وقفة تأملية مع مهنة "الباحث المتخصص في الجماعات الإسلامية"
محمد بوقنطار
لم أكن أود الالتفات ولا الكتابة عن ظاهرة ما صار يدب بيننا دبيب الاستعلاء عن الحق بغير حق، وأعني بها ظاهرةً بل مهنة ـ على أدق تعبيرـ الباحث في الجماعات الإسلامية.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
لم أكن أود الالتفات ولا الكتابة عن ظاهرة ما صار يدب بيننا دبيب الاستعلاء عن الحق بغير حق، وأعني بها ظاهرةً بل مهنة ـ على أدق تعبيرـ الباحث في الجماعات الإسلامية.
وذلك لاعتبارات يقع على رأسها أن الكثير من المؤثثين للمشهد السريالي لهذه المهنة في بلادنا أو سائر البلدان التي تستوعبها خارطة طريق الوصاية الإقليمية تحت ذريعة تجفيف منابع الإرهاب وتطهير بؤره، قد أفضى وأدلج إلى المقصود من أمل بغيته المشرقة و مطلوب بداياته المحرقة، فمنهم من قضى مآربه فأسس حزبًا أو التحق بتكتل سياسي ترجح عنده أن غنمه وغرمه أفضل بكثير من عائدات وأنفال الاسترسال مع إجمالاتٍ كاذبة خاطئة، ربما لا تقاوم حصيلتها المعرفية والفكرية حديث المقاهي وهمسات النمارق وعربدات السكارى بعد منتصف الليل.
ومنهم من لا يزال يهش بقلمه على بنات أفكاره وتخرصات تحذيراته، متنقلاً من منبرٍ إلى آخر عاضًا على بعضها بنواجذ الاسترزاق والتسول المخل بأدبيات الفكر ومبادئ المعرفة الحقة بدءًا بالصحف الاستهلاكية المتسفلة في نقائص الكذب وصناعة الفحشاء والترويج للفكر الماخوري، وصولًا إلى حاجيات المراكز الدراسية الأجنبية وتماشيًا مع مقاصدها الإقليمية، وربما تكون هذه القلة قد أعجبها زيف الإشارة إليها ببنان الاستعارة الرامزة إلى مقام سرابية الوسم بالمفكر والباحث "الفلان الفلاني"، ولعلها إشارة تحيلنا في إطار تقريب المعنى بضرب المثال، إلى السائد فيما يلهج به لسان العرف المصري بقولهم مع اختلافنا وردنا لمبنى المثال وفساد معناه :"ليس العيب أن يعبد الناس فرعون ولكن العيب أن يعتقد فرعون أنه إله".
فأن يحظى القلم بمحاضن صحفية ورقها أشرف وأثمن من محبور أعمدتها المدخولة، وأن يترادف الظهور وتكثر الاستضافات والدعوات إلى الحد الذي يصير معه الرسم والاسم رقمًا استهلاكيًا، هي أمورٍ عند النظر إليها بعين التجرد والإنصاف لا يمكن اعتبارها علامات فارقة ومؤشرة على قبول الوزن والقيمة الفكرية لتحليل ذلك "الفلان الفلاني" ليس عند المخالفين، بل حتى عند معشر المستضيفين والحاضنين، خصوصًا أن حسابات هذا المستضيف والحاضن تبقى حسابات تتحكم فيها المقاصد والأهداف، وتوجهها التوجيه الصارم برامج خدمة المشروع ومدى تناسبه مع الولاءات المسكوكة والموقعة مع الآخر من جهة، ومن جهةٍ ثانية مدى قدرته على ترسيخ وتعميق مشاعر البغضاء تجاه ما فيه أنفاس من وحي إسلام الوحي العظيم في مقابل الانتصار لمدنية الغرب وما يفرضه من نماذج شعائريةٍ وطقوسٍ تديّنية حصل عليها الإجماع هناك، كما حصل الإجماع على واجب التزامها هنا، وهي شعائر وطقوس لم يعد من الصعب ولا من العناء الوقوف على أدق تفاصيل توصياتها ونظرياتها العابرة إلينا عبر البريد السريع والمضمون الوصول والتلقي من الحلف الوظيفي المتواطئ في عمالةٍ ومأجورية.
ويجدر بنا المقام هنا التنبيه على أننا كما أسلفنا ذكر عدم الود والرغبة في اقتحام عقبة الكتابة عن هذه الظاهرة، فإننا لم نكن لنشكل استدراكًا مخلًا بأدبيات النقد البناء، أو السالك مسلك التحامل المجاني أو المنحاز والمنتصر للتجارب التدينية ببلادنا أو سائر بلاد المسلمين، وخاصة ما شكّل من هذه التجارب حيدة وانعطافا خطيرا عن جادة مراد الله ورسوله من إسلام الوحي وشرائعه وشعائره، وإنما والله من وراء القصد لما وقفنا لنتأمل القليل مما راكمته تجربة هذا النوع من البحث والتخصص في قراءة البدايات والنهايات التي زخرت بها تجارب الفصائل الإسلامية أو ما ينضوي تحت مسماها من جماعات لا ننكر وجودها، وجدنا التطفيف والتحامل والمكر والتدليس والتلبيس وطغيان المصلحة على المبادئ المتسامية، والمأجورية على صدق الاستئمان، وجدناه يطبع السير وتطرد صوره على طول سياق الكر، فلا تكاد تجد نبلا في محبور الأقلام ولا صدقا في الكلام ولا إنصافا عند هذا الصنف من الأفمام، اللهم كثرة التنقل في دائرة ما يشاكل النفس ويصادف هواها همّ أصحابها في تلبية الحاجيات المعاشية على مدرج السلم الاجتماعي الرفيع المستوى.
وهكذا لن نلامس سقف البغي ولا المبالغة، إذا ما أقررنا أن دور هذا النوع من البحث والضرب من التخصص صار في أغلب أطواره مرافقا للغزو الفكري الذي تشكو من وطأته الأمة، سيما وأن هذا النوع من الباحثين في ظل هذا النوع من التخصص قد سجل دوره في غمرة من اللامبالاة والتغافل العمدي عن الكثير من الظواهر التي نحن في أمس الحاجة إلى تشريح أسبابها وسبر غور مسبباتها، وقد تحولت مجتمعاتنا إلى محاضن ومآوي للعديد من تمظهرات الاستغراب، بل صارت مواخير تعج بأنواع من التسفلات والنقائص اللا أخلاقية، تحتاج في إطار ترتيب الأولويات إلى التصدي والمواجهة الفكرية القائمة على البحث والتخصص، وإعمال المقاربة العلاجية الملائمة، والتي كنا من خلالها يمكن أن نرى أو نسمع عن الباحث المتخصص في تفكيك وتحليل أسباب ومسببات الأوبئة والأمراض السلوكية المنتشرة في مجتمعنا الإسلامي انتشار النار في الهشيم.
بينما الواقع يشهد بالصوت والصورة وترادف الخرجات على أن هؤلاء الباحثين المتخصصين في الجماعات الإسلامية، صار همهم الأول من وراء ظهورهم وتحليلاتهم هو استرضاء أنفاس الغرب وتجشؤاته السياسية، وتملق توصيات مراكزه الدراسية المسافرة إلينا سفرها القصير، والوافدة علينا توافد الصقيع، ولا شك أنه استرضاء وتملق جعلهم على طول الخط في ركب الآخرين، يرضيهم ما يرضي هؤلاء الآخرين، ويغيضهم ما يغيض هؤلاء الآخرين، وليس الكلام هنا من باب الرجم بالغيب وإنما هو إقرار جاء بعد بلاء أمر وخبر.
ولا جرم أن المتتبع لهؤلاء سيرى ويلحظ أن مادتهم الرئيسة في درك ما خندقوا فيه أسهم مدافعتهم هو التصدي لمنهج السلف واعتباره منهاجا دخيلا يهدد الأمن الروحي المحلي، وينتج التطرف والإرهاب الذي يتهدد ويتوعد العالم بأسره، حتى أنه يمكن القول إنصافا أن حيازة مفاوز وصف الباحث المتخصص في هذا المجال لم يعد يتطلب من معشر الراغبين في الالتحاق بركبه والتدثر بلباسه المجهود الفكري الرصين، والتحليل الدقيق المتين، وإنما يكفي أن يكون المرء في هذا الصدد مُجيدا مستعدا للمواجهة، ومحترفا صنعة رمي غيره من المخالفين بالوهابية ووسمهم بالداعشية، وإلصاق كل كبيرة بهم وبرسومهم، في مقابل حسن الثناء على التصوف والمتمصوفة، وتسجيل الحضور في محافل طقوسهم التعبدية والدفاع عن سماحة منهجهم وشرعية موالدهم في دائرة تكريس الشكل التديني الوطني الذي تحكم أطواره وتفاصيل أشكاله الجغرافية لا الفزع إلى الكتاب والسنة، يدور كل هذا وأكثر تحت طائلة الاستغلال المفرط لأخطاء واعتسافات بعض المنتسبين إلى منهج السلف، والذي لا يمكن أن ننكر حقيقة ما راكمته تجربتهم من إقعاد واعوجاج، أكيد أن حالته تبقى منفكة عن عصمة المنهج وكماله، منهج إسلام الوحي من كتاب وسنة على فهم سلف الأمة...