رَضِـينـَـا باللَّهِ مُـشـرِّعـًا
ملفات متنوعة
إن كل تشريع يستمد كماله مِن كمال مشرعه، فكلما كان المشرع خبيرًا
بواقع مَن يشرِّع لهم، عليمًا بماضيهم التشريعي، رحيمًا شفوقًـًا بهم،
متجردًا مِن أهوائه الشخصية وما ورثه مِن بيئته، مترفعًا على مصالحه
ومصالح ذويه المادية؛ قلت الأخطاء في تشريعاته..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن كل تشريع يستمد كماله مِن كمال مشرعه، فكلما كان المشرع خبيرًا
بواقع مَن يشرِّع لهم، عليمًا بماضيهم التشريعي، رحيمًا شفوقًـًا بهم،
متجردًا مِن أهوائه الشخصية وما ورثه مِن بيئته، مترفعًا على مصالحه
ومصالح ذويه المادية؛ قلت الأخطاء في تشريعاته، والعكس بالعكس.
ولما كان الله -سبحانه وتعالى- له الكمال المطلق في ذاته، وأسمائه
وصفاته، وتشريعاته؛ فقد سلمت التشريعات الإلهية مِن الأخطاء، ولم ينشأ
عن تطبيقها قصور أو أخطاء، أو ردود أفعال، ولم تشقَ البشرية بتشريعات
الله -تعالى-؛ وذلك إنما يرجع إلى كمال المُشرِّع -سبحانه وتعالى-،
وإحاطة علمه بكل شيء؛ قال الله -تعالى-: {
أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
} [الملك:14].
والمشرع يجب أن يكون عليمًا خبيرًا، لطيفًا رحيمًا، قادرًا مقتدرًا،
ولما كانت هذه الصفات منتفية في أحد مِن خلقه -سبحانه-؛ كان التشريع
حقًا خالصًا له -سبحانه-.
قال -تعالى-: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
[الأعراف:54]، وقال -تعالى-: {
إِنِ الْحُكْمُ إِلا
لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ
} (يوسف:40)، وقال -تعالى-: {
وَلا يُشْرِكُ فِي
حُكْمِهِ أَحَدًا}
[الكهف:26].
وأهم ما يُستدل به على نقص قدرة البشر على التشريع: الصفة الملاصقة
له بأنه مخلوق، فإذا كان لا يملك لنفسه قدرة على الإيجاد والخلق؛ فكيف
يجد له فضلاً لغيره قدرة في أن يشرِّع ما يصلحه ويصلح غيره {
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
[الأعراف:54].
ومما اتفقت عليه أصحاب العقول السليمة أن الإنسان محدود العلم ضعيف
الإرادة، تغلب عليه البيئة فتتحكم في إرادته وأهوائه وعاداته، وتؤثر
في اتخاذ حكمه وقراره؛ لذا لم تسلم التشريعات البشرية على مر العصور
مِن الأهواء والأخطاء، ولا أدل على ذلك مِن أن التشريعات البشرية
تتغير من آن لآخر لما يكتشفه الإنسان عند التطبيق مِن الأخطاء التي
تشقى بها البشرية دهورًا طويلة، ولا يفطن إليها إلى بعد أن تشقيهم
وتعنتهم.
والله -سبحانه- وفـَّر على المسلمين الوقت والجهد، ووقاهم شرور
التجارب التي قد تفشل، ولا يفطنون إلى فشلها إلا بعد أن تشقيهم
وتعنتهم؛ فأنزل إليهم منهجه القويم ليستقيموا عليه في الدنيا، وما ترك
الإسلام شيئًا إلا وبيَّنه بيانًا شافيًا في القرآن الكريم والسنة
المطهرة، قال -تعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا
لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ
} [النحل:89].
فالشريعة الإسلامية المستمدة مِن نور الوحي قرآنًا وسنة صالحة لأن
تكون نظامًا يقود البشرية في هذه الحياة إلى أقوم طريق، فلو أخذ الناس
أنفسهم بالإسلام كمنهج لاستقامت أمورهم في الدنيا، ولسعدوا سعادة لا
تتحقق لهم بالتزامهم أي منهج آخر.
ومِن ناحية أخرى: فإن مقتدى التسليم لدين الله -عز وجل- الذي ارتضاه
للعالمين {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ
} [آل عمران:19]، يُفرض عليهم
توحيد الله والانقياد لشرعه، والاستسلام لحكمه، والخضوع لأمره ونهيه،
والإخلاص له -عز وجل- في ذلك كله.
لذا كان مَن نصب نفسه لسن القوانين، وتشريع الدساتير المخالِفة لشرع
الله طاغوتًا متجاوزًا حده في أمر الله وطاعته؛ لأنه نازع الله في حق
مِن حقوقه -سبحانه-، وسار المتحاكمون إلى غير شرع الله -عز وجل-
يتحاكمون إلى الطاغوت؛ لأنهم استبدلوا بشرع الله الصالح لهم والضامن
لهم السعادة في الدارين شرع العجزة والضًّعَـفة والجهلة! {
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ
أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ
يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا}
[النساء:60].
وهذا إنكار مِن الخالق -سبحانه- على مَن يدعي الإيمان بما أنزل الله
على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك
يريد أن يتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه
وسلم-.
قال -تعالى-: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
} [النساء:65].
يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: "يقسِم الله بنفسه
الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكِّم الرسول -صلى الله عليه
وسلم- في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له
ظاهرًا وباطنًا؛ ولهذا قال: (بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، أي:
إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم؛ فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضيت به
وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلموا لذلك تسليمًا كليًا، مِن غير
ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة" (ابن كثير1/691).
وتحكيم النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هو تحكيم الله -عز وجل-؛ لأن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يحكم مِن قِبَل نفسه، قال -تعالى-: {
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ
إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4]،
فالتحاكم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هو تحاكم إلى الله؛ لأن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- حاكم بشرع الله، فوجب الامتثال لأمره،
والرضا والقبول لحكمه -صلى الله عليه وسلم-.
قال -تعالى-: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا
دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ
يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
} [النور:51].
وإذا سلمنا أن العصمة في شرع الله -عز وجل- العليم اللطيف الذي خلق
الخلق، ويعلم ما يصلحهم وما يفسدهم، ويعلم ما في الصدور وما تنصلح به
القلوب وتسعد به النفوس، كان لمعنى الامتثال والتسليم عمق آخر تحمل
صاحبها على الرضا الذي ينال به المرء رفع الدرجات وكتابة الحسنات
وتكفير السيئات، وتجعل لديه رغبة داخلية تصرفه عن السوء والمنكر،
وتحمله على الخير والبر؛ لأن شريعة الله جاءت بمطالب الروح والبدن
جميعـًا، وتكفلت بإصلاح القلوب وتربية النفوس، وهذه في الحقيقة هي
القوة المؤثرة التي تميز أتباع المنهج والمتحاكمون إلى الشرع.
هذه الحقيقة هي: مراقبة الله في السر والعلن، فالعبد يترك المحذور في
الظاهر والباطن والسر والعلن عالمًا أن عين الله تلحظه يخاف العقاب،
فاعلاً للمأمور سرًا وجهرًا، يرجو الثواب.
أما التشريع الوضعي: فقد اهتم بالظاهر وأغفل الباطن؛ فإذا وجد
الإنسان فرصة للخروج على القانون دون أن يُضبط فلا جناح عليه ما دامت
عين القانون لم تلمحه، لدرجة أن بعض الفلاسفة المنحرفين مثل: "فريدريك
نيتشه"، الذي أشاد به اليهود وروَّجوا له، يقول: "إذا أمكنك أن تخرق
القانون الوضعي فاهدمه إذا استطعت هدمَه، إذا كان ذلك في مصلحتك بشرط
ألا تقع تحت طائلته".
فشتان الفارق بيْن قانون وضعي يحمل أتباعه على الإعراض، وبين امتثال
المؤمنين لقانون مالك الملك رغبة منهم وطاعة: {
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ
الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ }
[النور:51].