الخلافة عبقرية المصطلح
حاتم أبو زيد
الجميع عبد لمنزل الشرع خاضع للملك الحق، وهو أرقى مقام يمكن لبشر أن يصل إليه.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
الخلافة مصطلح عبقري، تميز به الإسلام في مجال العلوم السياسية. فقد أجاب عن أهم سؤالين في عالم السياسية: من يحكم (الحاكم كمنفذ، السلطة التنفيذية)؟ وكيف نحكم (الحاكم كمشرع، سلطة التشريع)؟ فضلا عن أنه جرد الحاكمين من المقدرة على الاستبداد بالتشريع. بالفصل الحقيقي بين السلطة التشريعية والتنفيذية، وإقامة أول دستور مكتوب تعرفه البشرية.
أشكال الحكم عامة قائمة من طريقة الإجابة على السؤالين السابقين (نظريتي الشرعية والسيادة : صاحب الحق في الحكم كمنفذ، وكمشرع)؛ وتأتي الإجابة من الجميع بأن الحكم للأفضل (الأعلم، الأحكم) أو الأخيار، ثم يختلفون في الأفضل هذا.
ففي أنماط الاستبداد المتخلفة (الفرعون، الإمبراطور،...) كان يرى شرعيته أو امتيازه وأحقيته بالحكم نتيجة سلالته الممتازة، ويستأثر بالحكم والتشريع معا متألها على سائر الشعب. وتلك أحد أشكال الحكم الثيوقراطي. فالحاكم يستبد بالرعية (الجماهير) من منطلق ديني، فهو ابن الإله أو الإله.
ومن برر للسلطة الملكية من غير المسلمين اعتبرها مورثة من سلطة آدم الأبوية على ذريته، ولم يعرف عن الملوك من غير المسلمين اهتمامهم بالحصول على الشرعية من الشعب حتى ولو شكليا.
الكنيسة انتزعت سلطة التشريع بنص أوردوه في إنجيل متى (16: 19) يمنحهم سلطة الحل والربط (التحليل والتحريم)، بل وغفران الخطايا وإمساكها. ومبررها في ذلك علة الإيمان؛ أي أنهم الأفضل الطيبون الأخيار.
وجعلت أيضا من اختيار الملوك اختيار إلهي فرسالة بولس لأهل رومية تقول: (والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله). وهكذا صارت السلطة هي اختيار إلهي، والاختيار الإلهي هو الأفضل بالطبع. فصاحب القرعة الهيكلية لا يمكن رد سلطانه فهو اختيار الرب (مثلما يجري في الكنيسة الأرثوذكسية). وهو شكل آخر من الحكم الثيوقراطي ، وشابههم فيه الشيعة إذ ادعوا أن منصب الإمامة (الخلافة) تم عبر النص. ومن جاء عبر النص (الاختيار الإلهي) هو الأفضل، ولا رد لسلطانه.
حتى أشكال الحكومة بعد بزوغ العلمانية والتحرر من الاستبداد الديني الكنسي، وظهور ما عرف بالحكومة المدنية، ظلت تدور حول الإجابة على سؤال من يجب أن يحكم.
يقول كارل بوبر : (يبقى هذا السؤال اليوم في قاعدة النقاش السياسي، إن ماركس ولينين وموسوليني وهتلر، وأيضا معظم رجال السياسة الديمقراطيين، فكروا بدون كلل في الإجابة على السؤال من يجب أن يحكم؟ ).
يضيف بوبر: (كانت إجابة أفلاطون: الأفضل هو الذي يجب أن يحكم، وهي إجابة أخلاقية واضحة. ماركس ولينين قالا: إنهم ..... البروليتاريون الطيبون الأخيار، الذين يجب أن يحكموا وليس الرأسماليين الأشرار).
أما الديمقراطيون فحادوا عن الإجابة؛ إذ يقول بوبر: (منذ حوالي خمسين عاما اقترحت رفض هذا السؤال وشطبه كلية لأنه يتعلق بمشكلة خاطئة قادت إلى حلول خاطئة). واستبدال هذا بالقدرة على التخلص من الحكومة. ومن ثم لم يستطع أن يجب على سؤال: كيف سنحكم (التشريع، السيادة لمن)؟ (فالمسألة لا تتوقف على اختيار القاضي فقط، بل ما هو القانون الذي سيحكم به القاضي). وعمليا يفترض الديمقراطيون مبادئ فوق ديمقراطية (ميتا ديمقراطية) تحمي منظومتهم.
وأعني بـ ميتا ديمقراطية المبادئ التي تعلو على الإرادة الشعبية؛ فمثلا استبعاد الدين من تنظيم الحكم (يطلقون عليه: حياد الدولة الديني) مبدأ يعلو في الديمقراطية على الإرادة الشعبية. فإن لم تلتزم الإرادة الشعبية بتلك المبادئ فلا وسيلة أمام الديمقراطية سوى العمل الخشن واستخدام القوة العسكرية. ومن ثم وجد في مستعمرات الاحتلال السابقة - البلدان الإسلامية- الجيش كمؤسسة حماية للعلمانية.
ومع هذا فشل هذا النظام في عملية الفصل بين السلطة التشريعية والتنفيذية، فالأغلبية هي التي تقوم بتشكيل الحكومة (السلطة التنفيذية)، وهذه الأغلبية البرلمانية أيضا يمكنها اقتراح القوانين وإمرارها عبر أغلبيتها، فمن ثم تملك سلطة التشريع أيضا.
وحتى إن تطورت الديمقراطية، أو افترضنا له صورة مثالية، ومنحت الجماهير حق تقرير القواعد والأحكام وتغيير المبادئ (عبر تغيير التشريعات والدساتير) فإنها ستصبح سيادة وعلو الأغلبية على الأقلية حتى وإن تقاربا في النسب. ومن ثم يصبح طرف خاضع لطرف آخر.
أما مصطلح الخلافة فهو يقتضى أن الرئاسة العامة هي حق الأمة وتمارسه عبر اختيارها لشخص يمثلها.
والخليفة هو البديل عن صاحب الحق الأصيل (الأمة)؛ يقولون استخلف فلانا فلانا أي جعله مكانه، قال تعالى : (وقال موسى لأخيه هارون اخلفنى في قومي وأصلح).
فالخليفة هو بديل عن الأمة التي اختارته، ومن ثم فمهمته تنفيذ إرادتها، ويمكن لمجموع الأمة عزله كما اختارته.
ومن جهة أخرى هو أيضا خليفة للإمام الأول للأمة: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو ملتزم بالسير على طريقته وشريعته. وبناءا عليه فهو وحكومته وأغلبيته غير مستقلين بالتشريع، بل خاضعين لدستور مكتوب لا يملكون القدرة على تبديله (القرآن والسنة). وإنما يضعون القوانين من تحت نظر الشريعة المهيمنة.
ومن ثم كان نظام الخلافة أول وأعلى نظام دستوري تعرفه البشرية من أنماط تنظيم الحكم ومنع الاستبداد وتحقيق المساواة بين البشر. ويتميز بأن نصوصه منشورة معلومة للجميع، والأمة كل الأمة متعبدة بقراءته والاطلاع عليه، وفهمه وحفظه.
وأقل أقل أفراد الجماهير علاقة بهذا الدستور يحفظ منه شيئا، ويستمع لنصوصه تتلى في الصلوات. وفي الخطب يستمع للآيات ولأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما لن تجده في أي نظام دستوري آخر، إذ لا تقف عامة الجماهير على نصوص دستورها فضلا عن أن تحفظها وتستدل بها، بل ستجد غالب النخب في النظم الأخرى شأنها شأن العامة في نظام الخلافة؛ لا تحيط بدستورها علما، وإنما تتعرف منه على أشياء ويخفى عليها أشياء أخر.
ولذلك كانت الأمة جميعها في نظام الخلافة حال كونها مأمورة بطاعة الإمام وولاة الأمور؛ الذين اخترتهم؛ مأمورة أيضا بحراسة الدستور من خلال شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو ما أعطى للأمة الأفضلية على غيرها من الأمم، وكان سبب فلاحها. قال تعالي: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران 104] أي كونوا جميعا تلك الأمة المفلحة قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
وإذا اضطرت الأمة حال قيامها بواجب حراسة الدستور والدفاع عنه في وجه استبداد الحاكمين لاستعمال القوة ؛ أجاز لها الدستور نفسه ذلك. وحض الدستور القادرين الذين لم يصبهم الظلم القيام بواجب الدفاع عن الضعفاء. قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا } أي من أجل (المستضعفين من الرجال والنساء) الآية.
وهو ما يجعل الأمة تأمن من ممارسة بضعة أفراد السيادة عليها من خلال إنفرادهم بعملية التشريع، إذ لديها مرجعية عليا في نصوص الوحي والإجماع وسوابق الحكم الراشد تحاكم بها ما يصدر عن السلطة من قوانين وتشريعات.
في حين أن النظام الديمقراطي يرى الجماهير غير مؤهلة. فمونتسكيو صاحب نظرية الفصل بين السلطات، وكارل بوبر وغيرهما تتوافق عباراتهم أن: (عامة الناس ليست لديهم القدرة في صياغة الدساتير والقوانين واتخاذ القرارات السياسية ، وبالتالي فعليهم أن ينيبوا نخبة تصنع لهم التشريعات والقوانين) التي تتحكم في أنفسهم وأموالهم وسائر شئون حياتهم. بما يعنى خضوعهم للاستعباد من تلك قبل تلك النخبة حتى وإن كان ذلك طواعية منهم.
فالالتزام بالقانون طواعية محض العبودية ، فإن كان القانون تنزيل من الله تساوى الجميع في العبودية للخالق العظيم، وإن كان القانون صناعة بشرية كانت عبودية من بشر لبشر وافتقدت المساواة. قال تعالي في شأن فرعون وموسى وقومه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي: خاضعون للنظام وقانون فرعون وملائه.
وإن كان الخضوع للقانون بغير رضا فهو قهر واستبداد فجاء في شأن فرعون أيضا: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ }
ومن ثم كان مصطلح الخلافة يقتضى تحقيق المساواة بين البشر والتحرر من العبودية والاستبداد، ويقضى على القهر. إذ الجميع عبد لمنزل الشرع خاضع للملك الحق، وهو أرقى مقام يمكن لبشر أن يصل إليه.
وأما مصطلح الإمارة والأمير فهو من المشاورة قال تعالي : {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي يتشاورون في أمرك، وقال صلى الله عليه وسلم «البكر تستأمر » أي تشاور في أمر زواجها، ففي لفظ «البكر تستأذن» . وجاء في لسان العرب : الائتمار والاستئمار: المشاورة، وكذلك التآمر. واستأمره : شاوره. وآمرته في أمري مؤامرة إذا شاورته. وكل من فزعت إلى مشاورته ومؤامرته، فهو أميرك.
ولهذا كانت الشورى من الصفات المميزة في الجماعة المسلمة كما يقول صاحب الظلال حيث جاء وصفهم بها في آية مكية { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } من قبل قيام الدولة. ويشير الشيخ للمساواة التي تستلزمها الشورى وتحققها؛ فيقول : الصلاة هي مظهر المساواة بين العباد في الصف الواحد ركعا سجدا، لا يرتفع رأس على رأس، ولا تتقدم رجل على رجل! ولعله من هذا الجانب أتبع إقامة الصلاة بصفة الشورى- قبل أن يذكر الزكاة.
وهكذا فإن مصطلحات الحكم في النظام الإسلامي أبعد عن الاستبداد من مصطلحات الرئاسة والملك التي تفيد العلو والتملك بما يفهم منه الاستبداد بالشعوب عبر القهر والسلطوية. الذي أفصحت عنه تعريفات الدولة في الفكر العلماني من ضرورة وجود سلطة تمارس الأمر والإكراه على مجموعة من الأفراد داخل إقليم بخلاف المنظومة الإسلامية التي تتحدث عن أمة لا دولة.