة في التعامل مع الجماهير الغاضبة، أن تحذر رعاياه من السفر إلي تونس، وهذا هو أقصي إدانة من الغرب المسرور بما يفعله ربيب فرنسا المدلل في شعبه وبني وطنه.
وحقيقة مهما كتبت في حق الشعب التونسي محاولاً الاعتذار إليه عما كنت أنا وغيري أظن فيه فلن يوفيه أبدا حقه، فهذا الشعب الذي ربما يكون علي يديه قد أطلقت شرارة التغيير في المنطقة بأسرها، وفتح باب ظل مغلقاً لسنوات طويلة، ألا وهو باب الحرية .. فتحية إجلال وعرفان لهذا الشعب العظيم.
الجمعة 14 يناير 2011 م
بقلم: شريف عبد العزيز
[email protected]
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام