إنها ليست فتنة 2/3
راغب السرجاني
ثورة مصر ما زالت هناك آراء كثيرة تتناولها وسائل الإعلام المختلفة في
مصر وغيرها من دول العالم تتحدث عن الثورة المصرية والخلفية الشرعية
لها..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
ثورة مصر ما زالت هناك آراء كثيرة تتناولها وسائل الإعلام المختلفة
في مصر وغيرها من دول العالم تتحدث عن الثورة المصرية والخلفية
الشرعية لها..
وتحدثت في مقالي السابق "إنها ليست فتنه 1/3" عن التأويلات المختلفة
لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
إِذَا الْتَقَى
الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا...
»[1]، وذكرت أنه ليس كل من حمل سيفًا ليقاتل مسلمًا
يعتبر آثمًا، وذكرت أدلة هذا الأمر، مع العلم أن الثائرين بمصر لم
يحملوا سيفًا ولا سلاحًا أصلاً، إنما خرجوا بشكل سلمي في غاية
الرقي.
وفي هذا المقال أناقش بعض التفسيرات لأحد أحاديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم الصحيحة، والذي دار بين العلماء جدل كبير حول تفسيره
وتأويله، ومن ثَم اختلف الموقف الفقهي اختلافًا بيِّنًا، ولكن قبل
الخوض في هذا التفسير ألفت الأنظار إلى أهمية هذه الدراسة وهذا
التحقيق حتى بعد نجاح الثورة المصرية؛ وذلك لأمرين:
أما الأمر الأول فهي شهادة للتاريخ ولآليات التغيير الشرعية
والموافقة للمنهج الإسلامي الأصيل، فلا تُتهم هذه الثورة الكريمة
بأنها "مَفْسدة"، كما ذكر لي أحد الشباب في ميدان التحرير.
وأما الأمر الثاني فهو في غاية الأهمية، وهو أن كثيرًا من الدول
العربية تحتاج بشدة إلى هذه الدراسة؛ لأنها تمر بنفس الظروف التي تمر
بها مصر، ومن ثَم يبقى خيار الثورة خيارًا مناسبًا لكثير منها، إذا
ثبت شرعيته وموافقته لبنود الشريعة.
وأما الحديث الذي نحن بصدده في هذا المقال فهو الحديث الذي رواه
البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «
بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا،
وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ
الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ
مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ
»[2].
واستنتج بعض العلماء من هذا الحديث أن الخروج على أي حاكم مسلم غير
جائز، ويلزم تكفيره قبل الخروج عليه، ومن ثَمَّ أنكروا على المصريين
ثورتهم، وزعموا أنهم آثمون، وأن قتلاهم ليسوا بشهداء.
فهل هذا هو التأويل الوحيد للحديث أم أن هناك معاني أخرى لم يتطرق
إليها هؤلاء العلماء الأفاضل تُغيِّر من رؤيتهم للأحداث؟! ولنا بعض
التعليقات على الحديث والتي قد توضح الرؤية في هذا الأمر..
أولاً: لماذا كان الخروج على الحاكم مقرونًا برؤية "كفر" بواح، ولم
يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا إذا كان الحاكم كافرًا؟
إنني أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرفع عنا حرج
تكفير الحاكم قبل الخروج عليه، فهذا الحاكم قد يأتي بأعمال "كفرية"
وهو ليس بكافر، وتوصيف "العمل" بالكفر أسهل كثيرًا من توصيف "شخص ما"
بالكفر.
والسؤال الذي ينبغي أن نجيب عليه بصراحة هو: هل هناك "أعمال كفرية"
في ظل حكم النظام المصري البائد؟ مع إعلاني الواضح الآن أنني لا أهدف
إلى تكفير الأفراد.
الدستور المصري:
إن أخطر ما نواجهه في مصر وكثير من الدول العربية أنها عطلت شريعة
الله عز وجل عمدًا وارتضت لأنفسها دساتير وضعية مستوحاة من شرائع
مختلفة، منها الإسلامي، ومنها الغربي الوضعي، ولم يكن هذا الاستبدال
نتيجة جهل أو عدم دراية، بل عن عمدٍ بدعوى أن التشريعات الإنجليزية أو
الفرنسية أو الإيطالية أو البلجيكية أو الأمريكية أفضل في جزئية ما من
التشريع الإسلامي، الذي أوحى به رب العالمين!
ما توصيف هذا "العمل"؟
ما توصيف من قال: إن البيع مثل الربا؟
وما توصيف من يخرج التصاريح للراقصات الخليعات، ويسمح بالإباحية في
وسائل الإعلام، ولا يدَّعي أن هذا منكر ينبغي محاربته، بل في منتهى
التحدي للشريعة يعطيهم الجوائز والحوافز، ويعتبرهم قدوات
للشباب؟
وما توصيف موالاة اليهود الصهاينة على حساب الفلسطينيين
المسلمين؟
وما توصيف تعطيل الزكاة؟
وما توصيف فتنة الناس عن دينهم في السجون والمعتقلات، وتعذيبهم
تعذيبًا احترافيًّا باستخدام أجهزة مستوردة لذلك خِصِّيصًا؟!
إن هذه أعمال كفرية في رأي كثير من العلماء، وإن كان المعظم يتحرج من
تكفير الفاعل، وأنا معهم؛ لأن عملية التكفير لا بُدَّ أن تسير في
خطوات معينة من المناظرة والتبيين وسماع وجهات النظر الدافعة لهذه
الأعمال..
لكن على العموم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخرجنا من هذا المأزق
بتوضيحه أن الخروج على الحاكم لا يستلزم تكفيره هو شخصيًّا، ولكن لأنه
ارتضى وجود أعمال كفرية في بلده، ولم يتحرك لتغييرها، بل على العكس
فعلها وباركها وشجَّع عليها.
ثانيًا: سؤال قد يُغيِّر تمامًا من رؤية المفسرين للحديث! ما المقصود
بالكفر في الحديث؟! هل هو الكفر المخرِج من الملة؟ أم هو نوع آخر من
الكفر؟
اقرأ هذه المفاجأة..!!
يقول النووي -رحمه الله- في شرحه لصحيح مسلم: "والمراد بالكفر هنا
المعاصي، ومعنى «عندكم من الله فيه برهان
» أي: تعلمونه من دين الله تعالى. ومعنى الحديث: لا
تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم
منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام"[3].
ونقل ابن حجر العسقلاني في شرحه للبخاري نفس الكلمات عن
النووي.
إن هذه رؤية جديدة لقارئ الحديث..
فلو كان المقصود في الحديث هو منازعة السلطان عند رؤية المعاصي، فما
أكثر المعاصي التي نراها في البلاد، ولا يختلف عليها اثنان!!
وبهذا المقياس فإنّ نهب ثروات البلد بالمليارات يعد معصية كافية
لخروج الناس على حاكمها الذي يشجع هذا النهب؛ لأن جميع الشعب بلا
استثناء يعاني من هذا النهب، فضلاً عن بقية المعاصي والشرور.
لكن ما الذي دعا العلماء لتفسير الكفر بالمعصية؟
لأن هذا هو الذي يتفق مع روح الشريعة ومقاصدها، فليس من المعقول أن
الشريعة التي جعلها الله عز وجل هداية للناس وراحة لهم تكون هي
القاضية بأن يُترك الحاكم الفاسد الظالم يرتكب كل المنكرات، ويشجع على
كل المعاصي، وينتشر فساده في كل بقعة في الدولة بما له من طاقات
وإمكانيات.. وليس من المعقول أن الشريعة العادلة تقضي بأن يضحي الشعب
كله من أجل بقاء الظالم في كرسيِّه، وليس من المعقول أن تقبل الشريعة
الحكيمة لأمة الإسلام أن تظل هذه الأمة المجيدة مهينة ومُستنزَفة
وتابعة لغيرها، وذليلة بين الأمم عدة عشرات من السنين؛ لأنه لا يجوز
الخروج على الحاكم ما دام مسلمًا.
ليس هذا هو روح الشريعة، ولا مقصدها، وليس هذا هو الغرض من الخلق،
فقد وضَّح لنا الله عز وجل غاية الخلق فقال: {
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56]. فيستحيل أن تكون الشريعة حاكمة بأن تظل الأجيال تلو
الأجيال لا تعبد الله حقًّا، وتعيش في جو موبوء من المعاصي والكبائر
تحرُّجًا من الخروج على حاكمٍ بالَغَ في الإجرام والتعنت والبغي
والعدوان.
لكل ما سبق تأول النووي وابن حجر وغيرهما كلمة الكفر على أنها
المعاصي؛ لكي يتحقق مقصد الشريعة الأول، وهو الحفاظ على دين الناس،
ولكي تتحقق كذلك بقية مقاصد الشريعة مثل الحفاظ على النفس والمال
والعقل والنسل، وكل ذلك ضائع في ظل حكومات الفساد.
وليس هذا فقط، بل إن العلماء الأجلاء استندوا إلى روايات أخرى للحديث
بيَّنت أن المقصود فعلاً من كلمة الكفر في هذا الحديث هو المعصية، فقد
وقع في رواية حبان أبي النضر: «
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
مَعْصِيةً للِّهِ بَوَاحًا» [4]،
وعند أحمد من طريق عمير بن هانئ، عن جنادة: «
مَا لَمْ يَأْمُرُوكَ
بِإِثْمٍ بَوَاحًا» [5]. فهذه
الروايات تفسِّر كلمة "الكفر" التي جاءت في الحديث بالمعصية والإثم،
وهذا أقرب إلى مقاصد الشريعة كما وضَّحنا.
ثالثًا: تعارف العلماء على أن هناك نوعين من الكفر:
كفر عملي، وكفر اعتقادي، وهذا يتفق مع ما ذكرته في النقطة الأولى؛
فالعلماء يقولون: إن هناك من يرتكب عملاً كفريًّا ولكنه يعتقد في
داخله أن شرع الله حق، ولكنه يخالف لضعفٍ في نفسه، فهذا كفره عملي
وليس اعتقاديًّا، وهو أهون؛ إذ إنه لا يُخرِج من الإسلام، ولكن
يُفسَّق صاحبه. أما الذي يخالف الشريعة اعتقادًا منه أن تشريع البشر
أفضل من تشريع الرب في نقطة ما، فهذا كفره اعتقادي، وهو خطير؛ لأنه
مُخرِج من الإسلام.
ولأننا لا نطَّلع على قلوب الحكام، فنحن نقول: إن التحاكم إلى غير
شرع الله عز وجل كفر عملي على الأقل، وقد يكون اعتقاديًّا، ولكن لا
نبني على هذا دون تمحيص.
وأول من تكلم في هذه النقطة ابن عباس رضي الله عنهما، وقال ذلك عند
تفسيره لقول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
[المائدة: 44]، فقال: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس
كفرًا ينقل عن الملة، بل كفر دون كفر"[6].
وتبعه في ذلك عطاء رحمه الله، فقال في تفسير كلمة (الكافرون)،
(الظالمون)، (الفاسقون): "كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون
ظلم"[7].
والمرجع في النهاية للتفرقة بين النوعين من الكفر هو الاعتقاد
والنية، فلو كان يحكم بغير ما أنزل الله ضعفًا في نفسه مع قناعته أن
حكم الله هو الحق، فهذا كافر كفرًا عمليًّا، وهو كفر دون كفر لا يخرج
من الملة، وإن كان يحكم بغير ما أنزل الله استحلالاً لهذا الفساد،
وقناعةً به، فإن هذا كفر اعتقادي مُخرِج من الملة بنص الآية.
وأسقط العلماء بعد ذلك هذه القاعدة على أحاديث وآيات كثيرة؛ فقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً: «
الْعَهْدُ الَّذِي
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ
» [8]. فهل يكفر كل تارك للصلاة؟
قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك: إن هذا كفر دون كفر ما دام غير
مُستحِلٍّ للترك، أما إن كان مستحلاًّ فهو كافر كفرًا اعتقاديًّا.
وقال الإمام أحمد: إنه كافر كفرًا اعتقاديًّا في الحالتين؛ لمطلق
اللفظ في الحديث. ولكن الجمهور على خلاف هذا.
فلماذا قَبِلنا أن نقلل كلمة "الكفر" في حديث الصلاة من الكفر
الاعتقادي إلى الكفر العملي حمايةً للمسلمين الذين لا يُصلُّون، مع أن
عدم صلاتهم تعود عليهم وحدهم بالضرر، ورفضنا أن نسمِّي الكفر في حديث
"الحاكم" كفرًا عمليًّا؛ بمعنى أنه معصية لا تُخرِج من الملة، مع أن
ضرر الحاكم الظالم يعود على الأمة بكاملها وليس عليه هو وحده؟!
إن الأولى هنا أن نقلِّل من كلمة الكفر في حديث الحاكم؛ حتى نتيح
الفرصة للخروج عليه إذا كان ناشرًا للمعاصي حتى نحفظ دين الناس،
ونحقِّق لهم مقاصد الشريعة.
ومثل ما قلناه في حديث الصلاة نجده في أحاديث كثيرة، قال أغلب
العلماء: إن الكفر المقصود فيها ليس هو الكفر المخرج من الملة.
ومثال هذه الأحاديث: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ
كُفْرٌ» [9]. وبديهي أنني لو قاتلت
جاري أو صاحبي لا أكفر بذلك، فهو كفر دون كفر؛ أي معصية كبيرة.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «
أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ
مِنْ مَوَالِيهِ، فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ
» [10]. فهل إذا هرب عبدٌ من
مواليه خرج بذلك عن الإسلام، أم أن هذا كفر دون كفر؟
وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: «
مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ
اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ
». والحديث في سنن الترمذي، وهو حسن، وقد علَّق عليه
الترمذي بقوله: وفُسِّر هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: «
فقد
كفر أو أشرك» على التغليظ؛ أي أن
الحالف بغير الله لا يكفر حقيقةً، إنما يأتي منكرًا عظيمًا استحقّ أن
يُوصف بالكفر مع أنه ليس كفرًا حقيقيًّا.
وذكر الله في حق آكلي الربا -كما جاء في سورة البقرة- أنهم خالدون في
جهنم، فقال: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ}[البقرة: 275]. ثم
عقَّب على ذلك بقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
} [البقرة: 276]. والكَفَّار هو
شديد الكفر، فهل الذي يتعامل بالربا يكفر أم أن هذا للتغليظ، وهو كفر
دون كفر؟!
ومثال ذلك كثير جدًّا، وهو يدفعنا إلى رؤية جديدة للحديث الذي ينهى
عن منازعة السلطان؛ حتى لا يعم فساد الحكام، خاصة أن الجميع يعلم أنَّ
مَن أَمِنَ العقوبة فسد حاله، فلو ضمن الحاكم الظالم أن أحدًا لن
يخلعه لظلمه وفساده لبالَغَ في هذا الظلم والفساد وطغى، ولكان قدوةً
لكل الظالمين. أما إذا خلعه شعبه نتيجة هذا الظلم والفساد، فإن هذا
يكون رادعًا لغيره، وهذا أيضًا يتناسق مع روح الشريعة التي فرضت
الحدود التي تبدو لبعض الناس قاسية، لكنها في حقيقة الأمر رادعة لبقية
الناس أن يأتوا نفس المنكر.
رابعًا: إذا رفض العلماء خروج مجموعة من المتظاهرين يطلبون من الحاكم
الكف عن الفساد:
ثورة مصر 25 يناير.. وذلك بدعوى أن هذه صورة من صور الخروج على
الحاكم، فإنهم يقعون في معضلة كبيرة، وهي التعارض مع كوكبة من
الأحاديث النبوية التي تحضّ على محاسبة الحكام، بل والأخذ على أيديهم
إذا فسدوا.. وسنضطر هنا إلى تأويل الأحاديث تأويلاً لا يتناسق مع روح
الشريعة؛ إذ إنه يرسِّخ الظلم والفساد، ويربِّي المسلمين على الذل
والهوان والانكسار، وقَبول الأمر الواقع دون سعي إلى تغييره.
ولنراجع بعض هذه الأحاديث..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
إِنَّ النَّاسَ إِذَا
رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ
يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ
»"[11].
والسؤال: كيف يمكن أن نأخذ على يد حاكم ظالم لنطبِّق الحديث
النبوي؟
هل نرسل رسالة لطيفة في السر؟
ستجد هذه الرسالة عشرات الأبواب الموصدة قبل أن تصل إلى الزعيم
الظالم، فلم يعد الأمر كما كان في السابق حينما كان يمكن للمحكوم أن
يطرق باب الحاكم ويناصحه.
هل نضع رسالتنا على الإنترنت؛ لعله يطالع بنفسه، أو أحد المقربين
المخلصين له؟
لقد فعلت ذلك بنفسي، ووضعت رسالة على موقعي قصة الإسلام بعنوان:
"بيان إلى حكام العرب والمسلمين إني لكم ناصح أمين" وذلك بتاريخ
14/5/2009م، ولكن ليس هناك مجيب!!
هل ننصح في خطبة جمعة مثلاً؟
فعلت ذلك في خطبة جمعة سنة 2003م في أعقاب احتلال العراق، أنصح فيها
الرئيس حسني مبارك بعدم التخاذل في مسألة العراق، وعدم الموالاة
للأمريكان على حساب المسلمين، فكان الجزاء الاعتقال، والمنع النهائي
من الخطابة في مصر كلها، والذي ظل معمولاً به حتى قيام ثورة 25 يناير
المباركة في 2011م، حيث قررت العودة إلى الخطابة بعد سقوط النظام
الفاسد الظالم.
ماذا نفعل حتى نطبِّق الحديث ونأخذ على يد الظالم؟
لقد سكتنا على الظالمين السنوات والسنوات، فتحقَّق فينا التهديد الذي
أطلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم! لقد عمَّنا الله عز وجل بعقابٍ
من عنده، وما هذه الأزمات الاقتصادية إلا نوع من هذا العقاب، وما
التبعية للغرب إلا نوع من هذا العقاب، وكذلك الاحتلال لأراضينا،
والقتل لأبنائنا، والانتهاك لمقدساتنا، والسخرية من ثوابتنا.. كل هذه
أنواع من العقاب.. فإلى متى أيها العلماء الأفاضل؟
لقد كان من الضروري أن نخرج في مسيرة تضم عددًا كبيرًا من المشاركين؛
حتى يلفتوا أنظار الحاكم الظالم القابع في قصره الرئاسي تحت حراسة
مئات الآلاف -دون مبالغة- من الجنود..
وليست هذه الثورة هي المسيرة الأولى للذين يريدون أن يأخذوا على يد
الظالم؛ لقد قمنا بوقفات عديدة وكثيرة، سواءٌ في نوادي أعضاء هيئة
التدريس، أو في النقابات، أو في الشوارع والميادين، أو في ساحات
الجامعات.. وطالبنا عشرات ومئات المرات بوقف الفساد والظلم.. ولا
مجيب.
فما العمل؟!
نحن نريد أن نأخذ على يد الظالم، ولا نستطيع لفترات طويلة.. وعانى
الشرفاء في الوطن من الاعتقالات، والمحاكم العسكرية، وتجميد الأموال،
وانتهاك حرمات البيوت، وغلق الشركات والمصالح، وتسريح الموظفين،
وتلفيق قضايا غسل الأموال والإرهاب، وغيرها.
يا فقهاء الأمة، هل في ظل كل هذه الأجواء يحرم على المسلمين أن
يخرجوا في مسيرة سلمية يطلبون من الزعيم الظالم أن يكفّ عن ظلمهم، وأن
يتركهم وشأنهم؟
إننا في الواقع نحتاج إلى مراجعة دقيقة لشريعتنا لنفهم مقاصدها، فليس
من المعقول أن نقبل كل هذه المفاسد، ونرضى بهذا الذل والهوان، حتى لا
تُراق بعض الدماء الزكية من الآخذين على يد الحاكم الظالم، أو تراق
بعض دماء البلطجية المدافعين عن الفساد.. وليس من المعقول أن نقبل
لأمتنا وضعًا مخزيًا بين الأمم، فنكون في ذيل الدول وتحت أقدامهم؛ حتى
لا يموت بعضنا.
أيها العلماء الكرام، كيف يمكن أن أفهم قوله تعالى: {
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
} [الشورى: 41، 42].
أليس المفهوم من الآية أن الذين خرجوا ينتصرون لأنفسهم بعد ظلم
السنين ليس عليهم سبيل أو عقاب من الله، وأن العقاب من الله سيكون على
الزعيم الظالم حسني مبارك ومَن عاونه من بطانة السوء على ظلم الناس،
والبغي في الأرض بغير الحق؟
وكيف يمكن أن أفهم مديح الله عز وجل للمؤمنين الذين يتصفون بصفة عدم
قبول البغي والظلم، حين قال سبحانه: {
وَالَّذِينَ إِذَا
أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
} [الشورى: 39]؟
وما المراد من قولة تعالى: {
لاَ يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ
} [النساء: 148]؟
وكيف يمكن أن نفهم حديث البخاري الذي قال فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ
وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ،
فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ
الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا
عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي
نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ
يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا
عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا
» ؟
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جوَّز الأخذ على يد
الخارقين للسفينة مع حسن نياتهم، ونبل مقاصدهم؛ لأنهم سيؤدون إلى غرق
السفينة دون قصد، فماذا يمكن أن نفعل مع الأشرار الذين خرقوا آلاف
الثقوب في سفينة مصر عمدًا، حتى كادت البلاد أن تغرق تمامًا، وحتى
بلغت الديون المتراكمة على الدولة حوالي تريليون جنيه، وتردي الوضع
السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي، وعاش أكثر من 40 مليون مصري
على أقل من دولارين يوميًّا؟
هل نسكت لتجنُّب الفتنة، فتتضاعف ديون البلد، ويتراكم الظلم بشكل
أكبر؟
وهل قرأ أساتذتي من العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: «
أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ
سُلْطَانٍ جَائِرٍ» [12]؟ إن من
الواضح من صياغة الحديث أن الأمر ليس مجرد رسالة لطيفة سرية، أو إشارة
خفيفة من عالم إلى حاكم، وإنما هو قول صريح مباشر يجد معارضة من
الحاكم فيصرُّ العالم أو الناصح على كلمته، فيغضب الحاكم ويهدِّد،
فيبقى الناصح على نصحه غير متردِّد ولا متهاون، وهذا هو المفهوم من
كلمة (الجهاد)، وهذا ليس جهادًا عاديًّا، إنما هو (أفضل الجهاد) كما
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والأمر قد ينتهي بالقتل؛ ومن ثَم
فإصرار المطالبين بالحق لا يجب أن يتوقف عند احتمال إراقة الدماء، بل
يستمر إذا كان يغلب على الظن أنه يمكن أن يؤدي إلى نتيجة إيجابية، ولو
كان الثمن هو ذهاب الروح.
ويؤيد هذا المنحى الحديث النبوي الصحيح الذي رواه الهيتمي، وقال فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ
حَمْزَةُ، وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ،
فَقَتَلَهُ» [13].. ولو كان الحرص
على الروح وعدم إراقة الدماء أولى من الأخذ على يد الحاكم، ما رفع
الله قدر هذا الرجل إلى قمة الشهداء مع حمزة بن عبد المطلب رضي الله
عنه. وبالمناسبة فإن لفظ "أفضل" الشهداء، والذي جاء في رواية الهيتمي،
أصح من لفظ "سيد" الشهداء، والذي جاء في رواية الذهبي.
خامسًا: ما هي مقاصد الشريعة؟
لقد تعارف العلماء على أن مقاصد الشريعة خمسة، وهي مرتبة من الأعلى
إلى الأدنى كالتالي: حفظ الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم النسل، ثم
المال. وأنا في الحقيقة أختلف قليلاً مع العلماء الأجلاء في حصر مقاصد
الشريعة في خمسة أمور فقط؛ لأنني أرى أن هناك أمورًا جاءت الشريعة
لحفظها، ولا تندرج تحت هذه الكليات الخمس، وقد ناقشت ذلك في أحد كتبي
الحديثة، وهو كتاب "المشترك الإنساني"، ولكن ليس المجال هنا لهذا
التفصيل..
لكني اتفق مع العلماء الأجلاء أن حفظ الدين مقدَّم على حفظ أي شيء
آخر، بما فيها حفظ النفس والمال.. ومن ثَم فلا يمكن لمن أراد تطبيق
مقاصد الشريعة بشكل سليم أن يترك كل المفاسد الهائلة التي تموج بها
البلاد، والتي تُضيِّع الدين من أكثر من وجه؛ لكي يحفظ أنفس الناس
وأموالها. ولذلك وجب التضحية بالنفس والمال لكي يستقر الدين، ولو كان
هذا الاستقرار مربوطًا بخلع الحاكم الفاسد الذي لا يطبِّق شرع الله عز
وجل، ويظلم الناس، ويجور عليهم، ويهين الأمة، ويوالي أعداءها، ويحارب
أهل الدين فيها، خاصة إنْ غلب على الظن أن هذا الخروج سيؤدي فعلاً إلى
خلع الطواغيت، وهذا ما ذكره ابن حجر العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري،
إذ قال: "ونقل ابن التين عن الداوديّ قال: الذي عليه العلماء في أمراء
الجور أنه إنْ قُدِر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وَجَب، وإلا فالواجب
الصبر"[14].
وهذا فعلاً ما غلب على ظن الثائرين في الثورة المصرية. ومن الملاحظ
أن الثائرين في بداية الأمر لم يطلبوا خلع الرئيس الفاسد، بل طالبوا
بإصلاحات فقط في الدولة؛ لأنه غلب على ظنهم في هذه المرحلة أنهم لا
يقدرون على خلعه، فلما تغيَّرت الأوضاع بتوفيق الله عز وجل، وغلب على
الظن إمكانية الخلع ثبتوا على ذلك، وحقق الله عز وجل ظنهم، وأكرمهم
بخلع الحاكم الفاسد وقطاع كبير من سدنته وبطانته.. فهل الوضع الآن
أفضل للدين، أم ترك الطاغية في كرسيِّه أفضل للإسلام؟ سؤال سيكشف لنا
حقيقة الأمر بوضوح!
سادسًا: من هو الحاكم الذي لا ينبغي للناس أن يخرجوا عليه؟
هل تتوافر في هذا الحاكم الفاسد الظالم الصفات التي من أجلها نقبل
وجوده حتى مع ظلمه وتكبره، أم أنه لا يصلح في الأساس أن يكون
حاكمًا؟
انتخابات مصر وهناك سؤال عجيب يكشف الأمور بجلاء: مَن مِن شعب مصر
اختار الرئيس حسني مبارك زعيمًا للأمة؟! إن الجميع يعلم أن مصر لم
تشهد في تاريخها انتخابات نزيهة، وأن الرئيس مبارك فُرِض على الشعب
فرضًا دون مبايعة، وحتى في المرة التي أُجري فيها انتخابات هزلية مع
اثنين من المنافسين، كانت الانتخابات في غاية السخف، فهي أوَّلاً
مزورة، وثانيًا مع شخصيات منافسة ضعيفة للغاية، لا يمكن للشعب أن
يختارها حتى لو كانت الانتخابات صحيحة، ثم ثالثًا انتهى المطاف
بالمنافسَيْن الاثنين إلى السجون؛ لتكون إشارة واضحة لكل من ينافس
الحاكم الظالم!! ورابعًا تم تبديل الدستور عن طريق مجلس الشعب
المزوَّر؛ ليضمن عدم ترشيح شخصية نظيفة صالحة أمام الرئيس.
أبعد كل هذا نقول: هذا حاكم لا ينبغي الخروج عليه؟ وهذا حاكم نقبل
بزعامته حتى لا تحدث فتنة؟
إن هذا الحاكم أدخلنا في نفق مظلم لا نهاية له، ومن ثَم كان إكمال
المسير في النفق المظلم نوعًا من العبث تأباه الشريعة الحكيمة.
فهذه نقطة مهمة في مسألة الحاكم، فهو سارق للحكم وليس مُبايَعًا من
الشعب.. وهذا مخالفٌ للدين، ومخالف للدستور، ومخالف للعُرف.
ثم هل قام هذا الحاكم بواجباته التي أملتها عليه الشريعة حتى يبقيه
الشعب في كرسيه برغم ظلمه؟
إن الشريعة تلزم الحاكم المسلم أن يحفظ الدين، وأن يقاوم البدع، وأن
يحكم بالعدل، وأن يأخذ الحق للمظلومين، وأن يحمي البلاد، ويقوِّي
الجيش، ويقيم الحدود، وأن يجمع الزكاة وينفقها في مصارفها، وأن يولِّي
الأَكْفَاء الأُمَناء، وغير ذلك من الأمور التي بيَّنتها الشريعة..
فهل يفعل ذلك الحاكم الذي أراد الشعب أن يخلعه؟
فلماذا يأخذ العلماء من الشريعة باب عدم جواز الخروج على الحاكم، ولا
يتباحثون في أبواب أدوار الحاكم ومهامّه؟
إن هذا دينٌ، وذاك دين أيضًا.
وفي هذه النقطة يجدر الإشارة إلى صياغة النص النبوي، فقد قال عبادة
بن الصامت رضي الله عنه عن مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم: «
وأن
لا ننازع الأمر[15] أهله»". أفلا
يعطي هذا التعبير إضافة لقارئ الحديث؟ أو من ناحية أخرى لماذا لم يقل:
"أن لا ننازع الأمر"؟ وتركها هكذا مطلقة دون تقييدها بـ(أهله).
واقع الأمر أن هذا يشير إلى أن المنهيَّ عنه ليس منازعة أي سلطان،
إنما المنهيُّ عنه هو منازعة مَن هو "أهلٌ" للسلطان!
فمن هو "الأهل" للسلطان؟
هو الرجل الذي بايعه الناس، وتحققت فيه شروط الإمامة، وقام بتنفيذ
واجبات الحاكم المسلم.. أما الذي خالف في أحد هذه الأمور فهو متسلِّق
وسارق للحكم وليس أهلاً للسلطان. ويؤيد هذا ما جاء في القرآن الكريم
في قولة تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
فالذي يريد أن يكون إمامًا للمسلمين لا بُدَّ أن يسير على منهج
إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أما الذي يُبدِّل ويحرِّف ويظلم فلا
ينال عهد الله؛ أي لا ينال الإمامة، وإنْ كان من ذرية إبراهيم عليه
الصلاة والسلام؛ أي: ولو كان مسلمًا. وهذا يتناسق تمامًا مع مقاصد
الشريعة، وهو يهدف إلى العدل والرحمة والأمانة والقوَّة في الحق،
وكلها أصول في الشريعة.
سابعًا: لماذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث كلمة
"بواحًا" توصيفًا للكفر؟ سواء كان المقصود بكلمة الكفرِ الكفرَ العملي
أو الاعتقادي؟
فَهِم كثير من العلماء أن المقصود بكلمة الكفر البواح أو المعصية
البواح، هو الكفر أو المعصية التي لا تحتاج إلى تأويل؛ أي إنّ العلماء
متفقون على حرمتها.
وهذا معنى جميل ودقيق وصحيح، ولكني أضيف إليه معنى آخر أراه مهمًّا..
وهو أن هذا الكفر -أو المعصية- معلنٌ به، ومجاهر به؛ لأن كلمة
"بواحًا" تعني "ظاهرًا"، فنحن لا تعنينا المعاصي التي يتوارى بها
السلطان عن الناس، ولا يجوز لنا أن نتجسس عليه، أما المعاصي الظاهرة
فخطيرة، خاصة أنه بوصفه "إمامًا" يُعتبر قدوة لشعبه، فلو ظهرت معصية
كانت سببًا في تفشي المعاصي في الشعب، فما بالكم بمن يشجِّع على
المعاصي، ولا يكتفي بإظهارها..!! فهذه جائزة تُعطى لأديب منحرف
يتعدَّى على أصول الدين، وهذه هدية تُعطى لفنانة تتكشف وتتعرى أمام
الشعب بكامله، وهذا رِبًا يُشجَّع، وهذا بنك إسلامي يُعطَّل، وهذا
حجاب يُخلَع، وهذه لحية تُحلَق، وهذا مجرم في أجهزة الأمن يُعذِّب
المعتقلين السياسيين فيُكافَأ ويرتقي في المناصب، وهذا رئيس تحرير
يُنافِق فيُكرَّم.
هذا هو الكفر البواح، أو المعصية البواح..
ظهور بلا حياء، وإعلان بلا خجل..
وليس التحذير في الخروج على السلطان لمثل هذه النوعية من السلاطين،
بل هؤلاء ينبغي للمسلمين الصادقين أن يبذلوا الجهد والفكر والمال
والنفس لينقذوا أنفسهم والأمة من حكمه، فما لهذا العبث
خُلِقْنَا!
ثامنًا: من الذي خالف الدستور في هذه المسألة؟ هل الثوار أم الحاكم
المستبد؟
ثورة 25 يناير.. لقد تعارف الناس على وضع قانون يحكم العلاقة بينهم؛
ليعرف كل إنسان حقَّه دون تعدٍّ من الآخرين، فلا يظلم الحاكم
المحكومين، ولا يتعدى المحكومون على حق الحاكم.. وكان من المفترض أن
يحتكم الحاكم إلى شرع الله خالصًا دون انتقاء، ولكن عَدَل عن ذلك إلى
دستور وضعي أخذ من القرآن والسُّنَّة كما أخذ من غيرهما.. ومع ذلك فهو
مخالف في أفعاله للدستور الذي ارتضاه، في حين يسير الثوار على دستور
الحاكم دون مخالفة!
فلو رجعنا إلى دستوره -الذي قَبِل أن يحكم البلاد به، ومن ثَمَّ فلا
ينبغي له أن يغضب إذا اتّبع شعبه هذا الدستور- نجد أن المادة (54) من
الدستور المصري تنصُّ على حق الشعب في التظاهر السلمي، والمسيرات التي
لا تسعى إلى التخريب، وأن رجال الشرطة أو أمن الدولة لا دخل لهم بهذه
المسيرات! وراجعوا معي نص هذه المادة: "للمواطنين حق الاجتماع الخاص
في هدوء غير حاملين سلاحًا، ودون حاجة إلى إخطار سابق، ولا يجوز لرجال
الأمن حضور اجتماعاتهم الخاصة، والاجتماعات العامة، والمواكب،
والتجمعات مباحة في حدود القانون".
الله أكبر!!
أليس هذا ما فعله المتظاهرون في يوم 25 يناير، وفي الأيام التي
بعدها؟! فلماذا حضر رجال الأمن اجتماعاتهم بينما الدستور لا يجيز لهم
ذلك؟ وإذا كانت التجمعات والمواكب مباحة، فلماذا يُطْلَق الماء ثم
الرصاص المطاطي ثم الرصاص الحي ثم قنابل المولوتوف على تجمُّعات
المواطنين الذين خرجوا بدون سلاح؟
من هنا الذي خالف الدستور؟
فالمسيرة -إذن- خرجت بإذن الحاكم ضِمنًا، فلماذا الإنكار
عليها؟
فإن قيل: إن هذه المسيرات تطلب من الحاكم التنحي عن الحكم، وهذا خروج
عليه، ولا يتفق مع شرعية الحاكم، ويتنافى مع مبدأ الطاعة له.. إنْ قيل
هذا، فنقول في هذا الأمر نقطتين:
النقطة الأولى: هي ما قلناه سابقًا من أن هذا الحاكم غير شرعي أصلاً؛
لأنه أتى بالتزوير.
والنقطة الثانية -مهمة جدًّا- وهي: أن الدستور المصري ذاته يجعل
شرعية الشعب أعلى من شرعية الحاكم، بل أعلى من شرعية الدستور
ذاته!
وراجعوا الدستور يا شعب مصر؛ حتى لا يضحك عليكم الطغاة، ويخدعكم
المنافقون؛ فالمادة الثالثة من الدستور المصري تقول: "السيادة للشعب
وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها، ويصون
الوحدة الوطنية على الوجه المُبيَّن في الدستور".
فالشرعية الأعلى للشعب، والسيادة الأقوى للشعب..
فلو خرجت عدة ملايين كل يوم في كل محافظات مصر تطلب من الرئيس
التنحي، فإن الرئيس يسقط عندئذٍ بشكل تلقائي، بل يتعطل الدستور،
وتُنفَّذ إرادة الشعب.. وقد ظهر هذا واضحًا جليًّا في الثورة المصرية،
حيث خرجت الملايين بشكل واضح تنادي بإسقاط النظام كله بما فيه الرئيس،
بينما لم يخرج على الجانب الآخر لتأييد الرئيس إلا عدة مئات أو آلاف
على أقصى تقدير، وكان معظمهم من البلطجية ورجال الأمن وسوقة الحزب
الوطني، وقد كان منظرهم مزريًا، وهم ينادون ببقاء الرئيس، وجُلُّهم من
الجهلة والفسقة والمأجورين.. لقد كان منظرًا مهينًا جدًّا
للرئيس.
ولكن الشاهد أن الشعب بخروجه الجماعي هذا أسقط شرعية الرئيس بنص
الدستور، الذي يقبل الرئيس أن يرجع إليه، فلماذا الإنكار على
الثوار؟!
إننا نحتاج بصدق في المرحلة القادمة أن نعرف شيئًا عن حقوقنا، وأن
نزيل الأمية القانونية التي نُعاني منها، فقد خدعونا في هذه الثورة
بأن تنحي الرئيس سيسبِّب مشكلة دستورية لا مخرج منها! بينما الواقع أن
الدستور يُلزِم الرئيس بالتنحي إذا اجتمع شعبه على ذلك، فضلاً عن أن
الرئيس ذاته، وحكومته ذاتها، ما كانوا يعبئون مطلقًا بالدستور في
تصرفاتهم، فقد كنا نعيش حقيقةً في دولة بلا قانون!!
تاسعًا: المنازعة الواردة في الحديث تدور بين رجلين، لكل واحد منهما
أنصار:
ومن ثَم فاحتمال الفتنة وارد، واحتمال عدم توقف الحرب كبير، لكن هذا
الحديث لا يُسقَط على واقعنا في هذه الثورة.. وليسأل كل واحد منا
نفسه: مَن هذا الرجل الذي خرج الناس يطلبون تعيينه كرئيس بدلاً من
مبارك؟ إنك لو سألت خمسين رجلاً من الثوار لعلك تخرج بخمسين اسمًا
لمرشحين للرئاسة! إن الثائرين لم يخرجوا طلبًا لملك معين، أو انحيازًا
لشخص بذاته.. بل إننا -وحتى لحظة كتابة هذه السطور، وبعد نجاح الثورة-
لا نتفق على اسم واحد، ولا حتى على عشرة أسماء.
فالصدام لم يكن بين زعيمين نخشى فناء قوة كلِّ واحدٍ منهما في
الصراع، إنما كان الصدام بين الشعب -بكل ما تحمله هذه الكلمة من ثِقل
وقوة- وبين زعيم مستبد، معه حاشية فاسدة معظمها يحترف الإجرام.. فأين
الفتنة هنا؟!
فهل إذا تسلَّط عدة مئات أو آلاف من المرتشين والمجرمين واللصوص
والمدلسين والمنافقين على مقدرات وممتلكات خمسة وثمانين مليون إنسان،
فعلى الملايين أن ترضخ اتقاءً للفتنة؟!
إنني -والله- لا أبالغ في هذا الكلام!
إن كل وزارة أو هيئة يسيطر على مقدراتها المالية ويستنزفها عدة أفراد
لعلهم لا يتجاوزون عشرين أو ثلاثين، بينما يعيش عشرات الآلاف في داخل
الوزارة أو مئات الآلاف -إذا نظرنا إلى أسرهم- في حالةٍ من الفقر
المدقع!
فهل إذا خرج الشعب المقهور هذا يطلب من القلة الفاجرة التي سرقت
بغباء، وتجاوزت باستهزاء، أن تكفّ عن السرقة يصبح الشعب في هذه الحالة
مخطئًا خطأً شرعيًّا؟
إن واقع الأمر -أيها العلماء الأجلاء- أنني لا أرى المنازعة الواردة
في الحديث منطبقة أبدًا على الظرف الذي نعيشه، فلا داعي لتحميل النص
النبوي ما لا يطيق؛ فإن تحريم الحلال كتحليل الحرام سواءً
بسواء.
عاشرًا: لماذا يعتمد العلماء المحدثون في زماننا الآن على اجتهادات
العلماء الأجلاء من السلف، دون محاولة الاجتهاد من جديد تبعًا
لمتغيرات العصر الذي نعيشه؟
إنني أعلم قيمة علماء السلف وأقدِّرهم، بل إنني أدرِّس للناس عظمتهم
ومكانتهم، لكنهم -جزاهم الله خيرًا- بذلوا جهدهم في الاجتهاد في ظروف
قد تكون تغيرت كثيرًا الآن، والنصوص القرآنية والنبوية نصوص معجزة
تصلح لكل زمان ومكان؛ فمِن نفس النص الذي استنبط منه أحد العلماء
حكمًا معينًا في زمان معين، قد يستنبط عالم آخر حكمًا مغايرًا له في
زمان مختلف.. وإلاَّ فلماذا اختلف الفقهاء الأربعة مثلاً في كثير من
الأحكام؟ ولماذا ظهر بعد زمان الفقهاء الأربعة من يجتهد من جديد
كالطبري والغزالي والنووي؟ ولماذا ظهر بعدهم الذهبي وابن حجر وابن
تيمية؟
إن الآليات الجديدة التي ظهرت في زماننا تحتاج إلى وقفة جادة من
الفقهاء؛ لإعادة النظر في النصوص لنعلم مراد الله عز وجل، ومراد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في ظل الظروف الجديدة التي تمر بها
الأمة.. إننا نعيش في زمان كثرت فيها أعداد الناس جدًّا، وتغيرت فيها
وسائل الاتصالات، وظهرت نوعيات جديدة من الظروف، بل لعلِّي أجزم أن
علماءنا من السلف ما كانوا يتخيلون أنه سيأتي حاكم من المسلمين
يُجنِّب كتاب الله عز وجل، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويشرِّع
للناس من القوانين الصليبية؛ ولهذا حذَّروا بشدة من الخروج على
الحاكم، ولو رأوا أمثال حكام هذا الزمان فلعلهم يكونون في مقدمة
الثوَّار!
كانت هذه هي الوقفة العاشرة مع حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم..
فتلك عشرة كاملة!
ومع ذلك فالحديث عن الفتنة التي ذكرها بعض العلماء توصيفًا للثورة لم
ينته، فهناك عدَّة أسئلة ما زالت تدور في أذهان القراء لم أجب عنها،
وهناك بعض الأحاديث المهمة في هذا الباب لم نناقشها، وهناك العديد من
الأمثلة التاريخية لم نقف عليها، وكل هذا سيوضِّح لنا الصورة -بإذن
الله- بشكل أكبر، ولكنه سيكون في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال
بإذن الله.
وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
الاثنين 21 شباط/فبراير 2011
-------------------------------
[1] رواه البخاري (6481).
[2] رواه البخاري (6647)، ومسلم (1709).
[3] شرح النووي على مسلم 12/229.
[4] رواه ابن حبان في صحيحه (4566)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده
حسن.
[5] رواه أحمد (22789)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح، وهذا إسناد
حسن من أجل ابن ثوبان.
[6] رواه الحاكم في مستدركه (3219)، وصححه الذهبي في التلخيص.
[7] تفسير الطبري 10/355.
[8] رواه النسائي (463)، والترمذي (2621)، وابن ماجه (1079)، وصححه
الألباني.
[9] رواه البخاري (48)، ومسلم (64).
[10] رواه مسلم (68).
[11] رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وقال: هذا حديث
صحيح.
[12] رواه أبو داود (4344)، والترمذي (2174)، وابن ماجه (4011)،
وصححه الألباني.
[13] الهيتمي المكي: الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/170.
[14] ابن حجر: فتح الباري 13/8.
[15] أي: الملك والإمارة.