من دروس الحج: كيف نتحد؟
إن مشهد الحجيج ليبعث في النفوس الأمل أن تعود الأمة صفاً واحداً، تنطلق من مشكاة واحدة، وتستند إلى مرجعية واحدة، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}
- التصنيفات: فقه الحج والعمرة - ملفات الحج وعيد الأضحي -
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينة ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [سورة النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [سورة الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة أجارني الله وإياكم من البدع والضلالات.
أيها المسلمون الأعزاء:
فريضة الحج على الأبواب، ما أحوجنا أن نستلهم الدروس والعبر والحكم والأسرار من هذه الفريضة، ما أحوجنا اليوم ونحن نمر بمنعطفات، وضعف أن نتعلم من الحج كيف نتحد، ونوثق أواصرنا، وننسى خلافاتنا، ولنجتمع على كلمة سواء، فلن يجمع شملنا، ولن ترفع كلمتنا، ولن نعود إلى سالف مجدنا، إلا إذا تمسكنا بكتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وليكن شعارنا ونبراسنا الذي نستضيء به قوله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
إن مشهد الحجيج ليبعث في النفوس الأمل أن تعود الأمة صفاً واحداً، تنطق من مشكاة واحدة، وتستند إلى مرجعية واحدة، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20].
لأهمية وحدة الصف، وجمع الكلمة، فقد أعلنها النبي عليه الصلاة والسلام في موسم الحج صريحة مدوية:، فعند أحمد في المسند أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلََ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى» (الصحيح المسند: 1536)، الكل منهم يشعر بشعور الوحدة المعلنة، ويفخر بهذا الاسم العظيم؛ {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78].
ولعلك تلمس هذا المعنى بوضوح في قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم» (رواه مسلم)
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا *** عذب تحدَّر من غمام واحدِ
أو يفترق نسب يؤلف بيننا *** دين أقمناه مقام الوالدِ
إنها الوحدة التي نَحِنُّ إليها ونشتاق لأننا حين نكون متحدين لا يكون لأعدائنا مطمع فينا، أمّا حين نفترق فإنهم يستأسدون علينا ويطمعون فينا:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ♦♦♦ وإذا افترقن تكسرت آحادا
ويقول جل وعلا ناهيًا عن الافتراق: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 1055].
والتاريخ شاهد، فما ضاعت الأندلس إلا حين تفرق أمراؤها، وما ضاعت فلسطين وغيرها من الدول إلا في ظل فرقتنا.
فهل نستلهم من الحج هذا الدرس العظيم، فنراجع أنفسنا وديننا لنفوز بخير الدنيا والآخرة؟!!
ولقد حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام من الاختلاف، فقال كما في مسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» .
فالاجتماع والاتحاد والاتفاق طريق إلى القوة والنصر، والتفرق والاختلاف طريق إلى الهزيمة والضعف، وما ارتفعت أمة من الأمم، وما انتصرت على أعدائها إلا بسبب تلاحم أفرادها، وتوحيد جهودها،
والتاريخ القديم والحديث أكبر مثال على ذلك، وما تركيا عنا وعنكم ببعيد، ذلك المشهد الرهيب الذي تجسد في شعب تركيا، رغم المؤامرات الداخلية والخارجية، إلا أنهم اصطفوا خلف قائدهم ورئيسهم، وقبل ذلك علقوا آمالهم بربهم فكانوا يهتفون بصوت واحد ويرددون الله أكبر فكانت النتيجة أن نصرهم الله، وفضح عدوهم، وأبطل كيد أعدائهم، فلو كانوا متفرقين ما كانت النتيجة كما ترون، فلنحذر جميعاً من الاختلاف والتنازع، فالله يقول: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسولَه وَلَا تَنَازَعوا فتفشَلوا وتذهَبَ ريحُكم واصبروا إنَّ اللهَ مع الصُّابرين} [الأنفال:466] .
إخوة الإيمان:
الحج موسم عظيم، تتجسد فيه وحدة المسلمين في أبهى مظاهرها وأجمل حللها، حيث تذوب الفوارق، وتتلاشى الحواجز، ويجتمع المسلمون في مشهد جليل، يبعث على السرور، ويسعد النفوس ويبهج الأرواح.
إن من أعظم منافع الحج وآثاره المباركة
أنه يشعر أبناء هذه الأمة بوحدتهم، وهذا هو الحال في جميع شعائر الإسلام، لكن الصورة في الحج أوضح؛ إذ يؤدي الحجيج مناسكهم، فالجميع بدون استثناء، الكبير والصغير، الرئيس والمرؤوس، الحاكم والمحكوم يؤدون مناسك الحج، من الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي، والوقوف بعرفة، والمبيت بمني، ورمي الجمار... وكلهم يقومون بنفس الأعمال في مكان واحد، يطوفون ببيت واحد، بلباس واحد، يناجون ربا واحدا، صوتهم واحد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وهذا مما يجسد الأخوة والمحبة بين المسلمين.
إن الحج يشعرنا أيها المسلمون بوحدتنا التي منَّ الله تعالى بها علينا حين أكرمنا بهذا الدين وهذا النبي الذي دعا إلى الله تعالى فأجابه أبو بكر العربي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، فصهرهم الإسلام في بوتقة واحدة حتى إن شعار الواحد منهم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ♦♦♦ إذا افتخروا بقيس أو تميمِ
إنه الشعور بالانتماء لهذه الأمة الذي جعل سلمان الفارسي حين سئل: ابن من أنت؟ يقول: أنا ابن الإسلام.
فما دمنا نحن أبناء الإسلام؛ فلا بد أن ندافع عنه، وأن نعتز ونفتخر به، وأن نكون صفاً واحداً ضد من يعتدي ويتآمر علينا؛ لأنه الدين الذي ارتضاه الله لنا.
الإسلام ينادي فهل من مجيب؟!
انا الإسلام أدعوكم أنادي *** فلبوا أيها الأبناء أجيبوا
أنا الإسلام جاريةً دموعي *** لأني بين أبنائي غريبُ
تداعى القوم جوعى ينهشوني *** ولا خل يذود ولا حبيبُ
وأبنائي أراهم في خلاف *** على حال لها كبدي تذوبُ
أرى المليار باسمي قد تسموا *** وفي البأساء خذلان عجيب
إذا ما الإبن لم ينصر أباه *** فلا كان الوليد ولا النسيب
أرى ولدي تمزقه الاعادي *** يقول أبي فتخذلني الكروبُ
وأسال أين أخوته أماتوا؟ *** وهل بقيت لدى الأحياء قلوبُ؟!
أعيدوني فبي سيعود مجد؟ *** ويمسح عن رؤوسكم المشيبُ
فعزي عزكم ثمري جناكم *** وبي ستطوف حولكم الشعوبُ
أسأل الله بمنه وكرمه أن يعيد لهذه الأمة مجدها وعزها ووحدتها وقوتها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
قلت ما سمعتم واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماٌ لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه...
أما بعد، فيا عباد الله:
إنها لحظات رائعة للحجاج وهم يتحركون جميعاً من منى، ثم يقفون ذلك الموقف العظيم في عرفة وقد اتحدوا في المكان والزمان واللباس والوجهة، هدفهم واحد، وغايتهم واحدة، فالجميع قد جاؤوا من كل فج عميق، يحدوهم الأمل، يرجون رحمة الله ويخشون عذابه، رافعين أكف الضراعة إلى الله عز وجل راغبين في مغفرته ورحمته.
معاشر المسلمين:
إن الواجب على علماء المسلمين وقادتهم أن يتخذوا من موسم الحج مؤتمراً للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد الجهود وتبادل المنافع والتجارب لأن الحج هو الفرصة العظيمة لجمع المسلمين تحت ظل شرع الله بالقرب من بيت الله في أنسب مكان وأشرف زمان.
إن أهل الإسلام في كل مكان قد تشتتوا وتفرقوا وتنازعوا واختلفوا وعادى بعضهم بعضاً لا سيما بعد هذه الأحداث العالمية والمتغيرات الدولية التي تمر بها الأمة الإسلامية ولا مخرج للأمة من هذه الأزمات وهذا الشتات إلا بالتوحد والتعاون والتآزر والتناصر ولا شك أن هذه المناسبة العظيمة مناسبة الحج لتؤكد على هذا الجانب وتدعوا إليه بشكل واضح فهناك توحد في المشاعر وتوحد في الشعائر وتوحد في المواقف وتوحد في التلبية وتوحد في اللباس ولا يمكن أبداً للمسلمين أن يحتشدوا بهذا العدد في وقت واحد إلا في ذلك الاجتماع العظيم فهل ستستفيد مكوناتنا السياسية والقبلية والحزبية بكل طوائفهم وفصائلهم من هذه الفريضة في رص صفوفها وإصلاح ذات بينها؟!
هذا ما يرجوه كل مسلم غيور على دينه، وأمته، فنصوص القرآن المجيد تنصّ على أنّ الخير كل الخير في توحيد الكلمة وكلمة التوحيد، منها قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وقوله جلّّ شأنه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون} [المؤمنون: 522].
ويوم أن تفترق الأمّة الإسلامية وتختلف غاياتها وأهدافها،
فلنعلم أن الشيطان قد أوقع بين أبنائها؛ فشتّت أهدافهم، وفرّق وحدتهم، وفرح بذلك شياطين الإنس في كل مكان، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 911].
عباد الله:
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال جل وعلا : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 566].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن أمهات المؤمنين -رضي الله تعالى عنهن أجمعين-، وعنن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فاشغَله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا سميع الدعاء.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
-ياسر عبدالله محمد الحوري.