(7) معركة اليمامة
هذه أول معركة يقودها بنفسه، فقاد المعركة بنفسه رضي الله عنه وأرضاه، فخرج على رأس الجيش، وأشار عليه بعض الصحابة أن يبقى بالمدينة، حتى إذا قتل لا ينفك أمر المسلمين، إلا أنه أصر على الخروج، وجعل على ميمنته النعمان بن مقرن، وعلى الميسرة عبد الله بن مقرن....
- التصنيفات: التاريخ والقصص - التاريخ الإسلامي - سير الصحابة -
تقع في شمال المدينة مباشرة على بُعد أميال قليلة من المدينة قبائل عبس، وذبيان، وهذه القبائل بمجرد خروج جيش أسامة بن زيد إلى منطقة الشمال، ولقربها من المدينة، عرفت أنها بدون جيش يحميها، وأن هذا الجيش هو كل طاقة المدينة، فخرجت جيوش عبس وذبيان تترصد للمدينة، وهجموا بالفعل على المدينة، وعلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن الجيوش تترصد المدينة لتهجم عليها، فما كان من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، إلا أن جهز بقية الصحابة الموجودين بالمدينة، ليحاربوا هؤلاء القوم، ولا ينتظرهم حتى يدخلوا عليهم المدينة، وجعل نفسه رئيسًا للجيوش..
وهذه أول معركة يقودها بنفسه، فقاد المعركة بنفسه رضي الله عنه وأرضاه، فخرج على رأس الجيش، وأشار عليه بعض الصحابة أن يبقى بالمدينة، حتى إذا قتل لا ينفك أمر المسلمين، إلا أنه أصر على الخروج، وجعل على ميمنته النعمان بن مقرن، وعلى الميسرة عبد الله بن مقرن، وعلى المؤخرة سويد بن المقرن، وخرج الجيش في آخر الليل، وعسكر الجيش قرب جيوش عبس وذبيان، ولم تعرف عبس وذبيان أن أبا بكر وصل إلى هذا المكان، حتى إذا صلى المسلمون صلاة الفجر، هجموا على جيوش عبس وذبيان، وانتصروا عليهم انتصارًا عظيمًا، ولم يكتفوا بالانتصار فقط، بل طاردهم أبو بكر حتى منطقة تسمى ذا القصة على بعد أميال، وتتبع الفارين منهم، وأهلك منهم الكثير، وعاد بجيشه إلى المدينة المنورة، فكان لهذا الأمر الأثر الكبير على الجزيرة العربية، فلم يجرؤ أحد أن يهاجم المدينة مرة أخرى.
الإعداد لحرب المرتدين:
بدأ الصديق رضي الله عنه في إعداد الأمر كخير ما يمكن أن تعد أمور الحرب، فقام بأمور عظيمة، وتجهيزات مهيبة، وفي وقت محدود، لقد كان الصديق رضي الله عنه رجلاً بأمة.
قام الصديق أولاً بحراسة المدينة المنورة حراسة مستمرة، فوضع الفرق العسكرية في كل مداخل المدينة، وكان على رأس هذه الفرق علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وكانت هذه الفرق تقوم بحراسة المدينة بالتناوب ليلاً ونهارًا، وقامت بالفعل بصد بعض الهجمات الليلة التي قام بها المرتدون، ثم قام الصديق رضي الله عنه بعد خطوة تأمين المدينة عسكريًّا بمراسلة كل القبائل التي بقيت على الإسلام لتوافيه في المدينة المنورة، وأقام معسكرًا للجيوش الإسلامية في شمال المدينة في منطقة تعرف بذي القصة على بعد أربعة عشر ميلاً، فجاءت الوفود الإسلامية من مكة، والطائف، وجاء المسلمون الذين لم يرتدوا من قبائل غفار، وأسلم، وجهينة، ومزينة، وكعب، وطيِّئ، وبجيلة، وغيرها.
وأرسل الصديق رضي الله عنه رسائل شديدة اللهجة إلى كل قبائل المرتدين يدعوهم فيها إلى العودة إلى ما خرجوا منه، وإلا حاربهم أشد المحاربة، وهدد في هذه الرسائل، وتوعد، وذلك ليلقي الرهبة في قلوبهم، كنوع من الحرب النفسية على المرتدين.
وبدأ الصديق رضي الله عنه في تجهيز مجموعة من الجيوش الإسلامية التي ستخرج لحرب المرتدين في وقت متزامن، فجهز أحد عشر جيشًا كاملاً، ومع أن كل جيش لم يَعْدُ أن يكون ألفين أو ثلاثة، أو بالكاد خمسة آلاف، ولكنها كانت جيوشًا منظمة، راغبة في الجهاد، مستعدة للموت، فاهمة لقضيتها، معتمدة على ربها، ومن كانت هذه صفته فيرجى له النصر إن شاء الله، وحدد الصديق رضي الله عنه اتجاه كل جيش من هذه الجيوش الأحد عشر.
وإذا درست خريطة توزيع تحركات هذه الجيوش، فستدرك بوضوح مدى دقة الصديق رضي الله عنه، ومهارته، وعبقريته، وعلمه، وتوفيقه، فقد وُزعت هذه الجيوش على الجزيرة توزيعًا دقيقًا، بحيث تستطيع تمشيط كل رقعة منها تمشيطًا كاملاً، فلا تبقى قبيلة، أو منطقة، إلا وفيها من جيوش المسلمين.
واختار الصديق رضي الله عنه لقيادة كل جيش رجلاً من عمالقة الحرب في الإسلام، ووجهه إلى وجهة معينة، وذكر له تفصيلاً أنه لو تم له النصر فإلى أين سيتجه بعد ذلك؛ فالجيوش تتجمع أحيانًا، وتتفرق أحيانًا أخرى، وذلك لسد كل الثغرات.
وكانت قيادة الجيوش الإسلامية، ومسارح عملياتها على هذه الصورة:
الجيش الأول بقيادة خالد بن الوليد:
كان أبو بكر قد اختار للإمارة في بادئ الأمر زيد بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أخو عمر بن الخطاب، ولكنه رفض متعللاً بأنه يرجو أن يكون شهيدًا، ولا يحق للأمير أن يقاتل وهو حريص على الشهادة، حتى لا يعرض جيشه للخطر.
ثم عرض الإمارة بعد ذلك على سالم مولى أبى حذيفة، ورفض أيضًا متعللاً بما تعلل به زيد بن الخطاب.
ثم عرض الإمارة على أبي حذيفة، لكنه هو الآخر لم يوافق.
وكان آخر من عرض عليه أبو بكر الإمارة هو خالد بن الوليد، أمّره أبو بكر الصديق فرفض خالد، فأصر أبو بكر على توليته، فقاد خالد بن الوليد رضي الله عنه ذلك العبقري المسلم الفذ الجيش الأول من المدينة إلى قبيلة أسد، وكان عدد الجيش أربعة آلاف مجاهد وكان أكبر الجيوش، إلا أن المهمة كانت صعبة، فقد كان متجهًا إلى حرب طيئ أولاً، ثم بني أسد، تلك القبيلة الخطيرة التي يقودها طليحة بن خويلد الأسدي، ثم بني تميم، وفيهم مالك بن نويرة، فإذا انتهى من كل هذا بنجاح فإن عليه أن يتوجه إلى بني حنيفة، لمقابلة أخطر جيوش المرتدين، وعلى رأسها مسيلمة الكذاب، وذلك لمساعدة الجيشين الثاني والثالث، وكان على هذا الجيش المكوَّن من أربعة آلاف مقاتل أن يلتقي بالجيش الذي جهزه طليحة بن خويلد في قبيلة أسد، وعدده ستة آلاف مقاتل.
وكان مع خالد في جيشه عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه، فلما مرَّ المسلمون على قبائل طيئ، وهي قبيلة عدى بن حاتم، وقد ارتدت معظم القبيلة إلا فرعين أحدهما يُدعى غوث، والآخر يسمى جديلة.
وأراد خالد بن الوليد أن يغير على قبيلة طيئ المرتدة، فقال له عدي بن حاتم: أعطني يومًا أكلمهم لعلهم يرجعون.
فذهب، وكانت قبيلة طيئ على مشارف الردة، فوقف عدى بن حاتم في منطقة غوث، وحضهم على الإيمان فوافقت القبيلة، وثبتت على إسلامها، وأتى منها بخمسمائة رجل مجاهد لم يرتدوا، ورجع بهم إلى جيش المسلمين، فأصبح الجيش الإسلامي أربعة آلاف وخمسمائة، وأراد خالد أن يكمل مسيره، فقال له عدي بن حاتم: أتحب أن أقاتل معك بيد أم بيدين؟ فقال: بل بيدين.
فقال له: فإن غوث إحدى يدي، وجديلة الأخرى، فأعطني فرصة مع جديلة.
فذهب عدي بن حاتم لجديلة، وكلمها، فثبتت على إسلامها أيضًا، فأتى منها بخمسمائة رجل، فأصبح جيش المسلمين خمسة آلاف مقاتل، فكان كما يقول الرواة: أَبْرَك رجل في قومه.
فانطلق خالد إلى طليحة الأسدي، ودخل معهم خالد بن الوليد في قتال شديد ستة آلاف ضد خمسة آلاف، فإلى حد ما، كانت الموقعة متكافئة بالإضافة إلى أن جيش المسلمين فيه من العقيدة ما يهزم جيش طليحة بن خويلد، وهزمهم خالد هزيمة نكراء، وفر منهم الكثير، وتتبع خالد بن الوليد الفارين من الجيش إلى مناطق كثيرة، وممن فر، طليحة بن خويلد نفسه، فر هو وامرأته إلى الشام، ثم بعد ذلك أراد الله له الخير، فأسلم وشارك في الفتوح وجاهد جهادًا عظيمًا في فتوح فارس، وكانت له مواقف مشرفة في هذه المعارك، فمن ادعاء النبوة إلى الجهاد العظيم، الحمد لله أنه فر في هذا اليوم.
خالد بن الوليد جاءه أمر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه إذا انتصر فعليه أن يقتل كل من قتل مسلمًا، فهناك بعض القبائل ارتدت فقتلت من ثبت من المسلمين.
وتقول الروايات إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في الخطاب الذي بعثه، أنه سمح لأمراء الجيوش أنهم إذا دخلوا على هذه القرى أن يحرقوا المرتدين بالنار، وأن يميتوهم شر ميتة، فيلقوهم من شواهق الجبال، ويرجموهم بالحجارة، وهذه كلها أساليب ما تعودها المسلمون في حربهم، ولكن الأمر كان شديدًا جدًّا، فالجزيرة العربية كلها مرتدة، وكان الصديق يريد أن يرهب أعداء الله.
والرسالة طويلة بعثها أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى كل أمراء الجيوش يقول في آخرها:
وأمرته أن لا يقاتل أحدًا حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن دخل في دين الله، وعمل صالحًا قَبِل ذلك منه، ومن أبى فلا يُبقي على أحد، ويحرقهم بالنار، ويسبي الذراريّ، والنساء.
وصل خالد بعد ذلك إلى قبيلة بني تميم، فوجدهم دخلوا في الإسلام كما خرجوا منه، لما رأوا انتصار المسلمين على جيوش بني أسد، وكان الصديق قد أوصى أمراء الجيوش أنهم إذا سمعوا الأذان في الحي، وإقامة الصلاة نزلوا عليهم، فإن أجابوا إلى أداء الزكاة، وإلا الغارة، فجاءت السرية حي مالك بن نويرة، أسر خالد بن الوليد مجموعة منهم مالك بن نويرة نفسه، وهناك اختلاف شديد على تصرف خالد بن الوليد في مالك بن نويرة، وبعض الأسرى الآخرين والتفسير الأقرب إلى الصحة أن خالد بن الوليد قال لبعض الحراس الذين يحرسون الأسرى: ادفئوا أسراكم.
لأنها كانت ليلة شديدة البرد، ولكن مجموعة من الحراس في لغتهم إذا قالوا: ادفئوا الرجل. يعنون: اقتلوه، فقتلوا الأسرى، وبدءوا بمالك بن نويرة قائد القوم، فقتلوا منهم عددًا، حتى بلغ خالد بن الوليد ذلك، فقال: حسبكم.
وبعض الروايات تقول إنه تعمد قتلهم، وبعض المستشرقين يقول: إن خالد بن الوليد كان يريد أن يتزوج من زوجة مالك بن نويرة، فقتله لهذا السبب.
وكان في السرية أبو قتادة الأنصاري، فغضب، ومضى حتى أتى أبا بكر، فغضب عليه أبو بكر، حتى كلمه فيه عمر، فلم يرض إلا أن يرجع إلى خالد، ويقيم معه، فرجع إليه، ولم يزل معه، حتى قدم خالد المدينة.
استدعى أبو بكر الصديق خالد بن الوليد ليناقشه في ذلك الأمر، ويستجوبه على ما فعله مع مالك بن نويرة، وأصحابه، وفسر خالد بن الوليد الأمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقبل منه الصديق رضي الله عنه، وأعاده أميرًا على جيش آخر بعد أن قام بما أمره رضي الله عنه في حرب قبيلة أسد، وقبيلة بني تميم، وانتصر في المعركتين انتصارًا ساحقًا.
فما كان لأبي بكر الصديق أن يؤمّر خالد بن الوليد مهما كانت الأمور صعبة، ومهما كان الموقف شديد على المسلمين، وهو قاتل ظالم، أو يفعل معصية كهذه، يقتل رجل ليتزوج زوجته، طبعًا هذا أمر شديد جدًّا في حق رجل كخالد بن الوليد، وكلنا يعلم أداء خالد بن الوليد في الإسلام، وهو سيف من سيوف الله، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الأقرب إلى الصواب، وهذا هو الأقرب إلى الظن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجيش الثاني بقيادة عكرمة بن أبي جهل:
وكان هذا الجيش متجهًا إلى قبيلة بني حنيفة التي فيها مسيلمة بن حبيب الكذاب، وحتى نستطيع أن نستوعب قيمة المعركة، وقيمة اتجاه الجيش الثاني والثالث المتجهَيْن إلى هذه القبيلة، نتحدث قليلاً عن تاريخ بني حنيفة، وكيف بدأت الردة في بني حنيفة؟
كيف انتقلوا من الإيمان إلى الكفر؟
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل وفاته، قدمت الوفود من كل الجزيرة العربية تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وكان من ضمن هذه الوفود، وفد بني حنيفة، جاء عدد كبير منهم، وكان قد أسلم منهم قبل ذلك ثمامة بن أثال، وهذا الرجل صحابي جليل من الذين آمنوا، وحسن إسلامهم، وهو لم يأت مع قومه، بل أَسَرَه محمد بن مسلمة، وهو قافل من غزوة القرطاء، وعامله الرسول صلى الله عليه وسلم بإحسان، فأسلم، ثم عاد إلى قومه، ثم أتى بمجموعة من قومه ليسلموا على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأتى القوم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبايعوه صلى الله عليه وسلم، وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاء قوم يبايعونه على الإسلام أن يعطيهم عطاءً، حتى يؤلف قلوبهم، فأعطاهم، فَقَالُوا: يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبًا لنا في رِحالِنا وفي رِكابِنا يحْفظها لنا.
يعني لم يأت معهم لهذه المبايعة، ولكنه ظل مع متاعهم، وإبلهم خارج المدينة؛ ليقوم بحراستها، وكان مسيلمة بن حبيب هو الذي ظل مع متاعهم ليحرسها لهم، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال: «أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرّكُمْ مَكَانًا».
أي لحفظه ضيعة أصحابه، وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوه بما أعطاه، فلما انتهَوْا إلى اليَمَامَةِ ارْتَدّ عَدُوّ الله، وَتَنَبّأَ، وَتَكَذّبَ لهم، وقال: إني قد أشركت في الأمر معه. وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذَكَرْتُمُونِي له: أما إنه ليس بشركم مكانًا؟
ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه.
ومسيلمة بن حبيب يشهد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي، ويشهد أنه رسول الله، لكنه يقول أنه أُشرك في الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوتي نصيبه من النبوة، كما أَوّله هو لنفسه، فقالوا له: ألا تدخل فتبايع.
فدخل يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد أن تركهم عند الإبل، فجلس مع أحد الناس من قبيلته، يحدثه، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أتى بعدُ فقال له: ألا تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبايعه أن يجعل لي الأمر من بعده.
فعلق شرط المبايعة أن يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم له الأمر من بعده، وكان صلى الله عليه وسلم يمر من ورائه، فسمعه، وهو يقول: أبايعه على أن يجعل لي الأمر من بعده.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في يده عود من جريد، وقيل كان معه سواك، فقال له: «يَا مُسَيْلِمَةَ، وَاللَّهِ لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْعُودَ مَا أَعْطَيْتُهُ لَكَ، وإني أرى فيك الذي أُريته ويحدثك ثابت بن قيس فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يحدثه».
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤية، فحدث بها الصحابة، وعلم بهذه الرؤية ثابت بن قيس، ولم يحدثه النبي صلى الله عليه وسلم لكفره الشديد، وترك ثابت بن قيس يكلمه، وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك مسيلمة فحدثه ثابت ابن قيس بالرؤيا التي رآها فكان الرسول صلى الله عليه وسلم، قد رأى في المنام أنه قد أوتي له بخزائن الأرض، وأنه يلبس في يديه سوارين من ذهب، فكرههما الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذهب محرم على الرجال، فكره أن يكون في يديه سوارين من ذهب فأوحي إليه أن انفخهما، وفى رواية أخرى أن جبريل قال له: انفخهما. فنفخهما، فطارا، وقد أولهما النبي صلى الله عليه وسلم أنهما كذابان يخرجان في قوم، فهذا أحدهما مسيلمة بن حبيب، ثم ظهر الكذاب الآخر، وهو الأسود العنسي في اليمن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما طليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة في قبيلة أسد، فقد ظهر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسجاح التي ادعت النبوة ظهرت بعد الرسول، أما في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ظهر مسيلمة بن حبيب والأسود العنسي.
عاد مسيلمة بن حبيب إلى بني حنيفة، وأخذ يدعو بدعوته أنه نبي، وقد أُشرك في الأمر مع محمد فآمن له بعض قومه، ثم أراد أن يكتب رسالة، أو خطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليُثبت دعائم نبوته في الجزيرة العربية، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة مع رجلين من قومه قد آمنا بدعوته يقول: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، إني قد أُشركت في الأمر معك، فلنا نصف الأرض، ولكم نصف الأرض، أو تجعل لي الأمر من بعدك، ولكني أعلم أن قريشًا قومًا يعدلون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجلين: «أَأَنْتُمَا عَلَى دَعْوَتِهِ؟»، فقالا: نعم. فقال: «لَوْلا أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَقَتَلْتكُمَا».
فحفظ دماءهما لأنهما رسوليْن، ثم أعاد الرسوليْن إلى مسيلمة بن حبيب، وكتب صلى الله عليه وسلم رسالة، وأعطاها إلى حبيب بن زيد أحد الصحابة الشباب، وقال له: «اذْهَبْ بِهَا إِلَى مُسَيْلِمَةَ».
قال في رسالته صلى الله عليه وسلم: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ -وهذه أول مرة يطلق عليه الكذاب- السَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».
فهذا الأمر ليس من اختيارك أنت، فقد اختار الله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يخترك، فما كان من مسيلمة الكذاب إلا أن أسر حبيب بن زيد رضي الله عنه، وقيده، فكان إذا قال له: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. وإذا قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع.
ففعل ذلك مرارًا، فقطعه مسيلمة عضوًا عضوًا، فمات شهيدًا رضي الله عنه، فكان هذا الأمر شديدًا على المسلمين؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل هذين المرتدين؛ لأنهما رسولان مع أن المرتد يحل دمه، ومع ذلك حفظ الرسول الله صلى الله عليه وسلم دمهما ولم يقتلهما، ولكن هذا الرجل المرتد قتل الصحابي الجليل، فشق ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث له جيشًا يقاتله، أو يرده إلى الإسلام، ولكنه في ذلك الوقت صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً بتجهيز بعث أسامة بن زيد إلى حدود الشام، وكان ذلك قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعظم الصحابة كانوا في جيش أسامة، فلم يكن هناك وقت، ولا قوة، وطاقة ليبعثها إلى بني حنيفة، وكان قد ارتد مع مسيلمة في ذلك الوقت جموع غفيرة تقدَّر بعشرة آلاف.
وقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل إلى بني حنيفة مَن يردهم للإسلام، ويُعلمهم، فاختار رجلاً منهم؛ حتى يكون أقرب للسان قومه، ولعلهم يستجيبون له أكثر من غيره، وهو صحابي اسمه نهار الرجال، أو نهار بن عنفوة، وكان قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة، وكان قد حفظ من القرآن الكثير، وكان مما حفظه سورة البقرة، فكان من أهل البقرة، وكان أهل البقرة معروفين بالمدينة؛ وذلك لفضل سورة البقرة، فوثق الرسول صلى الله عليه وسلم من دينه، وأرسله حتى يُعلم بني حنيفة الإسلام، فأتى هذا الرجل مسيلمة الكذاب في خيمته، وجلس معه طويلاً، فاجتمع بنو حنيفة حول الخيمة؛ ليعرفوا ما الذي يسفر عنه اجتماع مبعوث محمد صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة؟
وهل مسيلمة على الحق؟
وهل أُشرك في الأمر مع محمد صلى الله عليه وسلم كما يقول؟
أم أن محمدًا قد بعث من يُكذّبه؟
اجتمع القوم مسلمهم ومرتدهم حول خيمة مسيلمة، وطال الحديث بين مسيلمة الكذاب وبين نهار الرجّال، ثم خرج نهار الرجال فسأله القوم: ما يقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسيلمة؟
وكان القوم يعتقدون أن محمدًا رسول الله حتى المرتد منهم، ولكنهم يزعمون أن مسيلمة أشرك في الأمر معه، حتى إنهم ما زالوا يصلون الصلوات، فإذا بالرجال يقول: لقد أُشرك مسيلمة في الأمر مع محمد. وارتد الرجل.
وفي هذا الموقف يجدر بنا القول: أن الحق لا يُعرف بالرجال، مسيلمة بن حبيب الكذاب كان قد قال من الآيات الكثير التي هي من سخافات القول، أو من خرافات القول، فكيف صدق هؤلاء القوم ذلك الكذاب، ثم كانت فتنة أكبر حين خرج عليهم نهار بن عنفوة بكذبه، وردته هو الآخر، وهو مبعوث محمد صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة، وفي هذا اليوم فقط ارتد من بني حنيفة أربعون ألفًا، فأصبح جيش مسيلمة خمسين ألفًا، وانقسمت بنو حنيفة..
فخمسون ألفًا على الإسلام، وخمسون ألفًا ارتدوا، أربعون ألفًا منهم في يوم واحد على يد هذا الرجل نهار الرجال، فسبحان الله لا يأمن أحد شر الفتنة، فبعد أن جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحفظ البقرة، ارتد بعد أن وعده مسيلمة الكذاب بإمارة، ووزارة، فارتد، واختار أن يعيش حياة الكفر مع هذا الكذاب المرتد، فقويت شوكة مسيلمة بن حبيب الكذاب، وأصبح له جيش تعداده خمسون ألفًا، وانقلبوا على المسلمين من قبيلتهم يعذبونهم، وكان فيهم ثمامة بن أثال الصحابي الجليل، فبدأ ثمامة بن أثال يقاتل مسيلمة الكذاب، لكن قوة مسيلمة الكذاب كانت قوية، فالمسلمون الموجودون في بني حنيفة لم يقاتلوا كلهم مع ثمامة بن أثال، فمجموعة منهم قاتلوا معه، ومجموعة أخرى كانت منتظرة النتيجة، هم مسلمون، لكنهم لم يقاتلوا الكذاب مع ثمامة.
وفي هذه اللحظة يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصلت الأنباء إلى بني حنيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد توفي، فارتدت بقية القبيلة، الخمسون ألفًا الباقية، وأصبحت القبيلة كلها مرتدة، ولم يبق فيها إلا قلة قليلة جدًّا، ثمامة بن أثال مع بعض الناس، فهربوا من القبيلة.
ففي غضون شهور ارتدت كل بني حنيفة، ووفد بني حنيفة جاء ليبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بقليل، ثم نهار الرجال ذهب إليهم في وقت بعث أسامة بن زيد، أي قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بشهر، أو شهرين، فارتد أربعون ألفًا، ثم بعد ذلك وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها بشهر، أو بأقل من شهر ارتد الخمسون ألفًا الباقية، فأصبح جيش مسيلمة الكذاب جيشًا عظيمًا.
لذلك فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وجه لها جيشين، جيش على رأسه عكرمة بن أبي جهل، والآخر على رأسه شرحبيل بن حسنة، وقال لعكرمة بن أبي جهل:
إذا أتيت بني حنيفة، فلا تقاتلهم حتى يلحقك جيش شرحبيل بن حسنة؛ لأنه يعلم أن جيش مسيلمة كبير، لكن الحقيقة أن أبا بكر لم يكن يعلم أن جيش مسيلمة بن حبيب وصل لمائة ألف، وقوة الصحابة بالمدينة كانت ضعيفة، فالجيش الأول حوالي ثلاثة آلاف، والجيش الثاني كان نفس العدد، وكانت هذه كل قوة المسلمين المتجهة إلى قبيلة بني حنيفة، وفي هذا الوقت كان خالد يحارب في الشمال قبيلة أسد وبني تميم.
فتعجل عكرمة بن أبي جهل في قتال مسيلمة قبل أن يأتيه شرحبيل بن حسنة، وقد قال الرواة عبارة قصيرة تعليقًا على هذه المعركة التي دارت بين عكرمة، ومسيلمة، قالوا: فكاد جيش مسيلمة أن يأكل جيش عكرمة بن أبي جهل.
مائة ألف أمام ثلاثة آلاف، فلو قاتل المائة ألف من غير أسلحة لهزموهم، فاجتاح جيش مسيلمة جيش عكرمة بن أبي جهل، ففر جيش عكرمة في البلاد، وتفرقوا في المنطقة من بني حنيفة حتى المدينة المنورة، ووصلت الأنباء إلى أبي بكر الصديق بالمدينة، فحزن حزنًا شديدًا، وعلم أن الجيش الإسلامي في طريقه إلى المدينة، فأرسل رسالة إلى عكرمة بن أبي جهل، ففي بداية الرسالة عَنَّفه بشدة على تسرعه في محاربة مسيلمة الكذاب، ثم قال له: لا ترجع بجيشك إلى المدينة، واتجه بجيشك إلى حذيفة بن محصن، وعرفجة بن هرثمة في اليمن، فقاتِل معهما.
وهذا من حكمة أبي بكر، وبُعد نظرته الحربية، فقد خشي إن عاد هذا الصحابي بجيشه الفارّ إلى المدينة أن يفت ذلك في عضد المسلمين بالمدينة، ويصور لهم الجيش عظمة جيش مسيلمة، فيرعب المسلمين الموجودين في المدينة المنورة، ولا يستطيع أبو بكر الصديق بعد ذلك إرسال جيش آخر إلى مسيلمة الكذاب، فأرسل له ليبتعد عن المدينة، ويتوجه بجيشه إلى اليمن؛ ليقاتل مع حذيفة وعرفجة بن هرثمة.
وبرغم خطئه لم يُقله عن إمرة الجيش، بل ظل أميرًا على جيشه، أخطأ عكرمة بن أبي جهل، ولكن ليس حق هذا الخطأ القتل، أو الإبعاد؛ لأنه يرى في عكرمة حكمة، ومهارة حربية، لكنه اجتهد فأخطأ في هذا الأمر، وأرسل رسالة إلى حذيفة بن محصن، وإلى عرفجة بن هرثمة يقول لهما: يأتيكما عكرمة بن أبي جهل، فإن أتاكما فاسمعا منه، فإن له رأيًا.
وجعل إمارة الجيوش إلى حذيفة بن محصن، وعمل أبو بكر على أن يقاتلوا متحدين حتى لا يقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه عكرمة في بني حنيفة، فوجههم إلى عمان في منطقه (دبا) ليقاتلوا المرتدين في منطقة عمان وإذا تم النصر، يتجهوا إلى مهرة وعلى رأسهم عرفجة بن هرثمة وسنأتي في تفاصيل تلك المعركة.
الجيش الثالث بقيادة شرحبيل بن حسنة:
يتقدم جيش شرحبيل بن حسنة، وكان تعداد جيشه ثلاث آلاف، فأرسل أبو بكر الصديق رسالة إلى شرحبيل بن حسنة يقول له: انتظر ولا تقاتل مسيلمة الكذاب، حتى أبعث إليك بمدد، أو أمر آخر.
فعسكر شرحبيل بن حسنة قرب بني حنيفة منتظرًا مدد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم يبدو له أن بني حنيفة في تعب، أو في إرهاق من قتالها مع عكرمة بن أبي جهل، فيجتهد شرحبيل بن حسنة اجتهادًا آخر، مع أن الأمر صريح، وواضح من أبي بكر الصديق، ولكنه هاجم قبل أن يصل له المدد القادم من أبي بكر الصديق.
هاجم شرحبيل بن حسنة بجيشه الصغير الذي لا يتجاوز تعداده الثلاثة آلاف مقاتل على جيش مسيلمة الذي قد بلغ تعداده بعد الردة مائة ألف، فيحدث مع جيش شرحبيل نفس الذي حدث مع عكرمة بن أبي جهل، وكاد جيش مسيلمة أن يأكل جيش شرحبيل بن حسنة أيضًا، وفر جيش شرحبيل بن حسنة في البلاد هو الآخر، سبحان الله، نفس ما حدث قبل ذلك، فالنتيجة واحدة في الجيشين، كما أن السبب واحد، وهو أن كلا الأميرين لم يسمعا ويطيعا لكلمة خليفة المسلمين، وكانت نتيجة معصية الأمير أن ألحق الأذى بالمسلمين كلهم، وشرحبيل بن حسنة من القادة المهرة جدًّا فهو من أقوى القادة، ومع ذلك قدّر الله جل جلاله أن اجتهد، وأخطأ في هذا الاجتهاد، وأبو بكر الصديق يحزن حزنًا شديدًا، ويرسل له أن امكث في مكانك، ولا ترجع إلى المدينة.
الجيش الرابع بقيادة خالد بن الوليد وموقعة اليمامة:
في الوقت الذي انهزم فيه جيش عكرمة، وجيش شرحبيل، كان خالد بن الوليد قد انتصر انتصاراته العظيمة في أسد، وفي تميم، وانتهت مهمته، وعاد إلى المدينة؛ ليحقق معه أبو بكر الصديق في حادث قتل مالك بن نويرة، ثم يقبل منه أبو بكر الصديق، ويدعو له بالخير، ثم يُؤمّره على جيش آخر، ليذهب هذا الجيش مع جيش شرحبيل بن حسنة بقيادة خالد بن الوليد لقتال مسيلمة الكذاب في بني حنيفة، ويصبح خالد بن الوليد هو المكلف الآن بقتال بني حنيفة، فيجمع خالد بن الوليد جيشه، وبعض الصحابة من المدينة، إلى جيش شرحبيل بن حسنة، ويتوجه الجميع إلى قبيلة بني حنيفة، وبعد خروج جيش خالد من المدينة، يرسل أبو بكر الصديق مددًا آخر إلى خالد بن الوليد، على رأسه سليط بن قيس أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلحق هذا المدد بخالد بن الوليد، فتصل هذه الجيوش، والمدد إلى اثني عشر ألف في أكثر تقدير، وتذكر بعض الروايات أنهم عشرة آلاف.
وفي الوقت الذي توجه فيه خالد من المدينة لمحاربة مسيلمة الكذاب كان هناك جيش آخر متجه من الشمال إلى بني حنيفة لقتالهم أيضًا، وعلى رأس هذا الجيش سجاح التي ادعت النبوة، فهو ليس جيشًا مسلمًا، بل إنه جيش مرتد، وهذا الجيش على أغلب التقديرات تعداده يصل إلى مائة ألف، فلم تكن قوة المرتدين قوة واحدة، بل كان هدف كل قوة السيطرة على الجزيرة العربية بمفردها.
فأتت سجاح إلى اليمامة مدعية أنه قد أوحي إليها أن تقاتل اليمامة أولاً؛ لأن قوة اليمامة أكبر من قوة المدينة، فقالت لأتباعها: عليكم باليمامة، دفوا لهم دفيف الحمامة، كأنها غزوة ذي صرامة.
وتدعي أن هذه آيات، قد أوحيت إليها، فتتجه الجيوش إلى اليمامة إلى مسيلمة الكذاب، فيعلم أنه قد أتته سجاح بجيوش عظيمة، وهو ينتظر خالد بن الوليد من الناحية الثانية، فخشي أن تجتمع عليه الجيوش.
عسكرت سجاح قبل اليمامة بقليل، فجمع مسيلمة الكذاب أربعين رجلاً من قومه، وذهب ليتفاوض مع هذه النبية، فالتقى معها في خيمتها، وتدور محادثات بين سجاح مدعية النبوة، ومسيلمة الكذاب مدعي النبوة، فقال لها: ماذا أُنزل عليك؟ فقالت: أو تبدأ النساء؟! فبدأ مسيلمة الكذاب يتلو عليها بعض آياته: لقد أنعم الله على الحبلى أن أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى.
وهناك آيات أخرى ذكرها ابن كثير وهي من الفواحش، وقالها لهذه المرأة، فقالت: أشهد أنك نبي. ثم قال لها: قولي لي من الآيات. فقالت له بعض آياتها، فآمن هو الآخر بها، فآمنت به، وآمن بها.
وعرضت عليه أن ترحل، ولا تحاربه شريطة أن يعطيها نصف ثمار اليمامة ففي بادئ الأمر وافقها، ثم عرض عليها أن يتزوجها، فقال: لو تزوجتك، فآكل بك العرب؟ فقالت: نعم. ولما وافقت على ذلك فقال لها: بذلك أوحي إلي. ثم عادت إلى قومها تنبئهم هذه الأنباء، وأن مسيلمة قد تزوجها، وأن الجيشين أصبحوا قوة واحدة، فقال لها قومها: وما صداقك؟ فاكتشفت أنه لم يعطها مهرًا، فقالوا: كيف لا يعطيك مهرًا وهو مسيلمة؟ فعاد له فريق من قومها يقولون له: وما صداق سجاح النبية؟
ففكر مسيلمة، هو لا يريد أن يتخلى عن ثمار اليمامة، فأعطاهم مهرًا طريفًا جدًّا، أرسل إلى المؤذن، وقال له: اذهب إلى قبيلة بني تغلب قبيلة سجاح، وقل لهم: إني وضعت عنكم صلاة العشاء، وصلاة الفجر.
وكان هذا صداق سجاح النبية، فكان شَرّ مهر في التاريخ، ولم يسمع به من قبل، وكان من قبل قد أحل لهم الخمر، وأحل لهم الزنا، ثم أتت الأنباء إلى اليمامة أن خالدًا على مشارف اليمامة، فلما علمت بذلك سجاح -وكان لخالد بن الوليد رهبة في قلوب كل العرب- فخشيت على نفسها، وعلى قومها من الهلكة، فرغم قلة جيش خالد بن الوليد، وكثرة جيش سجاح ومسيلمة، إلا أنها خشيت خشية شديدة، لدرجة أنها ذهبت لمسيلمة تعرض عليه أن يعطيها نصف ثمار اليمامة، ولا يفكر في أمر زواجهما، وترحل هي عن اليمامة، فخشي مسيلمة الكذاب أن تنقلب عليه إن هو رفض أن يعطيها نصف ثمار اليمامة، وخالد بن الوليد على الأبواب، فوافقها، وأعطى لها نصف ثمار اليمامة رغمًا عن أنفه، فأخذت نصف الثمار، وعادت إلى قومها، ويقال بعد ذلك أنها قد أسلمت في عهد عمر بن الخطاب، والبعض يقول أن إسلامها تأخر حتى عهد معاوية، ولكن الأقرب أنها أسلمت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ثم يأتي جيش خالد بن الوليد، وكان قائدًا محنكًا عظيم الخبرة في الحرب، وكان لخالد بن الوليد نظرة حربية ثاقبة، فأرسل العيون لينقلوا له الأخبار، ويتحسسوا له الطريق؛ ليكون على معرفة كبيرة بعدوه، ومن ضمن هذه العيون أرسل فرقة تتحسس الطريق في اليمامة، ووجدت في طريقها ستين رجلاً من بني حنيفة أرادوا أن يغيروا على بعض المسلمين حول بني حنيفة، فتقاتلوا مع هؤلاء الستين، وأسروهم، ولم يقتلوا واحدًا، وأتوا بهم إلى خالد، وكانت فرصة ليعرف خالد بن الوليد أخبار مسيلمة بن حبيب الكذاب، فتحدث معهم خالد، وسألهم: أتشهدون أن مسيلمة رسول الله؟ فقالوا: نعم، منا نبي، ومنكم نبي. فرغم أسرهم، وإحاطة جيش خالد بهم، إلا أنهم ثابتون على ردتهم، قال لهم خالد بن الوليد: إن لم تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله قتلتكم. فقالوا: منا نبي ومنكم نبي.
فأصروا على ردتهم، فبدأ رضي الله عنه وأرضاه يقتلهم، كما أمره أبو بكر الصديق، واحدًا تلو الآخر، لعل بعضهم يرجع عما يعتقده، لكنهم ثبتوا على ردتهم ثباتًا قد لا يثبت عليه بعض المسلمين، وقتل منهم تسعة وخمسين رجلاً، وبقي رجلاً، لكنه لم يرجع، وظل على ردته، وأراد خالد قتله، ولكن أشار عليه أحد المسلمين أن يحتفظ به أسيرًا؛ لأن له كلمة في قومه، وكان اسمه مجاعة بن مرارة، فقيَّده، ووضعه في خيمته، ووَكّل في إطعامه وشرابه زوجته، وقال لها: استوصي به خيرًا، فإنه أسير.
حتى مع أنه مرتد، لكنها أخلاق المسلمين، وترك خالد الأمر لزوجته؛ لأنه لا يستطيع أن يتنازل عن جندي واحد من المسلمين؛ لأن المسلمين اثنا عشر ألفًا، ثم تقدمت الجيوش الإسلامية ناحية بني حنيفة، وقسم جيشه، ورتب قواته، فجعل شرحبيل بن حسنة على المقدمة، وهذا أيضًا نظر حربي ثاقب من خالد بن الوليد يجعله على مقدمة الجيوش، رغم فراره، وعدم مواجهته لمسيلمة في بادئ أمره، إلا أن خالد يثق في قوته، وحنكته في الحرب، ثم يجعل على ميمنته زيد بن الخطاب، وعلى الميسرة أبا حذيفة، وكان أبو بكر الصديق قد عرض الإمارة على زيد بن الخطاب، وأبي حذيفة من قبل ورفضاها، فيحفظ لهما مكانتهما، ويضع زيد على إمارة الميمنة، ويضع أبا حذيفة على إمارة الميسرة، ثم فَرّق بين المهاجرين والأنصار، حتى يعلم المسلمون من أين يُؤتون، وليحفز المسلمين على القتال، وجعل على راية الأنصار ثابت بن قيس، وعلى راية المهاجرين سالم مولى أبي حذيفة، ويبقى خالد بن الوليد في منتصف الجيوش حتى يدير هو كل المعركة، وجعل فسطاطه في مؤخرة هذا الجيش، وفي داخل الفسطاط مجاعة الأسير، وزوجته تقوم برعايته، وجعل في مؤخرته سليط بن قيس، وكان من العادة أن هذه المؤخرة لا تقاتل في الحروب، وإنما دورها حماية ظهر الجيش، وقاتل هو بكل الجيش المقدمة والميمنة والميسرة ومنتصف الجيش الذي يوجد فيه بنفسه.
أما مسيلمة بن حبيب الكذاب فكانت عنده مجموعة كبيرة من الحصون، أكبرها يسمونه الحديقة، وله أسوار عالية، وكانت قوة مسيلمة كبيرة جدًّا لا تستوعبها هذه الحديقة، فخرج بجيشه خارج حديقته، وعسكر خارج اليمامة في منطقه تسمى عقرباء، وجهز جيشه، وجعل على ميمنته محكم بن الطفيل، وهو وزير مسيلمة، اتخذه وزيرًا منذ ادّعى النبوة، وجعل على الميسرة نهار الرجال الذي ارتد مع مسيلمة، وبقي مسيلمة نفسه في مؤخرة جيشه، ووضع خيمته على باب حصنه، حتى إذا حدثت هزيمة يدخل هو الحصن، وكان هناك بعض الحصون الأخرى، وضعوا فيها النساء والأطفال.
واقترب خالد بن الوليد، وبدأت موقعة اليمامة، وتعد هذه المعركة من المعارك القليلة التي من الممكن على ضوئها أن يتغير التاريخ، فلنتذكر هذه الموقعة دائمًا، هناك بعض المواقع الكثيرة تحدث وتنتهي ولا يتغير شيء بعدها، وهناك بعض المواقع التي تغير وجه التاريخ، ومن هذه المواقع الفارقة ليس في التاريخ الإسلامي فحسب، بل في تاريخ البشرية كلها موقعة اليمامة الحل لهم الخمر، وأحل لهم الزنا، ثم أتت الأنباء إلى اليمامة أن خالدًا على مشارف اليمامة، فلما علمت بذلك سجاح -وكان لخالد بن الوليد رهبة في قلوب كل العرب- فخشيت على نفسها، وعلى قومها من الهلكة، فرغم قلة جيش خالد بن الوليد، وكثرة جيش سجاح ومسيلمة، إلا أنها خشيت خشية شديدة، لدرجة أنها ذهبت لمسيلمة تعرض عليه أن يعطيها نصف ثمار اليمامة، ولا يفكر في أمر زواجهما، وترحل هي عن اليمامة، فخشي مسيلمة الكذاب أن تنقلب عليه إن هو رفض أن يعطيها نصف ثمار اليمامة، وخالد بن الوليد على الأبواب، فوافقها، وأعطى لها نصف ثمار اليمامة رغمًا عن أنفه، فأخذت نصف الثمار، وعادت إلى قومها، ويقال بعد ذلك أنها قد أسلمت في عهد عمر بن الخطاب، والبعض يقول أن إسلامها تأخر حتى عهد معاوية، ولكن الأقرب أنها أسلمت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ثم يأتي جيش خالد بن الوليد، وكان قائدًا محنكًا عظيم الخبرة في الحرب، وكان لخالد بن الوليد نظرة حربية ثاقبة، فأرسل العيون لينقلوا له الأخبار، ويتحسسوا له الطريق؛ ليكون على معرفة كبيرة بعدوه، ومن ضمن هذه العيون أرسل فرقة تتحسس الطريق في اليمامة، ووجدت في طريقها ستين رجلاً من بني حنيفة أرادوا أن يغيروا على بعض المسلمين حول بني حنيفة، فتقاتلوا مع هؤلاء الستين، وأسروهم، ولم يقتلوا واحدًا، وأتوا بهم إلى خالد، وكانت فرصة ليعرف خالد بن الوليد أخبار مسيلمة بن حبيب الكذاب، فتحدث معهم خالد، وسألهم: أتشهدون أن مسيلمة رسول الله؟ فقالوا: نعم، منا نبي، ومنكم نبي. فرغم أسرهم، وإحاطة جيش خالد بهم، إلا أنهم ثابتون على ردتهم، قال لهم خالد بن الوليد: إن لم تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله قتلتكم. فقالوا: منا نبي ومنكم نبي.
فأصروا على ردتهم، فبدأ رضي الله عنه وأرضاه يقتلهم، كما أمره أبو بكر الصديق، واحدًا تلو الآخر، لعل بعضهم يرجع عما يعتقده، لكنهم ثبتوا على ردتهم ثباتًا قد لا يثبت عليه بعض المسلمين، وقتل منهم تسعة وخمسين رجلاً، وبقي رجلاً، لكنه لم يرجع، وظل على ردته، وأراد خالد قتله، ولكن أشار عليه أحد المسلمين أن يحتفظ به أسيرًا؛ لأن له كلمة في قومه، وكان اسمه مجاعة بن مرارة، فقيَّده، ووضعه في خيمته، ووَكّل في إطعامه وشرابه زوجته، وقال لها: استوصي به خيرًا، فإنه أسير.
حتى مع أنه مرتد، لكنها أخلاق المسلمين، وترك خالد الأمر لزوجته؛ لأنه لا يستطيع أن يتنازل عن جندي واحد من المسلمين؛ لأن المسلمين اثنا عشر ألفًا، ثم تقدمت الجيوش الإسلامية ناحية بني حنيفة، وقسم جيشه، ورتب قواته، فجعل شرحبيل بن حسنة على المقدمة، وهذا أيضًا نظر حربي ثاقب من خالد بن الوليد يجعله على مقدمة الجيوش، رغم فراره، وعدم مواجهته لمسيلمة في بادئ أمره، إلا أن خالد يثق في قوته، وحنكته في الحرب، ثم يجعل على ميمنته زيد بن الخطاب، وعلى الميسرة أبا حذيفة، وكان أبو بكر الصديق قد عرض الإمارة على زيد بن الخطاب، وأبي حذيفة من قبل ورفضاها، فيحفظ لهما مكانتهما، ويضع زيد على إمارة الميمنة، ويضع أبا حذيفة على إمارة الميسرة، ثم فَرّق بين المهاجرين والأنصار، حتى يعلم المسلمون من أين يُؤتون، وليحفز المسلمين على القتال، وجعل على راية الأنصار ثابت بن قيس، وعلى راية المهاجرين سالم مولى أبي حذيفة، ويبقى خالد بن الوليد في منتصف الجيوش حتى يدير هو كل المعركة، وجعل فسطاطه في مؤخرة هذا الجيش، وفي داخل الفسطاط مجاعة الأسير، وزوجته تقوم برعايته، وجعل في مؤخرته سليط بن قيس، وكان من العادة أن هذه المؤخرة لا تقاتل في الحروب، وإنما دورها حماية ظهر الجيش، وقاتل هو بكل الجيش المقدمة والميمنة والميسرة ومنتصف الجيش الذي يوجد فيه بنفسه.
أما مسيلمة بن حبيب الكذاب فكانت عنده مجموعة كبيرة من الحصون، أكبرها يسمونه الحديقة، وله أسوار عالية، وكانت قوة مسيلمة كبيرة جدًّا لا تستوعبها هذه الحديقة، فخرج بجيشه خارج حديقته، وعسكر خارج اليمامة في منطقه تسمى عقرباء، وجهز جيشه، وجعل على ميمنته محكم بن الطفيل، وهو وزير مسيلمة، اتخذه وزيرًا منذ ادّعى النبوة، وجعل على الميسرة نهار الرجال الذي ارتد مع مسيلمة، وبقي مسيلمة نفسه في مؤخرة جيشه، ووضع خيمته على باب حصنه، حتى إذا حدثت هزيمة يدخل هو الحصن، وكان هناك بعض الحصون الأخرى، وضعوا فيها النساء والأطفال.
واقترب خالد بن الوليد، وبدأت موقعة اليمامة، وتعد هذه المعركة من المعارك القليلة التي من الممكن على ضوئها أن يتغير التاريخ، فلنتذكر هذه الموقعة دائمًا، هناك بعض المواقع الكثيرة تحدث وتنتهي ولا يتغير شيء بعدها، وهناك بعض المواقع التي تغير وجه التاريخ، ومن هذه المواقع الفارقة ليس في التاريخ الإسلامي فحسب، بل في تاريخ البشرية كلها موقعة اليمامة التي غيرت وجه التاريخ.
مشاهد من داخل معركة اليمامة:
التقى الجيشان، وكان جيش مسيلمة الكذاب في منتهى القوة، فتعداده مائة ألف مقاتل، وجيش خالد بن الوليد اثنا عشر ألف، فبالنسبة لجيش مسيلمة، وبالحسابات الدنيوية فهو ضعيف، وفي بداية المعركة يهجم جيش مسيلمة هجومًا شديدًا على جيش المسلمين، واخترقوا جيش المسلمين حتى وصلوا إلى فسطاط خالد بن الوليد الذي هو قبل مؤخرة الجيش، ودخلوا خيمة القائد، وحرروا مجاعة، وكادوا أن يقتلوا زوجة خالد بن الوليد، لولا أن أجارها مجاعة بن مرارة، فقال: نعمت الحرة هي.
فكانت تستوصي به خيرًا، وكانت تطعمه، وتسقيه في أسره، فحفظ لها الجميل، فأطلقوا زوجة خالد بن الوليد، بعد أن أجارها مجاعة، وأخذوا مجاعة، وبدءوا يقاتلون المسلمين قتالاً شديدًا.
وكان الانكسار الأول في جيش المسلمين، وفَوْر وقوع هذا الانكسار جمع المسلمون أنفسهم، وظهرت نماذج في جيش المسلمين لا تكاد تتكرر في التاريخ، فيقوم زيد بن الخطاب الذي رفض الإمارة، حتى يطلب الشهادة، يقول للمسلمين: أيها الناس عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوكم، وامضوا قدمًا، والله لا أتكلم حتى ألقى الله فأكلمه بحجتي.
فنذر ألا يتكلم حتى ينصره الله على هؤلاء المرتدين، أو يقتل في سبيل الله في هذه المعركة، وبدأ يجمع حوله مجموعة من الصحابة الأبرار، ويقاتل قتالاً شديدًا في جهة اليمين وهو قائد الميمنة، حتى وفقه الله تعالى إلى أن يصل إلى نهار الرجال، وهو قائد ميسرة المرتدين، فتبارز معه، وقتل الحق الباطل، فقتل زيد بن الخطاب نهار الرجال، ويموت هذا الرجل على الردة بعد أن تعلم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستمر زيد في القتال، وبمجرد موت نهار الرجال، تضعف الهمة عند بني حنيفة، فهذا أحد قادتهم، ومن كبار رجالهم، وقد تبعه في ردته أربعون ألفًا، فضعفت الهمة في قلوبهم، فانكسروا انكسارًا كبيرًا، وهجم عليهم المسلمون، واستمر زيد بن الخطاب في القتال، ودخل في عمق جيش المرتدين، ثم قابله رجل يسمى أبو مريم الحنفي من بني حنيفة، فتقاتل معه، فقدّر الله تعالى أن يحقق لزيد بن الخطاب أمنيته، ويلقى الشهادة على يد أبي مريم الحنفي، هذا الرجل بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه، وكان يقول: "لقد أكرم الله زيدًا بالشهادة على يدي، ولم يُهِنِّي على يديه".
وبقتل زيد بن الخطاب حدث في ميمنة المسلمين ما حدث في ميسرة المشركين، قتل قائد من قواد المؤمنين، وحدث انكسار ثان في جيش المسلمين، فهجم جيش مسيلمة في هذه المرة هجومًا شديدًا، واجتاحوا جيش المسلمين للمرة الثانية حتى وصلوا لخيمة خالد بن الوليد للمرة الثانية، فتظهر نماذج أخرى، يقوم ثابت بن قيس الذي يحمل راية الأنصار، وينادي على الأنصار: يا للأنصار.
فيلبي الأنصار، ويقومون على المشركين، ويقاتلون قتالاً شديدًا، يقاتل ثابت بن قيس رضي الله عنه، وهو يحمل الراية، فتقطع إحدى رجليه، ويقع على الأرض، ثم يسمع النداء: يا للأنصار.
فيسرع، وهو برجل واحدة، ويحبو على الأرض، فيقول له أبو سعيد الخدري: ما عليك. فيقول: ألبي ولو حبوًا. فيسرع حبوًا حتى يلتقي مع المشركين، فيقتل رضي الله عنه وأرضاه، ويستشهد في هذه المعركة ثابت بن قيس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم قد قال فيه: «نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ».
فهذه شهادة في حق ثابت تثبت أنه عند حسن ظن الرسول فيه، ثم يستمر جيش مسيلمة في الهجوم على جيش المسلمين، فيظهر نموذج آخر، وهو أبو حذيفة، كان أبو حذيفة من حفّاظ سورة البقرة، فينادي: يا أهل البقرة.
فيقوم له المسلمون الحافظون لسورة البقرة، ويقاتلون قتالاً شديدًا حتى يأذن الله له بما كان يريد، فيستشهد رضي الله عنه، ويستمر الهجوم قويًّا على المسلمين، فيحمل راية المهاجرين سالم مولى أبي حذيفة، فيقول له المسلمون وكان رجل ضعيف البنية: نخشى أن نُؤْتى من قِبَلك.
فيقول: تُؤْتوْن من قِبَلي؟! بئس حامل القرآن أنا إذًا.
وكان سالم حافظًا القرآن، ويقاتل قتالاً شديدًا، فتقطع يده اليسرى، وكان يقاتل بيده اليمنى، ويحمل الراية في يده اليسرى، فتقطع يده اليسرى، فيحمل الراية باليمنى، فتقطع يده اليمنى ويسقط على الأرض رضي الله عنه وأرضاه، ويأتيه عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه قبل وفاته بقليل، فيجده يقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. ثم يقول: أين أبو حذيفة؟ فيقول له المسلمون: إنه قد استشهد في المكان كذا وكذا، فيقول: ادفنوني في جواره.
وكان قد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي حذيفة الذي كان مولاه إلى أن أعتقه أبو حذيفة، وكان أبو حذيفة قد تبناه، فأصبح اسمه سالم بن أبي حذيفة حتى نزلت آية تحريم التبني، فأطلقه حذيفة، وكان اسمه سالم بن عبيد، ولكنه اشتهر في المسلمين بسالم مولى أبي حذيفة لأنه كان يحب هذا الرجل حبًّا شديدًا، فقال: ادفنوني بجواره.
المسلمون بعد هذه الملاحم العظيمة اشتدت شوكتهم، وبدءوا يهجمون على المشركين هجومًا شديدًا، حتى أذن الله لهم بالتقدم داخل صفوف المشركين، وحينما كانت تُحاصَر فئة من المسلمين، يقولون: أغثنا يا خالد.
فيجمع مجموعة من المسلمين، ويتجه نحوهم، وينقذهم بفضل الله تعالى، هذا القائد المظفر خالد بن الوليد، وفي هذا الهجوم الثاني للمسلمين يصل خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب، يخترق الجيش كله، ويصل لمسيلمة الكذاب، فيدعوه إلى الإسلام، فكان حريصًا على قوة الإسلام، يقول له: ارجع للإسلام، لو رجعت للإسلام ستحفظ دماء هؤلاء الناس من القتل، فيأبى مسيلمة أن يسلم، ويستمر على ردته، ثم يحدث انكسارًا ثالثًا في جيش المسلمين، ويهزم جيش المسلمين لثالث مرة؛ لأن جيش المشركين كبير جدًّا، فيدخل جيش المشركين للمرة الثالثة، ويبدءوا هجومهم حتى يصلوا إلى خيمة خالد للمرة الثالثة، فقام عمار بن ياسر، وكان من المشتركين في هذه الموقعة، ومن حفاظ القرآن، فيقول: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال.
يقول أبو سعيد الخدري: والله لقد رأيت يوم اليمامة عمار بن ياسر يقف على تل ويقول: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال، وإن أذنه تتأرجح بجانبه.
فينشط أهل القرآن، ويهجمون هجومًا شديدًا على المشركين، ويطلق خالد بن الوليد شعارًا للمعركة حتى يحفز المسلمين فيقول: وامحمداه.
فكلما قال خالد: وامحمداه.
ازدادت الحمية في قلوب المسلمين، وعلموا أن هذا الرجل مسيلمة الكذاب ليس منصورًا من الله I، وأن النصر معهم وأنهم إذا ماتوا، ماتوا على الإيمان، وهو ميت على الردة، فهجموا هجومًا شديدًا على المشركين حتى استطاعوا أن يقحموهم إلى اتجاه الحصن الكبير، وبدأ المسلمون في قتل العدد الكبير منهم من المشركين، فلا يجد محكم بن الطفيل حلاًّ لهذا الموقف إلا أن يدخل الناس داخل الحديقة، فيقول لكل المرتدين: عليكم بالحديقة، فيسرع المرتدون إلى الحديقة، والمسلمون وراءهم بالسيوف.
فرّ المرتدون أمام المسلمين حتى دخلوا الحديقة بأعداد هائلة حتى كان داخل الحديقة في ذلك الوقت ما يقرب من تسعين ألف مقاتل، وأراد المسلمون دخول الحديقة، فلم يستطيعوا دخولها لمناعة أسوارها العالية، وأنعم الله على المسلمين في هذه الموقعة بصحابي جليل قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قولة عظيمة، قال: "رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ لا يُؤْبَهُ بِهِ إِذَا اسْتَأْذَنَ لا يُؤْذَنُ لَهْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ".
فخرج هذا الصحابي بفكرة عجبية جدًّا لفتح باب الحصن العظيم، فقال للمسلين: ضعوني على درع، ثم ارفعوا هذا الدرع بأسنة الرماح، ثم ارفعوني، حتى أصل إلى أعلى السور، ثم اقذفوني داخل الحديقة، أفتح لكم الباب من داخل الحديقة.
وبداخل الحديقة تسعون ألفًا من المرتدين، ولم يوافقه الصحابة في بادئ الأمر، إلا أنه رضي الله عنه أصر على ذلك، وكان مستجاب الدعوة فدعا الله أن يعنه وأن يبلغه الشهادة، ثم وافقه الصحابة بعد ذلك، فلم تكن هناك وسيلة أمامهم غير ذلك، فأسوار الحديقة عالية جدًّا، فألقوه داخل الحديقة، وبحسابات العقل البشري لا يستطيع رجل واحد أن ينجو من مثل هذه الأمواج البشرية المتلاطمة داخل الحديقة، وشاء الله أن يقتل البراء بن مالك كل من يلقاه ولم يكن هم البراء بن مالك أن يقتل عددًا من المرتدين بقدر ما كان همه أن يفتح الباب، وتكالب عليه المرتدون، وظل يقاتل حتى وصل إلى باب الحصن، وفتح الباب، بعد أن أصابه ثمانون طعنة، وقد يقرؤها إنسان في سطر، لكن تخيل أن يصاب بكل هذه الطعنات ما بين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ومع ذلك يقاتل، ويثبت حتى يفتح الباب، ويدل ذلك على أن الله سبحانه وتعالى مع هذا الجيش وما هي إلا أسباب أخذها ذلك الجيش {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17].
كان مجرد سبب أخذ به المسلمون، وبارك الله فيه، وبمجرد فتح الباب، أُسقط في يد المرتدين، فهم لم يتخيلوا أن يسقط عليهم رجلٌ، ويثبت لقتالهم، ويفتح الباب، فأصاب ذلك في نفوسهم رهبة شديدة من المسلمين، وعلموا أن المسلمين منصورون، ومع ذلك قاتلوا على ردتهم، ودخل جيش المسلمين الحديقة، وبدءوا يقاتلون المرتدين، وثبت المرتدون على القتال حتى شاء الله تعالى أن يقتل محكم بن الطفيل وزير مسيلمة الكذاب، وقائد ميمنته، قتله عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، بينما كان يخطب في الناس ويحفزهم لقتال المسلمين، فرماه عبد الرحمن برمحه فدخل الرمح في عنقه فسقط صريعًا مرتدًّا، وكان يشارك في المعركة من أبناء أبي بكر الصديق عبد الله وعبد الرحمن.
ولما قُتل محكم بن الطفيل علت همة المسلمين، وضعفت نفوس المرتدين، وازداد القتل في المرتدين.
وحشي بن حرب يقتل مسيلمة:
وصل إلى مسيلمة الكذاب أحدُ المسلمين الذي أراد أن يكفر عن ذنب قديم عظيم ارتكبه في جاهليته، فحمل رمحه، وسدده إلى قلب مدعي النبوة الكافر، فخر صريعًا، وهذا الرجل الصحابي هو وحشي بن حرب قاتل حمزة بن عبد المطلب، والذي ظل طوال حياته كافرًا إلى أن منَّ الله عليه بالإسلام والهداية، وأسلم على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعاهد نفسه أن يكفر عن ذنبه، وجاءت هذه الموقعة؛ ليكفر عن ذنبه، كما يقول: أتمنى أن تكون هذه بتلك، أي قتله لمسيلمة الكذاب بقتله حمزة سيد شهداء.
وفي نفس اللحظة الذي يسقط فيها مسيلمة الكذاب برمح وحشي كانت تطير عنق مسيلمة الكذاب بسيف آخر في تزامن عجيب من أبي دجانة واسمه سماك بن خرشة وكان يُلقب بين الصحابة بصاحب العصابة الحمراء، وكان يركب خيله بخيلاء ويتبختر بها بين الصفوف حتى قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: "إِنَّ هَذِهِ لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ إِلاَّ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ".
ففي موضع القتال يحب الله هذه المشية؛ لأنها تلقي الرهبة في قلوب الأعداء، هذا الرجل أيضًا قتل مسيلمة الكذاب، لكن يبدو والله أعلم أن رمح وحشي بن حرب سقط أولاً؛ لأن المشهور أن وحشي بن حرب هو الذي قتل مسيلمة الكذاب، والمشهور أيضًا أن إحدى الجواري كانت تقف على رأس شرفة فلما سقط مسيلمة الكذاب قالت: يا ويلاتاه، قتل مسيلمة العبد الأسود.
فعرف أن وحشي بن حرب هو الذي قتل مسيلمة الكذاب.
وبعد أن قطع أبو دجانة رأس مسيلمة الكذاب شاء الله له أن يلقى الشهادة، فقتله أحد المرتدين بسهم وسقط رضي الله عنه وأرضاه شهيدًا في معركة اليمامة.
بعد قتل مسيلمة الكذاب وهنت نفوس المرتدين، وخارت عزائمهم، فلم يقووا على فعل شيء، فأعلنوا تسليمهم وقبل أن يعلنوا تسيلمهم كان المسلمون قد أوسعوهم قتلاً، وبلغ عدد قتلى المرتدين في معركة اليمامة واحدًا وعشرين ألف مرتد، وكان جيش المسلمين اثني عشر ألف مجاهد، قتل منهم ألف ومائتا شهيد سقطوا من المسلمين.
وحتى نعرف قيمة هذه المعركة وأهميتها، فإن الذين شهدوا غزوة بدر، وكانوا يسمون البدريون وكان لهم ثقل شديد في الإسلام استشهد منهم في هذه المعركة ثمانية وخمسين بدريًّا، لنعرف أن هذه الموقعة كانت خطيرة في ميزان الإسلام، وشهداء المعركة من حفظة القرآن خمسمائة شهيد، ولا بد من معرفة أهمية الرقم، لنعرف أن المسلمين في حينها كانوا لا يحفظون القرآن في الكتب، ولم يكن هناك كتاب واحد يجمع القرآن، بل كان القرآن محفوظ في صدور هؤلاء الناس، وبعض جذوع النخل، وبعض العظام مكتوب عليها بعض الآيات، ولم يكن هناك شيئًا يجمع القرآن سوى صدور هؤلاء الناس، فمقتل خمسمائة في يوم واحد كان له من الأثر شديد على المسلمين لدرجة أن المسلمين خافوا على القرآن ألا يجمع، إلا أن الله قد منّ على الإسلام بالرجل العظيم أبي بكر الصديق الذي جمع القرآن في حياته رضي الله عنه وأرضاه.
هذه الموقعة من المواقع المؤثرة في تاريخ الإسلام، ولولا هذه الموقعة بفضل الله تعالى لانقلبت الكفة تمامًا في الجزيرة العربية؛ لأن هذا الجيش من أقوى جيوش المرتدين، وقد أذن الله سبحانه وتعالى بالنصر لاثني عشر ألف على مائة ألف، فهذا تأييد عظيم من الله جل جلاله، لكن المسلمين دفعوا ثمنًا غاليًا دفعوا دماء كثيرة في سبيل هذا النصر، وفي سبيل إرضاء الله سبحانه وتعالى.
من شهداء معركة اليمامة:
الشهداء في هذه الموقعة كثيرون، وسنمرّ على بعض الشهداء ممن لهم ثقل عظيم في الإسلام.
زيد بن الخطاب:
فمن أول الشهداء زيد بن الخطاب، وهو أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وسبقه إلى الإسلام، ويقول عمر: ما كان هناك من خير سبقني إليه إلا زيد بن الخطاب، فقد سبقني إلى الإسلام، وسبقني إلى الشهادة.
وكان عمر يقول: كلما هبت ريح الصّبا حملت إليّ نسائم زيد. وريح الصبا ريح تهب من ناحية الشرق، من ناحية قبائل بني حنيفة، وعندما كان يجلس مع الصحابة، وتهب ريح الصبا يبكي عمر، وحين يسأله الصحابة عن سبب بكائه، يقول: كلما هبت ريح الصبا أتذكر زيد بن الخطاب.
سالم مولى أبي حذيفة:
كان أبو حذيفة من أوائل من أسلم، وسالم بن عبيد هو أيضًا من السابقين إلى الإسلام، وهما من المهاجرين، وكان سالم مولى لأبي حذيفة، أي عبدًا ولما أسلم أعتقه لله I، ثم تبناه، فأصبح اسمه سالم بن أبي حذيفة، ثم لما نزلت آية تحريم التبني أصبح اسمه سالم بن أبي عبيد، واشتهر بسالم مولى أبي حذيفة، ولشدة الحب بينهما، لما هاجر المسلمون، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، آخى بين سالم وأبي حذيفة مع كونهما من المهاجرين.
ولكي نعرف قيمة سالم مولى أبي حذيفة الذي كان مولى في العرف القديم في وقت كانت القبائل تعتز فيه بالشرف، وتنظر إلى العبيد نظرة ازدراء واحتقار إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لسالم: "الْحَمْدُ لِلَِّهِ الَّذِي جَعَل فِي أُمَّتِي مِثْلَكَ".
ويقول في حديث آخر: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ عَلَى أَرْبَعَةٍ: سَالِمِ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ". رضي الله عنهم وأرضاهم.
ولما طُعن عمر بن الخطاب، وعندما كان يفكر فيمن يخلفه، قال: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا لوليته. وهذا إقرار كبير بالفضل لسالم مولى أبي حذيفة.
ثابت بن قيس:
كان ثابت بن قيس من أوائل الأنصار الذين أسلموا، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا آنفًا: «نِعْمَ الرَّجُلَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ».
أبو دجانة سماك بن خرشة:
من الأنصار ومر بنا منذ قليل.
الطفيل بن عمرو الدوسي:
الطفيل بن عمرو الدوسي من قبيلة دوس، وهو من كبار الصحابة الذين أسلموا بمفردهم، أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أسلم طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيده إلى قبيلته ليدعوهم إلى الإسلام، فأعاده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قبيلة دوس، فظل يدعو فيها فترة من الزمان، فآمن معه أهل بيته ولم يؤمن معه أحد من القبيلة كلها فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ادع على قبيلة دوس. فدعا لهم صلى الله عليه وسلم، وقال: «اللَّهُم اهْدِ دَوْسًا». ثم قال له: «عُدْ إِلَى قَوْمِكَ».
فعاد إلى قومه، فدعا فيهم فترة وجيزة، ثم عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسعين بيتًا، هم كل قبيلة دوس، أسلموا على يد الطفيل بن عمرو الدوسي، منهم أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فكل هذه القبيلة في ميزان حسناته، أسلم وهدى قومه، واستشهد في موقعة اليمامة.
وكان قد رأى رؤيا قبل الموقعة بيوم واحد فقال لأصحابه: إني رأيت رؤيا فاعبروها، إني رأيت رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها، وأرى ابني عمرًا يطلبني طلبًا حثيثًا، ثم رأيته حبس عني. قالوا: خيرًا.
قال: أما أنا فقد أولتها، أما حلق رأسي فقطعه، وأما الطائر فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها، فالأرض تحفر لي، فأغيّب فيها، وأما طلب ابني لي، ثم حبسه عني، فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني، فقتل الطفيل باليمامة شهيدًا، وجرح ابنه عمرو بن الطفيل ثم عوفي، وقتل عام اليرموك في خلافة عمر بن الخطاب شهيدًا.
عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول:
يقول عنه ابن كثير في كتابه كان من سادات الصحابة برغم أن أباه كان رأس المنافقين في المدينة، وكان من قدماء الصحابة الذين شاركوا في الغزوات مع الرسول صلى الله عليه وسلم بداية من غزوة بدر، وكان من أحرص الناس على قتل أبيه، فكان من شدة إيمانه يرى أن أباه منافق يستحق القتل، لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم منعه حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.
عباد بن بشر:
من قدماء الصحابة، وله من المواقف مع النبي صلى الله عليه وسلم الكثير، وشارك في معظم الغزوات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقوم الليل يسمع صوت عباد بن بشر يقوم الليل هو أيضًا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقول السيدة عائشة، وهو يصلي صلاة الليل يقول: «اللَّهُم ارْحَمْ عَبادًا، اللَّهُم ارْحَمْ عَبادًا».
وله القصة المشهورة حينما كان يحرس جيش المسلمين هو وعمار بن ياسر يتبادلان الحراسة، ثم جاءت نوبة عباد بن بشر، فكان قائمًا يصلي لله بالليل، وعمار بن ياسر نائم، فأصابه سهم في جسده، فنزع السهم، وأكمل صلاته، فأصابه سهم ثان، فنزعه، وأكمل صلاته، فجاءه سهم ثالث، فنزعه، ثم ركع وسجد، وفي التشهد أيقظ عمار بن ياسر، فلما استيقظ وجد الدماء في كل مكان، ووجد الثلاثة أسهم فقال له: هلا أيقظتني من السهم الأول. فقال: كنت أقرأ آيات ما أحببت أن أقطعها، لولا أني خشيت على ثغر من ثغور المسلمين.
هذا عباد بن بشر من شهداء المسلمين في موقعة اليمامة.
السائب بن عثمان بن مظعون:
كان من قدماء الصحابة ممن أسلموا وهم صغار، هاجر مع عثمان بن مظعون إلى الحبشة، وهو طفل صغير، وشب في الحبشة، ثم عاد، واستشهد وهو شاب في موقعة اليمامة.
السائب بن العوام:
وهو أخو الزبير بن العوام، أسلم وهو صغير، واستشهد وهو شاب في موقعة اليمامة.
عبد الله بن أبي بكر الصديق:
قدم أبو بكر الصديق في الموقعة ابنيه عبد الرحمن وعبد الله، واستشهد عبد الله في هذه المعركة، أما عبد الرحمن فلم يستشهد، وكان له دور عظيم في المعركة، فهو الذي قتل محكم بن الطفيل كما ذكرنا.
معن بن عدي:
كان من الأنصار، وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن الخطاب، وكانا قد تعاهدا سويًّا على أن يقاتلا في سبيل الله، وأن يموتا في سبيل الله، وقبل المعركة أكدا عهدهما، وكتب الله لهما الشهادة معًا.
من أبطال اليمامة:
هناك بعض من الصحابة ممن حضروا هذه المعرك