أغضبتم قبل أن آذن لكم ؟!

أبو لجين إبراهيم

إنه الجيل الذي لم يرتض لنفسه مجرد حياة لامعنى لها منزوعة الكرامة،
فبحث عن معنى الحياة الكريمة، فوجد الطريق إليها مليئا بعقبات وعثرات،
فشمر عن ساعديه وآثر الموت على حياة تعيشها كافة الكائنات، فكانت
إرادة الله أن تُكتب على يديه لهذه الأمة تاريخاً

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -


تماماً كما تنتفض الزلازل بغتة بأمر الله جل في علاه وتفاجئ أهل قرية كانت آمنة مطمئنة تأتي ثورات الشعوب غاضبة عنيفة لا يمكن الضغط عليها أو الوقوف أمام مجرياتها، وحينها يصل مؤشر الصبر إلى درجة الغليان، وعندئذ تنطلق حناجر الغضب هادرة ولا تعود الأمور كما كانت أبداً، غير أنها تجري في كل مرة كعادتها بأن يصم الجالس على كرسي الحكم أذنيه عن كل ما يجري خلف أسوار قصره، بل ويصل به حد الأمان الكاذب والثقة العمياء أن يطلق جنوده يصبون الموت فوق رؤوس الذين خرجوا غاضبين ضد الفساد، وربما كان لسان حاله يقول لهم: أغضبتم قبل أن آذن لكم ؟!


إن ما حدث في مصر لا يختلف كثيراً عما حدث في تونس، فقد بحت أصوات المصلحين في حينه تحذر وتطالب بإصلاح الأوضاع، بل قد لا يختلف كثيراً عما هو قادم إن بقيت الأخطاء والتبعية للغرب كما هي في معظم بلدان المنطقة دون تغيير أو إصلاح منشود، وإن من النوادر أن النظام في مصر أكد عقب الثورة في تونس أن مصر غير، وأن شرارة الغضب التي انطلقت في سيدي بوزيد لا يمكن بأي حال السماح لها أن تتخطى الأسلاك الشائكة عبر الحدود دون تأشيرة وتأخذ طريقها إلى قلب ميدان التحرير وتشعل مياه النيل في القاهرة !

إن حالة الفقر التي سادت دولة كبيرة بإمكانياتها ومواردها وجغرافيتها مثل مصر شيء لا يصدقه عقل، حيث أنه تزامن مع ارتفاع مؤشر الترف الفاحش عند القلة القليلة التي كانت متصلة بهرم النظام وتقبض بقبضة من التزوير على زمام كل شيء، حيث أصبح الأمر كله يدار بالوساطة والمحسوبية والرشوة والصلة بدوائر الحزب الحاكم، وهو في النهاية ما أحبط الكثير من شباب مصر وأفقدهم الثقة في أن ينالوا ولو الشيء اليسير من خيرات بلادهم، فمنهم من هاجر بخبرته وعقله في مناكب الأرض يبحث عن الكرامة والحرية قبل الخبز، ومنهم من حال الموج بينه وبين الهجرة فمات الأمل في قلبه واشتعل رأسه بشيخوخة اليأس وهو في العشرين أو الثلاثين من عمره.

وهذا الفقر الذي نتحدث عنه إنما هو الغلاف الخارجي الذي قد نرى من خلاله ذلك الحدث الجلل، ولكن النقطة الغائبة في بحر ثورة الشعب المصري ، أنها ليست ثورة الجياع التي انطلقت من بطون خاوية تبحث عن فتات تمنع به صرخة الجوع، أو شربة ماء تطفأ بها لهيب الظمأ، وإنما هي ثورة انطلقت من قلوب قد لذعت بوضع سياسي بائس وافق وضع اجتماعي مسدود، وقفت فيه عصبة مفتونة بالسلطة والثورة أمام مستقبل جيل بأكمله بعدما وئدت من قبله عشرات الأجيال في رمال الفساد الاقتصادي، وبحور الاستبداد السياسي، وأنهار من القهر الاجتماعي.

لقد أراد هذا الجيل أن يثور، لا من أجل كسرة الخبز، وشربة ماء،ولكنه أراد أن يثأر لأجيال خلت ماتت كمداً وحسرة، ولبلد يراه يحتضر بين يديه، فهب منتفضاً بعدما تفننوا في فتنته، وحسبوا أنه مات كغيره من الأجيال التي تلوثت بدمائه أيديهم، فإذا به عصي على الموت إلا موتاً كريما تحيا من بعده الأمة المصرية.

إنه الجيل الذي لم يرتض لنفسه مجرد حياة لامعنى لها منزوعة الكرامة، فبحث عن معنى الحياة الكريمة، فوجد الطريق إليها مليئا بعقبات وعثرات، فشمر عن ساعديه وآثر الموت على حياة تعيشها كافة الكائنات، فكانت إرادة الله أن تُكتب على يديه لهذه الأمة تاريخاً مجيداً وحياة محفوفة بالأمل تشرئب إليها أقطار العالم العربي من حوله وتغبطه عليها شعوب أخرى .

وربما ظهر جلياً لمن يجيد القراءة بين السطور محاولة هروب الرئيس المصري السابق حسني مبارك، وهي شبح الطريقة المخزية التي فرَّ بها الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، ورغم كم العاطفة التي تعمد الرئيس مبارك ضخها في ثنايا خطابه الأخير عندما أكد أنه سيموت على ثرى مصر، إلا أن الفساد الذي تغلغل في النظام وأصاب الحياة المصرية بالعطل جعل من المستحيل على أي كان في ميدان التحرير أو غيره أن يتراجع لمدة ستة أشهر ويترك للرئيس فرصة لإصلاح ما أفسدته السلطة والرشوة والواسطة واستشراء الاختلاس طوال ثلاثين عاماً عجافاً مضت.

ربما كانت الخدمات المتهالكة والظروف الاجتماعية الاقتصادية الصعبة والولاء الكامل للولايات المتحدة ومن خلفها إسرائيل كفيلة بأن تخرج الشعب المصري عن صمته الذي حسبه الكثيرون خرساً لا شفاء منه، ولكن مازاد الطين بلة إصرار الرئيس نفسه بإيعاز من الغرب أن يتولى نجله جمال - ليبرالي التوجه- دفة الحكم ويدير بنزعته البريطانية شؤون البلاد والعباد، وهو ما ظهرت بوادره في التفاف رجال المال الأثرياء حوله مستفيدين بكل الامتيازات دون غيرهم من أبناء الشعب المصري، وعقب ذلك انتخابات برلمانية مزورة بامتياز فاضح سكت عنه الغرب الليبرالي المكيافيلي رعاية لمصالحه، تلك الانتخابات التي أقصي فيها الإسلاميون ودخل بعضهم السجن بحجة التطرف والإرهاب، وهي حجة جوفاء كالطبل تماماً، وحينها يتغلغل الليبراليون أكثر مما مضى فأهلكوا بشراهتهم بالسلطة والمال الحرث والنسل وأصبح الفقير في مصر يتمتم في نفسه وهو يطيل البحث عن رغيف الخبز متحسراً بالقول: أسمع جعجعة ولا أرى طحناً .

لقد استعان النظام المصري بقوات الأمن المتعجرفة وبالرعاع والبلطجية كما يقال عنهم والجمال والأحصنة ضد الشباب الأعزل في محاولة لإفشال هذه المظاهرة السلمية التي لم تحمل السلاح ولم تسفك الدماء، في حين أن الداخلية المصرية هي من سفكت الدماء وقتلت شباباً عزلاً لا يحملون حتى الحجارة في أيديهم !

لقد استعان الشباب المصري بحول الله وقوته ضد الظلم والفساد ثم بالتقنيات الحديثة عبر وسائل الاتصال والإنترنت فوصل صوتهم إلى العالم ونشروا مقاطع دهست فيها سيارات الشرطة أجساد الشباب وقتلتهم بدم بارد .. كما شاهد العالم أيضاً بالصوت والصورة قنص هؤلاء الأبرياء بصورة بشعة تهز الوجدان وتبكي العيون .. وكأن المشهد انتقل من قلب القاهرة إلى تل أبيب.

والآن وقد انجلى المشهد عن انتصار الشعب الأعزل بإرادته القوية في ثمانية عشرة يومًا من الصبر المتواصل ليلاً ونهاراً، يؤازرهم العلماء والمصلحون الذين حملوا أكفانهم وتدثروا بها في الميدان مع المعتصمين، رغم الإشاعات والأكاذيب التي انطلقت من أفواه الإعلام الليبرالي الفاجر في خصومته، الذي عاد الآن دون ذرة حياء يذكر ويمجد في شهداء الثورة كما يسميهم ويتباكى عليهم ويتنصل مرغماً من تبعيته لرموز الفساد، أصبح على الجميع أن يعوا الدرس جيداً وأن يتصالحوا مع شعوبهم وأن يحكموا بين الناس بالعدل والقسط.

ومما تجدر الإشارة إليه أن ننبه النخبة المصرية ولا سيما العلماء والمفكرين الإسلاميين إلى ما سبق أن أقترحه الدكتور محمد السعيدي في مقاليه المنشورين في لجينيات وخلاصته أن على هذه النخبة تدارك الأمر قبل فوات الأوان وتوجيه مطالب الشعب إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وإعلاء كلمة الله في أرض الكنانة قبل أن تختطف ثمار الثورة أيدي الليبراليين والعلمانيين والقوميين الذين جربتهم الأمة العربية والإسلامية عقوداً طويلة فلم تجن ِ منهم إلا مزيداً من العبودية للغرب وفكره ومزيداً من الذلة والهوان لأعداء الأمة الإسلامية فإن العمل من قبل هذه النخبة على تطبيق هذا المطلب في هذا الظرف الحرج أمر في غاية الأهمية على اولئك العلماء والمفكرين .

وإن الليالي حبالى تلد كل عجيب..!
المصدر: موقع المختار الإسلامي