الغضب بين منظورين

محمد المصري

وهذا الوصف المتعلق بالصفات البشرية يتماشى أيضًا مع بعض الانفعالات مثل قضية (الغضب) فيمكننا أن نتناول الموضوع من خلال منظورين أو جانبين.

  • التصنيفات: مساوئ الأخلاق -

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:

فإن "الكثير من الصفات البشرية تكون محايدة، ليست شرًا محضًا بل هي مما يمكن أن يستخدم في الاتجاهين... أن يُستثمر في الإعمار، وأن يُستخدم في الهدم، مثلها مثل الكثير من الموارد والثروات في باطن الأرض، فالكهرباء يمكن أن تستخدم لإنارة الطرق وتيسير حياة الناس، ويمكن أن تستخدم في التعذيب في أقبية المخابرات... العبرة في الاستخدام، كذلك بعض الصفات والطباع البشرية... يمكن استخدامها على نحو إيجابي إلى الحد الأقصى ونحو سلبي إلى الحد الأقصى أيضًا"[1].

وهذا الوصف المتعلق بالصفات البشرية يتماشى أيضًا مع بعض الانفعالات مثل قضية (الغضب) فيمكننا أن نتناول الموضوع من خلال منظورين أو جانبين.

أما المنظور الأول:

فيتعلق بالجانب السلبي للغضب وهو الجانب المتعلق بالانفعالات الناتجة عن بعض المثيرات التي حصيلتها أن يغضب فيها المرء لنفسه، فالشخص في حالة الغضب يعاني من فيضانات الانفعالات، وتؤدي هذه الحالة إلى صعوبة التصرف بعقلانية.

ومن هنا جاءت المعالجة النبوية لمثل هذه الحالة، كما في الأحاديث الناهية عن الغضب ومن ذلك الحديث المروي في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: «لَا تَغْضَبْ» ، فردد مرارًا، قال: «لَا تَغْضَبْ» .

قال الخطابي: "معنى قوله: «لَا تَغْضَبْ» اجتنب أسباب الغَضَب، ولا تتعرَّض لما يجلبه"[2].

وقال ابن التين: "جمع صلى الله عليه وسلم في قوله: «لَا تَغْضَبْ» خير الدنيا والآخرة؛ لأنَّ الغَضَب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه، فينتقص ذلك من الدين"[3]

أو الأحاديث التي مدحت جانب (الحلم والأناة والرفق) كما في الحديث المروي في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَشَجِّ عبْدِ الْقَيْس: «إِنَّ فيك خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الحِلْمُ وَالأَنَاة».

والحلم هو: "ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، والحلم حالة متوسط بين رذيلتين هما الغضب والبلادة، ونجد من الآيات التي وصفت الله بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم كقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج من الآية:59]. وهذا يفيد أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم".

والأناة في لغة العرب: "لها عدد من المعاني منها الحلم والعقل والرزانة والوقار، واصطلاحًا: هي الروية والتفكير قبل الحكم، لتضاد بذلك معنى العجلة في الإقدام على قرار أو حكم قبل التبصر والتثبت، وتتفاوت درجات الناس في استجابتهم للمثيرات حولهم، فمنهم من يستثار لأتفه الأسباب فيطيش ويخطئ على عجل، ومنهم من تستثيره الشدائد فيتعامل معها بعقل وحكمة وأناة، فيخرج من شدتها مأجورًا مشكورًا. ومع هذا التفاوت فهناك علاقة وثيقة بين ثقة الفرد في نفسه وبين أناته مع الآخرين، وتجاوزه عن خطئهم، فكلما سما دينه وخلقه اتسع صدره، ووسع غيره بعلمه، وعذر من أخطأ، وتسامح مع من سفه عليه"[4].

من هنا يتضح المنظور الأول للغضب والذي نستطيع جمعه بكلمة ألا وهي (الغضب للنفس).

أما المنظور الثاني للغضب:

فهو ليس كسابقه فهو غضب ليس للنفس أو لشهواتها وإنما غضب لحرمات الله إذا انتهكت، فالانفعال الإنساني غير المحبوب رغم شيوعه له فوائد جمة في مواطن أخرى.

وقد نص العلماء على ذلك في مصنفاتهم فمن ذلك ما فعله الإمام النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين إذ بوَّب باب بعنوان (باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشّرع).

يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في شرحه لكتاب (رياض الصالحين): "والثاني من أساب الغضب: الغضب لله عز وجل، بأن يرى الإنسان شخصًا ينتهك حرمات الله فيغضب غيرة لدين الله، وحمية لدين الله، فإن هذا محمود ويُثاب الإنسان عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هذا من سنته، ولأنه داخل في قوله تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج من الآية:30]، {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، فتعظيم شعائر الله وتعظيم حرمات الله أن يجدها الإنسان عظيمة، وأن يجد امتهانها عظيمًا فيغضب ويثأر لذلك، حتى يفعل ما أُمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك.

ثم ذكر المؤلف -أي: النووي رحمه الله- آية ثانية، وهي قوله تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد من الآية:7]، والمراد بنصر الله نصر دينه، فإن الله سبحانه وتعالى بنفسه لا يحتاج إلى نصر، هو غني عمن سواه، لكن النصر هنا نصر دين الله، بحماية الدين، والذب عنه، والغيظ عند انتهاكه، وغير ذلك من أسباب نصر الشريعة.

ومن هذا الجهاد في سبيل الله القتال؛ لتكون كلمة الله هي العليا، هذا من نصر الله، وقد وعد الله سبحانه وتعالى من ينصره بهذين الأمرين: {يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ينصركم على من عاداكم، ويثبت أقدامكم على دينه حتى لا تزالّوا، فتأمل الآن إذا نصرنا الله مرة؛ أثابنا مرتين؛ {يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. ثم قال بعدها: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8]، يعني أن الكافرين أمام المؤمنين الذين ينصرون الله لهم التعس، وهو الخسران والذل والهوان، وأضل أعمالهم يعني يكون تدبيرهم تدميرًا عليهم، وتكون أعمالهم ضالة لا تنفعه ولا ينتفعون بها" أ.هـ.

ومن هنا فهناك تفرقة اصطلاحية وشرعية بين نوّعي الغضب فهناك غضب منهي عنه وهو كما أسلفت (الغضب للنفس) وهناك غضب يثاب عليه المرء وهو الفزعة لصيانة الحرمات من الأذى والذّب عن دين الله عز وجل.

وكما يقول علماء النفس فإن الغضب يمثل طاقة هائلة، وبالتالي قوة كبيرة يمكن الاستفادة منها في تحقيق التغيير، فحينما يعطيك الشعور بالغضب مثل هذه الإشارة التحذيرية، فإنه يحثك على اتخاذ إجراء ما.

وفي النهاية أختم بما سطره إمام الحرمين في وقته -الإمام الجويني رحمه الله- في كتابه (غياث الأمم في التياث الظُلَم) إذ يقول: "فإن من أجلى أصول الشريعة دفع المعتدين -بأقصى الإمكان- عن الاعتداء".

 ___________

[1]- أحمد خيري العمري، استرداد عمر: من السيرة إلى المسيرة (بتصرف يسير).

[2]- فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني.

[3]- المرجع السابق.

[4]- انظر موقع إمام المسجد، خطبة الحلم والأناة.