ثلاثون يوما في سجون مبارك
عامر عبد المنعم
اقتحام الشعب المصري لمقار مباحث أمن الدولة ومطاردة الجلادين وأباطرة
التعذيب كان رد فعل طبيعي ضد هذا الجهاز الذي مارس الإرهاب ونشر الرعب
في البلاد، وسام السياسيين وخاصة الشباب الإسلامي سوء العذاب في ظل
حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
اقتحام الشعب المصري لمقار مباحث أمن الدولة ومطاردة الجلادين
وأباطرة التعذيب كان رد فعل طبيعي ضد هذا الجهاز الذي مارس الإرهاب
ونشر الرعب في البلاد، وسام السياسيين وخاصة الشباب الإسلامي سوء
العذاب في ظل حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك.
إن فظائع التعذيب وإهدار الآدمية في العهد السابق فاقت كل ما سمعنا
عنه عبر العصور. لقد استطاع الجلادون الذين رباهم نظام مبارك ارتكاب
جرائم ضد الإنسانية لم يكشف عن معظمها حتى الآن.
وشاء الله أن أكون شاهدا على جانب من هذه الجرائم في عام 1992 عندما
اعتقلتني وزارة الداخلية 30 يوما لأشاهد بنفسي جانبا مظلما من تاريخ
مصر، وأوثق في حينها بعض وقائع التعذيب التي تعرض لها البعض من الشباب
الإسلامي، من خلال تجربة شخصية رويت تفاصيلها في جريدة الشعب من خلال
خمس حلقات، كتبت فيها مشاهداتي عن إهدار الآدمية في سجون مبارك والتي
كانت بحق مقابر تضم الآلاف من الأحياء.
وكانت هذه الأيام التي قضيتها في قبضة الجلادين منحة ربانية بالنسبة
لي، ولم تكن شرا كما قد يظن البعض، وكان فضل الله علي عظيما. لقد كانت
قناعتي أن الله اختارني واستعملني في هذا الوقت لفضح التعذيب الذي
يتعرض له الشباب الإسلامي، وكشف معاناة المظلومين على أيدي الجلادين
في الأوكار المظلمة.
وأود أن أقرر حقيقة، وهي أن وسائل التعذيب في بداية التسعينات التي
رويت مشاهداتي عنها تطورت فيما بعد إلى وسائل أكثر بشاعة، ولم يرو أحد
هذه الفظائع حتى الآن.
ورغم أنني كتبت شهادتي على التعذيب منذ 18 عاما فإنني رأيت أن إعادة
نشرها يوضح أن ثورة 25 يناير المجيدة لم تبدأ في يناير وإنما هي حصاد
جهاد سنين لقوي وتيارات ورموز. شارك في هذا الجهاد شباب مصري وقفوا
بكل جرأة ضد مبارك ودفعوا ثمن رفضهم للنظام بالتعرض للتعذيب وقضاء
أعمارهم في السجون.
وقد شاهدت الكثير من هؤلاء المعتقلين السابقين في ميدان التحرير منذ
بداية الثورة وحتى تنحي مبارك، ينصبون خيامهم في صمت لإسقاط النظام
ولم يحرصوا على الظهور والوقوف أمام الكاميرات.
فيما يلي الحلقات الخمس كما نشرت في حينها:
الحلقة الأولى: ثلاثون يوماً في مقابر الأحياء
---------------------------------------------
..الحكومة التي تذل شعبها وتعتقل شبابها وتعذب نساءها وتهين شيوخها،
ما كان لها أن تحيا فضلاً عن أن ترفع رأسها بين الأمم، والحكومة التي
تقوم على الظلم والبطش والطغيان لن تعيش طويلاً مهما زين لها
المنافقون ودافع عنها أصحاب المصالح والمنتفعون، ففي الوقت الذي نرى
فيه حكامنا يمدون أيديهم لليهود ويصافحون المجرمين سافكي الدماء،
ويبحثون عن السلام الذليل مع الصهاينة، نراهم يعلنون الحرب علينا،
وبدلاً من أن يصوبوا المدافع إلى أعدائنا نراها مصوبة إلى صدورنا
العارية..وبدلاً من أن تضع الحكومة يدها في أيدينا كي نواجه الهجمة
الغربية الشرسة على بلادنا ومقدرات أمتنا، راح أهل الحكم في مصر
يصدرون القوانين ويفتحون السجون والمعتقلات للأحرار والشرفاء، ليكمموا
الأفواه ويبطشوا بكل معارض، وأصبح المصري غير آمن على نفسه في بلده
وبين أهله وعشيرته .. وكان آخر ما ابتدعوه ما يسمى بقانون مكافحة
الإرهاب، هذا القانون الذي يحاكمنا على الخطرات والأفكار التي تدور في
أذهاننا، القانون الذي يكشف حقيقة الوجه القبيح للذين يحكموننا بغير
إرادتنا..وكان من قدري أن أكون من ضحايا هذا القانون لأذوق من مرارة
الكأس الذي أعدوه لكل الأحرار في مصر.
ففي فجر يوم الاثنين 20 يوليو ، بينما أنا نائم في بيتي فوجئت بطرقات
شديدة على الباب، فقمت أنا وزوجتي مفزوعين. من أول وهلة تأكدت أنهم
زوار الفجر, ترددت لحظات، لا أدري ماذا أفعل. الطرقات تزداد شدة .. يا
إلهي الباب قد يتحطم. أسرعت وفتحت الباب، فأنا أعلم ماذا يمكن أن يحدث
إذا تأخرت لبعض الوقت. وما أن فتحت الباب حتى امتلأ البيت بعدد كبير
من الضباط، أحدهم يحمل في يده بندقية غريبة الشكل، أعتقد أنها خاصة
بالقنابل المسيلة للدموع !! انتشروا في كل أنحاء المنزل وكان كل واحد
منهم يعرف مهمته. كل في مكان يفتشه .. لم يتركوا شبراً إلا وفتشوه،
وبعد أن وجدوا ضالتهم هموا بالخروج.
كانت الغنيمة والمضبوطات الخطيرة التي عثروا عليها هي كالتالي : شنطة
مليئة برسائل القراء متضمنة حلول المسابقة الرمضانية ، ثلاث أجندات
بها أرقام تليفونات مصادري خلال العمل الصحفي منذ سنوات، وثيقة زواجي،
عقد إيجار شقتي، بعض قصاصات من الصحف تتضمن مقالات لكبار الكتاب،
تحقيقات صحفية من قضايا متفرقة، وبيانات للجماعة الإسلامية، لا توجد
منه نسخة مكررة، وهذه أشياء موجودة لدى معظم الصحفيين ..
اقتادوني إلى مبنى مباحث أمن الدولة بالجيزة، مكثت حوالي 15 ساعة، ثم
استدعوني للتحقيق، سألوني عدة أسئلة متفرقة لا تدور حول موضوع معين،
وقال لي أحدهم ألا تعلم إن هذه المطبوعات (مطبوعات الجماعة الإسلامية)
مجرمة في قانون الإرهاب الجديد، فأجبته بأنني بحكم عملي الصحفي فإني
أقرأ كل شئ، فتساءل : ولماذا أنت بالذات يرسلون لك هذه المطبوعات ؟
فقلت له : وما أدراك أنني فقط ؟ فأنا اعتقد أن معظم الصحفيين ستجد
لديهم مثل الذي عندي فكل صحفي لديه أرشيف خاص به، ومن يعمل في مجال
الصحافة لابد أن يتابع ما يحدث في بلده سواء من تيارات إسلامية أو
غيرها وأنا لميولي الإسلامية ترسل لي هذه الأشياء وتطرقت المناقشة إلى
السياسة المصرية داخلياً وخارجياً.. وإحقاقا للحق فإنني لم أتعرض لأي
سوء، إلا أنني كنت معصوب العينيين.
في نهاية الجلسة قال لي أحدهم: نحن مضطرون لأن نحيلك إلى النيابة
ونتمنى أن يطلق سراحك، وأخرجوني لأعود إلى الحجز، وهو عبارة عن غرفة
خشبية مظلمة رأيت فيها بعض المقبوض عليهم من محطات السكك الحديدية
والشوارع وكلهم من الشباب الإسلامي ورأيت بينهم مواطناً جاء من أسوان
حاول مقابلة رئيس الجمهورية في جامعة القاهرة أثناء انعقاد مؤتمر
الحزب الوطني لتقديم شكوى خاصة به ففوجئ بالمباحث التي كانت تملأ
المكان يقتادونه إلى أمن الدولة.
تهم ساذجة
قضيت ليلتي حتى الصباح وتم عرضي على نيابة أمن الدولة بتهمة حيازة
منشورات تحض على كراهية نظام الحكم وتوزيعها باليد ..
فقلت لوكيل النيابة : إنني صحفي بجريدة الشعب، ورئيس تحرير جريدة صوت
الشعب ، وأعبر عن رأيي بحرية تامة، وما أكتبه يقرأه مئات الألوف، ومن
السذاجة أن أتهم بأنني أوزع منشورات .. لكن النيابة أمرت بحبسي 15
يوماً، وتم ترحيلي إلى سجن استقبال طرة حيث سجنوني في زنزانة
انفرادية.
بمجرد دخولي صدمت .. يا إلهي ما هذه الزنزانة؟ إنها قبر .. نعم قبر..
الزنزانة مساحتها 1.5متر×3متر وبها دورة مياه، لا توجد بها فتحات
للتهوية، يوجد شباك بأعلى الزنزانة مسدود بالخرسانة المسلحة ، وأخبرني
المعتقلون أن محمد عوض مأمور السجن السابق ـ هو الذي سده ليمنع الهواء
والشمس والضوء عن المعتقلين.
الزنزانة مظلمة و الحصول على المياه عملية صعبة جداً، وينبغي عليك أن
تكون من هواة تسلق الجبال والمرتفعات، فلا يوجد داخل الزنزانة حنفية
سوى محبس في أعلى السقف، إذا أردت ماء كان عليَّ أن أتسلق الحائط الذي
يفصل بين الزنزانة ودورة المياه، والذي يبلغ ارتفاعه ثلاثة
أمتار.
ونظراً لقلة التهوية داخل الزنزانة فقد انتشرت جميع أنواع الحشرات
بالإضافة إلى الطفح المستمر للمجاري، وتشبع جو الزنزانة بالبخار يصيبك
بالغثيان..وهذه القبور تطوي بين جدرانها المظلمة عشرات الأحياء جاءوا
من مناطق شتى لا لشيء إلا أنهم يقولون ربنا الله .. مكثت في هذه
الزنزانة عدة أيام..
إهدار الآدمية
وفي يوم الاثنين 27يوليو استدعوني وأوهموني بأن محامياً جاء لزيارتي
فخرجت ولم يدر بخلدي ما يدبر لي، أجلسوني في غرفة قريبة من البوابة
وأغلقوا بابها ووضعوا حراسة على الباب ـ كان هذا في حوالي الثانية
ظهراً ــ طال انتظاري وبدأت أشعر بالقلق، أردت أن أستكشف الأمر
فافتعلت مشكلة مع الحراس، وخرجت أنظر عسى أن أجد شيئاً، كان السجن
خالياً من الزائرين. أدخلوني بسرعة وأغلقوا عليَّ الباب.. شعرت أن
هناك أمراً ما يدبر لي في الخفاء. لم يطل انتظاري كثيراً وإذا بالباب
يفتح بقوة ويقتحم الغرفة حوالي 15شخصاً يهجمون نحوي، أحدهم يمسك في
يده القيد الحديدي (الكلابش) وآخر شاهر في وجهي قطعة قماش لتعصب عيني
رأيت في عيونهم الشر .. طلبت منهم أن يسمحوا لي بأن أرتدي ملابسي
وأذهب معهم صرخوا في وجهي ( ستأتي معنا الآن ) وهجموا عليّ. حاولت
المقاومة ولكن ماذا تجدي شجاعة مع كثرة عاتية ؟! وأسفرت هذه المعركة
غير المتكافئة عن تمزيق جلبابي ووضع الكلابش في يدي خلف ظهري وتعصيب
عيني وبعض اللكمات. اقتادوني إلى غرفة أخرى ودخل عليَّ أحدهم ووجه لي
بعض الشتائم ولكمني بقبضة يده في ظهري .
بدأت أشعر أن القيد الحديدي يغوص في يدي، فهو نوع حديث أمريكي الصنع
يختلف عن الكلبشات التي نعرفها، فمع كل حركة لليد يضيق أكثر مثل
السوستة .. صرخت فيهم وطلبت منهم أن يفتحوا القيد درجة واحدة ولكن دون
جدوى .
ساقوني أمامهم كما تساق الخراف إلى خارج السجن ووضعوني في سيارة
ملاكي وغطوني بجلبابي الممزق، وفي هذه الأثناء انقطعت عن الدنيا
تماماً، وبدأت أشعر أنني ذاهب إلى بيت الجلادين، مقر مباحث أمن الدولة
، وكم هو إحساس مخيف أن ترى نفسك مقيد الحركة تماماً وفاقد الرؤية
وممزق الثياب ولا أحد يعلم عنك شيئاً ولا حول ولا قوة إلا بالله. كانت
الدقائق تمر كأنها سنوات. أخيراً توقفت السيارة ساقوني أمامهم وصعدت
سلالم وأوقفوني أمام أحد المكاتب. فكوا القيد الحديدي، وفي هذه اللحظة
لم أشعر بيدي اليسرى، لقد تورمت .. وبعد دقائق أدخلوني إلى غرفة كنت
أرتدي بنطلوناً وفانلة وكأنني من عتاة المجرمين، أو أحد قيادات
المافيا .. وبدأ التحقيق شعرت بأن الغرفة بها عدد كبير من المحققين.
لم أرى أحداً منهم. قال لي أحدهم : احكي قصة حياتك وتحدث بصراحة
بالذوق ولا تضطرنا لأساليب أخرى أنت تعرفها ..
فقلت له :اسألني وأنا أجيبك .. فصاح قائلاً : نحن نعرف عنك كل شيء
ولن نسألك وإنما سنتركك تتحدث ونحن نسمع لك ، فقص علينا كيف بدأت
تلتزم ؟ وما نشاطك داخل الجامعة ؟
بدأت أروي، لهم فليس لدي ما أخفيه ، سألوني عن أفراد الجماعة
الإسلامية الذين أعرفهم ، أو الذين يترددون على الجريدة، والذين يأتون
بأخبار أو مقالات، والمحامين الإسلاميين الذين أعرفهم .. فأخبرتهم أني
لا أعرف أحداً ..وإذا كان هناك من يأتي بأخبار فإنه لا يذكر اسمه
للأسباب الأمنية .
ولكن يبدو أن إجابتي لم تعجبهم.. سألوني عن المطبوعات التي وجدوها في
منزلي فأخبرتهم أنها وصلتني بالبريد وهي أوراق عادية وموجودة لدى
الصحفيين .
كرروا هذه الأسئلة عدة مرات ثم أخرجوني لبعض الوقت بعدها أدخلوني مرة
أخرى، وسألوني نفس الأسئلة واستمر التحقيق عدة مرات بعدها صرخ أحدهم
في وجهي :( أنت مش نافع معاك الذوق وسأجعلك تتكلم ) وأخرجوني ثم وضعوا
القيود في يدي من الخلف وأدخلوني .
فصل من التعذيب
وبدأ معي ما كنت أسمع عنه وأكتبه نقلاً عن الآخرين بدأ فصل من فصول
التعذيب الهمجي، أمسك أحدهم بلحيتي وصرخ في وجهي، كان صوته غليظاً
كأنه أحد القادمين من قعر التاريخ، وبدأ يصعقني بالكهرباء في رقبتي
وفي صدري .. لم أر شكل الآلة التي يستخدمها إلا أنها تصدر فرقعات مثل
المدفع الرشاش بدأ جسدي ينتفض بشدة .. صرخت كانت صرخاتي عالية، كنت
أصرخ من أعماقي. أصبت بحالة هستيرية، ومع كل صعقة تخرج مني صرخة مدوية
تزلزل أركان المكان، لم أكن أعرف من قبل أن هناك آدميين بهذه القسوة
والطغيان، لا أستطيع أن أعبر عن مدى بشاعة الإحساس في تلك اللحظات؛
فقد شعرت أنني لست إنساناً ولا حتى حيواناً .. وحوش كاسرة جاءوا من
عالم غير عالمنا يستأسدون على أسير عاجز عن المقاومة.
أصعب شيء على الإنسان أن يرى نفسه عاجزاً عن الدفاع عن نفسه أمام
زبانية وطواغيت باعوا أنفسهم للشيطان، وكم تمنيت في تلك اللحظات أن
أموت على أيدي هؤلاء الجلادين المجرمين.
كنت في ذهول مما يحدث فأنا لم أرتكب جرماً ولم أقترف إثماً، ولكن كان
عزائي الوحيد أنني أقول ربي الله .
شعرت بأن الدنيا تدور بي، وحقيقة لم أجد مبرراً لما يحدث ولا أعرف
اتهاما محدداً ، قلت لهم : ليس لدي شيء وما عندي قلته لكم فلماذا
تعذبونني؟ فصرخ فيَّ هذا الطاغية الذي يصعقني، صاح بصوته الأجش قائلاً
: ( لكي تنجّي نفسك من هذا العذاب ليس أمامك إلا حل واحد ، لابد أن
تنكسر ، ودعك مما أنت فيه وانظر إلى مستقبلك .. أما إذا كنت مصراً على
ما أنت عليه فنحن على استعداد لئلا ندعك تبيت أسبوعاً واحداً في بيتك
ونحن قادرون على أن نلفق لك قضية ، ونعد لك محضر تحريات ( ما يخرش
المية ) وأنت عارف أن قانون الإرهاب الجديد أقل عقوبة فيه 5 سنوات
وسنتركك تفكر) .
وتوقف التعذيب وأخرجوني من الغرفة، كنت أقف على قدمي بصعوبة فجلست
على الأرض أسترد أنفاسي لمدة ربع ساعة تقريباً، بعدها أدخلوني مرة
ثانية وسألوني نفس الأسئلة .
في اللحظات التي كنت أجلس فيها خارج الغرفة كنت أشعر بأن هناك
محتجزين آخرين لم يحقق معهم فقد كانوا متفرغين لي وحدي، وما استطعت أن
أسمعه تألم أحد المعتقلين، وهو يطلب منهم أن يقف بجوار الشباك ليستنشق
بعض الهواء.
أستمر التحقيق معي حتى الثانية صباحاً، ثم ساقوني أمامهم في الطرقات
ومن يمسك بي يأمرني بأن أطأطيء رأسي ليوهمني بأنني أسير داخل أنفاق،
ثم وضعوني في عربة انطلقت بي وأعادتني إلى سجن الاستقبال مرة أخرى، كل
هذا وأنا مازلت معصوب العينين لم أر أحداً منذ خرجت منذ أذان العصر
حتى عودتي مرة أخرى في الثالثة صباحاً.
عودة إلى السجن
وصلت إلى السجن منهك القوى تماماً ..ألقوا بي في زنزانة مظلمة ارتميت
ولم أشعر بنفسي إلا بالباب يفتح عليَّ في العاشرة من صباح اليوم
التالي ومكثت في هذه الزنزانة لعدة أيام . حدث أن أصبت بمغص كلوي حاد
قبل انتهاء فترة الحبس الاحتياطي الأولى حيث أعالج من التهاب في
الكلى، ونظراً لعدم تناول العلاج طوال هذه المدة ولسوء جو الزنزانة
تدهورت حالتي؛ فأتوا بطبيب السجن الذي أمر بإخراجي من هذه المقبرة،
وتسكيني في الدور الثاني حيث الزنازين صحية نوعاً ما .. وأمر بشراء
الدواء من الخارج ، إلا أنني علمت أن مأمور السجن رفض هذا وورد إلى
علمي أن هناك أوامر من مباحث أمن الدولة بتسكيني انفراديا. . عرضت يدي
اليسرى على طبيب السجن لتشخيص ما أصابها فكان التشخيص : تهتك في أعصاب
الأطراف نتج عنها فقدان الإحساس في ظاهر الكف وأعطاني بعض
الفيتامينات، وما زالت يدي حتى الآن لم تشف بعد وإن كانت قد تحسنت
كثيراً بعد العلاج الذي تابعه الدكتور (نبيل زاهر ) المعتقل حالياً
بالسجن .
بعد انتهاء مدة الحبس الأولى تم عرضي على النيابة التي أثبتت
الإصابات وأحالتني إلى الطبيب الشرعي وأمرت في نفس الوقت باستمرار
حبسي 15 يوماً أخرى. وفي هذه الأثناء كانت الضغوط التي مارسها الأستاذ
(مكرم محمد أحمد) نقيب الصحفيين تؤتي ثمارها، وكذلك الجهود التي بذلها
حزب العمل وخاصة الأب الفاضل الأستاذ ( إبراهيم شكري ) وتضامن الزملاء
الصحفيين ..كل هذا أدى إلى تحسين المعاملة داخل السجن؛ فوافقوا على
نقلي من المقبرة إلى الدور الثاني حيث الزنازين الجماعية لأقضي باقي
أيامي مع المعتقلين .
حكاية مصلحة السجون
فاجأني ما نشر على لسان مدير مصلحة السجون من أنني لم أتعرض للتعذيب
في السجن، وأن هناك إقرار بخط يدي يثبت ذلك !! فوجئت لأن هذا الكلام
غير دقيق .
فالحقيقة أن الأستاذ ( علاء عامر ) المحامي تقدم ببلاغ للنائب العام
ضد وزير الداخلية ومصلحة السجون لاضطهادي داخل السجن وحبسي في زنزانة
انفرادية غير آدمية، وكان من المفترض أن يرسل النائب العام عضوا من
النيابة إلى السجن للتحقيق في هذه الاتهامات .. إلا أن ما حدث أن
النائب العام أحال البلاغ إلى مصلحة السجون، فتم استدعائي إلى إدارة
السجن لمقابلة العقيد ( سامي عبد اللطيف) مفتش مباحث المصلحة والمقدم
( علاء الدين صالح ) رئيس مباحث المصلحة وأخبراني أنهما جاءا للتحقيق
في البلاغ المقدم من الأستاذ (علاء عامر )
ففاجأني هذا الإجراء؛ إذ كيف يكون الخصم هو الحكم؛ فإدارة السجن
ومصلحة السجون ومباحث أمن الدولة ووزير الداخلية كلهم خصوم بالنسبة
لي؛ لأنهم جهة واحدة ..فكيف يحقق معي مسئول من المصلحة وأنا سجين
لديهم ؟!!
وخاصة أن معظم المسئولين في مصلحة السجون كانوا ضباطاً في مباحث أمن
الدولة، كما أخبرني بذلك المقدم (حلمي هاشم ) المعتقل حالياً بسجن
الاستقبال لانتمائه الإسلامي ، وقد كان يشغل منصب نائب مأمور سجن أبو
زعبل، ثم رئيس لجنة العلاقات الإنسانية بمصلحة السجون لضمان السيطرة
الكاملة على السجون .
ولا أنكر أن العقيد (سامي عبد اللطيف) والمقدم (علاء صالح) أبديا
استعدادهما لتذليل كافة العقبات وتلبية جميع طلباتي، وقالا لي أن ما
يسألاني عنه هو : هل هناك مشاكل مع إدارة السجن ؟ فقط ولا صلة لهما
بما حدث في أمن الدولة !!
وعندما وصلنا إلى ما حدث ليدي اليسرى داخل السجن قالا:إن التحقيق قد
يتوسع ليشمل كل من في السجن، وكذلك مباحث أمن الدولة ونحن نقترح أن
نكتب عن إصابتك أنها نتجت عن المقاومة حتى نغلق المحضر، فقلت لهم
اكتبا ما تريدان فأنا أعلم أن مثل هذا التحقيق لا يعتد به لما به من
إكراه غير مباشر، ولولا أن رئيس المصلحة ورط نفسه وتكلم في هذه
الموضوع ما كنت تناولته .
وفي النهاية تبقى كلمة ..إذا كان الإفراج عني تم بعد ضغوط فإن هناك
الآلاف داخل السجون لا يجدون من يدافع عنهم، وإذا كنت قد تعرضت لبعض
التعذيب ولم أفعل شيئاً فما بالكم بمن يتهم بأنه يدعو الناس أو يخطب
في المساجد وغير ذلك من الاتهامات ؟
فعلى الحكومة أن تعي أن الإرهاب المنظم الذي تمارسه لن يوقف قدر الله
وعليهم أن ينظروا إلى الحكومات المستبدة الظالمة التي تتساقط في كل
مكان وإن لم يفيقوا ويفتحوا الأبواب ويطلقون الحريات فعليهم أن
ينتظروا الطوفان . وحسبنا الله ونعم الوكيل .
الحلقة الثانية: شاهدت حقائق أغرب من الخيال في زنازين سجن
الاستقبال
--------------------------------------------------------------------------
من يحكموننا يحاربون الشباب الإسلامي على أنهم عصابات أو قطَّاع طرق
، ولا يريدون أن يقتنعوا أو يفهموا أنهم يواجهون تياراً جارفاً يمثل
شعباً بأسره يتوق إلى الإسلام ويتمنى أن يحكم بالقرآن .
عشرات السنوات والشباب المسلم يتعرض لحرب إبادة وإرهاب منظم من حكم
فقد شرعيته، جثم على صدورنا، وكتم أنفاسنا بالقهر والبطش، إلا أن
الحركة الإسلامية تزداد قوة يوما بعد يوم. حكامنا استخدموا كل وسائل
التكنولوجيا الحديثة للقضاء على هؤلاء الشباب دون جدوى اعتقلوهم
عذبوهم فصلوهم من الجامعات والوظائف، شردوهم قتلوهم بالرصاص في
المساجد والطرقات. اعتقلوا وعذبوا ذويهم من شيوخ وأطفال ونساء.
استخدموا كل أجهزة الدولة للفتك بهم، استخدموا جهاز الشرطة الذي وجد
أصلاً لخدمة الشعب، فإذا بهم يسحقون به الشعب، أصبح الإنسان في مصر
ليس له حقوق وصار أرخص من الدواب فقد انتهكت آدميته وأُهدرت كرامته
وديست إنسانيته تحت أقدام الجلادين وأصبحت السجون والمعتقلات وأقسام
الشرطة هي المكان الذي يُلقى فيه المعارضون، ولا يوجد قانون يحمي
الناس من طواغيت الأرض .
وشاء الله أن يعتقلني أهل الحكم في مصر كي أعيش 30 يوماً داخل سجن
استقبال طره؛ كي أرى بعيني وأسمع بأذني وألتقي بالمئات من الشباب
الذين يعيشون في عالم غير عالمنا، ويحكمون بقانون الغاب حيث لا اعتبار
لقضاء ولا احترام لقانون، إن ما يحدث هناك في مقابر الأحياء يحير
العقول، ويهز الوجدان، ففي السجون الآلاف من الشباب المسلم يتعرضون
للموت البطيء جروحهم ما زالت تنزف دماء، ظهورهم ممزقة، ولا أبالغ إذا
قلت إنها بقايا أجساد بشرية إلا أنهم يحملون بين ضلوعهم قلوباً راسخة
كالجبال لا تتزلزل.
هؤلاء الشباب اعتقلوا لا لجرم ارتكبوه ولا لإثم اقترفته أيديهم إلا
أنهم يقولون ربنا الله، ويسعون للتمكين لدين الله. وسجن استقبال طره
يتكون من عنبرين (أ) و(ب)ويتراوح عدد المعتقلين بين1000 و 1500..
والعنبر يتكون من 4 طوابق، الطابق الأول به الزنازين الانفرادية، وكل
عنبر به 60 زنزانة انفرادية، باقي الطوابق زنازين جماعية بواقع 30
زنزانة في كل طابق، وبكل عنبر بعض الجنائيين المحكوم عليهم في قضايا
عسكرية. والثلاثون يوماً التي قضيتها في السجن انقسمت إلى فترتين (
مقبرة انفرادية ) تحدثت عنها الحلقة السابقة، و15 يوماً في زنزانة
جماعية بالدور الثاني، وهذه الزنزانة تبلغ مساحتها خمسة أمتار طولا
وخمسة أمتار عرضا، يعيش بها ما بين 10 إلى 12معتقلاً، وبداخل الزنزانة
دورة مياه وحنفية، ونظراً لانقطاع المياه بصفة مستمرة فإن المعتقلين
يخزنونه في جراكن وزجاجات وأطباق بلاستيك..وطعام السجن رديء جداً.
وجبة واحدة كل يوم عبارة عن فول أو عدس وأحياناً أرز. الفول غير مطهي،
غالباً لا يصلح للاستهلاك الآدمي، لذا فإن المعتقلين يعتمدون على
الأطعمة التي تأتي من الخارج مع ذويهم .
ومما أحزنني وآلمني أن زنازين المعتقلين الإسلاميين تفتح للفسحة لمدة
(3) ثلاث ساعات فقط في اليوم طبقاً لأوامر مصلحة السجون، فيتم فتح نصف
العنبر من التاسعة صباحاً حتى الثانية عشرة، والنصف الثاني من الثانية
عشرة حتى الثالثة، في حين أن الجنائيين تفتح عليهم الزنازين من
السابعة صباحاً حتى منتصف الليل. إنه حقاً وضع مؤلم أن ترى من أعتقل
من أجل رأيه ودينه وعقيدته مضيقاً عليه، بينما من حبس من أجل دنيا
وهوى يمرح كيفما شاء .
اعتقال قزم
كنت في فترات الفسحة أتجول داخل العنبر وأتنقل بين الزنازين، إنه
حقاً عالم غريب.. غريب..من يدخل السجن يشعر أن دولتنا هذه تعيش في
رعب، فداخل السجن ترى شيوخاً وصبية صغار وعجزة ومرضى، كلهم معتقلون
بأمر وزير الداخلية !! رأيت في السجن حالات صارخة جعلتني أشعر أنني في
سجون العصور الوسطى، فبينما أنا أسير ذات مرة داخل العنبر فوجئت بقزم
قصير طوله (80) سم به عجز في ساقيه، يسير بصعوبة يحمل في يده
مصحفاً،
حقيقةً ذهلت عندما رأيته، فطريقة مشيته تؤكد أنه لا يستطيع أن يركب
أتوبيساً أو يجري مثلاً. اقتربت منه تجاذبت معه أطراف الحديث. اسمه "
رأفت عبد المنعم " * من قرية النواصر بإسنا التابعة لمحافظة قنا. يقول
رأفت: إنني معتقل منذ 5 شهور. فوجئت بقوة من مباحث أمن الدولة يقتحمون
المنزل أثناء إفطار المغرب في شهر رمضان، واقتادوني إلى فرق الأمن
بقنا، ثم أتوا بي إلى سجن الاستقبال. لم تستدعني نيابة ولم يحقق معي،
قدم لي المحامي تظلما، وأفرجت عني المحكمة .. فرحلوني إلى فرق الأمن
بقنا، وأعادوني مرة أخرى بقرار إعتقال جديد. جريمتي أنني أصلّي مع
الأخوة في المسجد وأحضر معهم الدروس واللقاءات.
عن جو السجن يقول رأفت :في البداية كنت أشعر بغربة أما الآن فإنني
تأقلمت على السجن ، وأتممت حفظ سبعة أجزاء من القرآن، وبعض الأخوة
العلماء يشرحون لي أمور كثيرة كنت أجهلها ، وحصيلتي العلمية الآن
لابأس بها .
كان من الواضح أن معنويات " رأفت " مرتفعة جداً وكان على وجهه
ابتسامة لا تفارقه ،وكان دائم الجلوس مع كبار السن يخفف عنهم ..
الإبادة بطرق شيطانية
داخل السجن عرفت مدى احتقار حكومة الحزب الوطني للإنسان كإنسان عندما
التقيت مع (سيد كمال جمعة ) سكرتير مدرسة السراية الإعدادية بسمالوط
...(سيد ) هذا كان يعالج في مستشفى مطاي للحميات لمرضه بالالتهاب
الكبدي الوبائي ، وهو مرض معد . ألقوا القبض عليه داخل المستشفى،
وأتوا به إلى السجن كي يموت بمرضه.
هل رأيتم حقداً وغلاً على الشباب الإسلامي أكثر من هذا ؟!!
هل رأيتم بشراً بهذه القسوة ؟ هل رأيتم استخفافا بالإنسان إلى هذه
الدرجة ؟
سأترك سيد يحكي عن مأساته دون تدخل مني.
يقول سيد: كنت محتجزاً بالمستشفى وفوجئت بوضع حراسة علي لمدة يومين
ثم انتزعوني من فراشي وأوهموني بأنني ذاهب إلى مستشفى القصر العيني
بالقاهرة .. فوجئت بوضعي في عربة ترحيلات أنزلتني أمام سجن
الاستقبال.
أنا لست متهماً في قضية ولست مطلوباً من النيابة ولم أعرف حتى الآن
لماذا أنا هنا .. تقدمت لإدارة السجن لتحويلي إلى مستشفى لخطورة حالتي
فجاءني الرد بعد أيام وذهبوا بي إلى القصر العيني. فأمر الأطباء
بإيداعي مستشفى الحميات بحلوان فأعادوني إلى السجن مرة أخرى، وبعد
أيام رحلوني إلى مستشفى حلوان حيث رأيت العجب العجاب. كان الضابط الذي
يتولى حراستي معدوم الضمير والإنسانية كان كل يوم الساعة الثانية بعد
الظهر يربطني في السرير بالكلابش ثم يغلق عليَّ باب الغرفة المعدني
بالمفتاح ويذهب إلى بيته. كان الأطباء في قمة الغضب. فشلوا في دخول
الغرفة لعلاجي. رفض إعطاءهم المفتاح .. كانوا ينتظرونه كل صباح عندما
يتكرم ويفتح الباب. لك أن تتخيل كيف أقضي باقي اليوم بعد أن يذهب
الضابط إلى منزله كي يستريح بينما أذوق أنا العذاب. دلني بالله عليك
كيف أظل هذه الساعات وأنا مربوط في السرير ليت الأمر وقف عند هذا الحد
فبعد 6 أيام أعادوني إلى السجن مرة أخرى.
يتوقف '' سيد'' لحظات ثم يواصل كلامه وهو في أشد التأثر: إن ما
يحزنني ليس أنا، فإن قدر لي أن أموت فإنني راض بذالك، ولكن ما يؤلمني
الخوف من انتشار هذا المرض بين الأخوة المعتقلين. وكم ندمت على أنني
لم أنهش هذا الضابط بأسناني لكي أنقل له المرض حتى يشعر بما أشعر به
ليعرف كيف يتعامل مع الإنسان، أي إنسان .. ويضيف ''سيد'': إنني الآن
أتناول طعامي وشرابي في أدوات خاصة بي وأتناول بعض الأدوية البسيطة .
والحمد لله شاء الله غير ما أرادوا، فقد أخبرني كل من د. أحمد عبده
ود. نبيل زهر بأن حالتي تحسنت ولا أجد ما أقوله غير : حسبي الله ونعم
الوكيل ، وهو المطلع على مكرهم والقادر على أن يزيل دولتهم.
معتقل غائب عن الوعي
و'' سيد '' حالة واحدة من عشرات الحالات التي تؤلم كل صاحب قلب.
فخلال المدة التي قضيتها في الزنزانة الجماعية وسط المعتقلين رأيت
الكثير والكثير؛ فقد كان معي في الزنزانة 11 معتقلا من القاهرة
والجيزة تتراوح مدد اعتقالهم بين عام وعامين .. أحدهم يدعى '' سعد
الدين النجدي '' من امبابة مريض بدرن في الغدد الليمفاوية في جميع
جسده . في حالة نوم دائم وغياب عن الوعي. كان يتناول مضادات حيوية
باستمرار، ونظراً لسوء التغذية داخل السجن فقد كان يعاني من ضعف
وهزال، كان المعتقلون يحاولون بقدر الإمكان توفير وجبة بها لحوم
يومياً من الزيارات ليقاوم بها المرض ..
يقول'' سعد الدين النجدي'' الشهير بـ ''سعد المأذون '' : اعتقلت منذ
عام ، وكانت صحتي سيئة وظللت فترة طويلة بدون علاج، وبعد شكاوي عديدة
سمحوا لي بإجراء فحوصات في القصر العيني .ولكن الإجراءات بطيئة. وفي
إحدى المرات أحالوني إلى مستشفى ليمان طرة لإجراء عملية وأخذ عينة من
رقبتي .. ومن الأمور الغريبة أنني عندما ذهبت إلى هناك حبسوني في
زنزانة بعنبر التجربة لمدة 24 ساعة بدون أي سبب وهذه الزنزانة لا يوجد
بها أي فتحات للتهوية إلا فتحة صغيرة في باب الزنزانة لتناول الطعام
.. في المستشفى تركوني على سرير بدون مرتبة، على الحديد مكثت
بالمستشفى طوال فترة العملية بدون طعام إلا ما كان يعطيه لي بعض
الجنائيين، وفي المستشفى لا علاج ولا رعاية .
ويشير '' سعد '' إلى أن فترة الاعتقال لا تؤرقه ويقول : إن هذا قدر
الله ولكن ما يزعجني ويجعل الدم يغلي في عروقي أن يعذبوا أسرتي معي.
فأنا متزوج ولي طفل وطفلة .. انتظر زيارتهم بلهفة وفوجئت في الزيارة
الأخيرة بابنتي ''هاجر'' (عامين ) مصابة بجرح غائر في وجهها نتيجة
اعتداء ضابط متهور على الأهالي خارج السجن؛ ضرب نساء وأطفالاً وشيوخاً
بلا رحمة ودون مراعاة لأي دين أو عرف تقاليد .
معتقل مدى الحياة!!
وداخل السجن التقيت بالمهندس ''محمد جمال'' أحد قيادات الجماعة
الإسلامية بالمنيا. معتقل منذ عامين ونصف. مصاب بروماتيزم في القلب،
وذبحة صدرية من جراء التعذيب، وحكايته غريبة جداً؛ فهو معتقل الآن
بدون محاكمة وبدون قرار اعتقال ! حصل على العديد من أحكام الإفراج
من القضاء إلا أن وزير الداخلية يرفض احترام أحكام القضاء. وما يتم :
أنهم يرحلونه
في كل إفراج إلى محافظات بعيدة غير محافظتة ويذوق الويلات في أقسام
الشرطة ( كعب داير) ليمكث مع الجنائيين واللصوص؛ الأمر الذي اضطره أن
يطلب من المحامين أن يتوقفوا عن تقديم تظلمات للقضاء حتى لا يفرج عنه
ويتعرض { للبهدلة} بعد تدهور صحته وهو مودع الآن في السجن .. معتقل
مدى الحياة.
يروي ''محمد جمال'' قصته الغريبة التي تجعلنا نخجل من أنفسنا. كيف
نهنأ بطعام ونستلذ بشراب بينما هناك الآدمية تذبح على مرأى ومسمع من
القاصي والداني .
يقول ''محمد جمال'' : اعتقلوني في عام 89.. تعرضت لكل أنواع التعذيب
من تعليق وصعق بالكهرباء وجلد بالسياط. وفي إحدى ليالي الشتاء القارس
جردوني من ملابسي تماماً، ثم فاجأوني بسكب مياه مثلجة على صدري فأصبت
بأزمة عصبية أصبت بعدها بروماتيزم في القلب وذبحة صدرية..مكثت حوالي 6
أشهر ثم خرجت. لم أمكث كثيراً في الخارج. اعتقلوني بعد ذلك، ومازلت
حتى الآن داخل السجن منذ ثلاثين شهراً. وطوال هذه المدة حصلت على أكثر
من 13 حكماً بالإفراج النهائي لكن وزير الداخلية يرفض. استعملوا معي
نظام التغريب وهو ترحيلي مع كل حكم إفراج إلى محافظة غير محافظتي لعدة
أيام وإصدار قرار باعتقال جديد .. فتم ترحيلي ثلاث مرات لسجن قوات أمن
العزب بالفيوم ، وثلاث مرات لبني سويف وأخيراً إلى البحيرة .. وعقب
أحد أحكام الإفراج رحلوني إلى سجن ليمان طرة وسجنوني في عنبر الموت
شهرا ونصف.. وهذا العنبر يتكون من زنازين من الخرسانة المسلحة.
الزنزانة ليس بها فتحات للتهوية. درجة حرارتها مرتفعة جداً. بها جميع
أنواع الحشرات في الدنيا حتى النمل الطائر. دورة المياه مصدر رعب دائم
حيث تخرج فئران كبيرة وأحيانا تخرج الحيات السامة .. فهذا العنبر بني
على حطام مبنى قديم. خلال فترة تواجدي قتلت 3 حيات غير الفئران
..زنزانة كلها رعب، تحتاج إلى أن يزورها مسئولو حقوق الإنسان، فهذا
العنبر رهيب..رهيب.. وفي هذه الزنازين عدد كبير من الجنائيين الخطرين،
والمريض منهم يموت بمرضه حيث لا علاج ولا يشعر بهم أحد . وعلمت أن
عددا كبيرا من السجناء ماتوا فيه وهذا العنبر به سجناء منذ 5
سنوات.
ويضيف المهندس '' محمد جمال '' : كان الإفراج بالنسبة لي بهدلة
وتعذيبا ، ولتدهور صحتي لم أعد احتمل فطلبت من المحامين أن يتوقفوا عن
تقديم تظلمات للقضاء حتى لا يفرج عني بشكل صوري، فما قيمة أحكام
البراءة في ظل نظام لا يحترم قانونا ولا قضاء .. وإنني سجين بقضاء
الله وإذا قدر الله لي الخروج سأخرج .
معتقل متخلف عقليا !!
وأثناء زيارتي لزنزانة أحد المعتقلين من بني سويف فوجئت بمعتقل متخلف
عقلياً !! نعم متخلف عقلياً يدعى ''رمضان'' .. حاولت معه الكلام لكن
دون جدوى .. قال لي ''علي سلامه'' الموجود معه في الزنزانة والمعتقل
منذ عام ونصف :إن ''رمضان'' اعتقل في أحداث العيد بمسجد "الشادر" التي
نشرت الصحف عنها ، وذكرت أننا أردنا صلاة العيد يوم الجمعة مع
السعودية ، والحقيقة غير ذلك حيث أن الصدامات بدأت في العاشرة عندما
حاول الاخوة الصلاة في المسجد لاسترداده من وزارة الأوقاف، فأطلقت
الشرطة الرصاص، وقتلت وأصابت العشرات وألقوا القبض على 170 شخصاً من
الشوارع بينهم ''رمضان''. وأضاف ''علي سلامة'' :إن ''رمضان'' أهون
حالاً من معتقل آخر كان معنا وخرج منذ أيام!!
مع إخوان الشرقية
توجهت لزيارة المعتقلين من إخوان الشرقية والتقيت بالشيخ ''عبد
الرحمن الرصد'' والأستاذ" سعد لاشين"، وكم كانت دهشتي من اعتقال الشيخ
"الرصد" الذي تجاوز عمره (74) عاما. ويعاني من التهاب في البروستاتا
والجهاز البولي ، ويتبول بشكل غير طبيعي عن طريق " قسطرة " فما هي
الخطورة التي يشكلها مثل هذا الشيخ المسن الذي يتحرك بصعوبة بالغة؟!
أخبرني الشيخ " الرصد " انه يشعر بآلام فظيعة عندما تنقله عربة
الترحيلات إلى المحكمة.. استكثروا عليه عربة إسعاف !! وقد لاحظت أن
الشيخ " الرصد " مثال للصبر والعلم والرضا فعلى وجهه ترى سمت
الصالحين، ورغم ظروفه الصحية إلا أن يقينه وثقته بالله راسخة ذكرتني
بالمسلمين الأوائل الذين تحملوا الكثير من أجل هذا الدين .
وجلست مع الأستاذ "سعد لاشين" (69عاما) الذي أكد لي أن جريمتهم عرض
فيلم فيديو عن البوسنة والهرسك بمقره الانتخابي، فهجم الأمن عليهم
جميعاً واعتقلوا 40 شاباً .
يقول الأستاذ " سعد لاشين " إن السجن تحول إلى معسكر.. الحكومة أرادت
أن ترهب الناس، ولكن الله أراد غير ذلك، فقد تعاطف معنا كل الناس،
وبدلاً من أن نجلس مع الشباب ساعة أو ساعتين جلسنا معهم أياماً طويلة
كانت كفيلة بتربيتهم على الإسلام.
حتى الشيوخ لم يرحموهم
والسجن به الكثيرون من كبار السن الذين لم يرحمهم من يحكموننا
بالتزوير وتزييف إرادة الشعب. فقد كان معي في الزنزانة شيخ عجوز والد
"عماد محمود" من "إمبابة ".فشلت مباحث أمن الدولة في القبض على أبنه
فجاءوا به إلى السجن ، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، لقد لفقوا له
قضية.
يقول عم" محمود" ذهبت إلى مسجد " سيد المرسلين " لصلاة الفجر ..
اقتحموا علينا المسجد ونحن بين يدي الله وأطلقوا الرصاص داخل المسجد
وخارج المسجد. اقتادونا من داخل المسجد ولما عرفوا أنني والد "عماد "
أحالوني إلى النيابة، التي اتهمتني بمقاومة السلطات وحيازة المتفجرات
.. يا سبحان الله أنا رايح أصلي أم رايح أحارب ؟!! مقاومة سلطات أيه
ومتفجرات أيه ؟!!
ويضيف عم" محمود": ليت الأمر يقف عند هذا الحد، إنهم يقومون بحملات
يومية على منازل الشباب الإسلامي بامبابة ، ولأن الأبواب الحديدية
للعمارات تعوقهم عن الاقتحام بسرعة، لقد خلعوها كلها وأخذوها. باب
بيتي خلعوه وأخذوه !! هل يوجد بلد في العالم يحدث فيه ما يحدث لنا ؟!!
وحكاية عم "محمود "حكاية مكررة في كل مكان في مصر وهي دليل جديد يضاف
إلى قائمة الاتهامات للذين يتولون أمرنا .
في أي قانون في الدنيا لايعاقب شخص بذنب غيره، فشخصية العقوبة مقررة
في كل الأديان السماوية وكل القوانين الوضعية، إلا في مصر حيث يسود
الباطل ويتحكم الطغيان. فإن سياسة العقاب الجماعي هي السائدة، فلا
حرمة لامرأة ولا رأفة بشيخ عجوز ولا رحمة بطفل صغير، فالكل أمام
الدولة مجرمون، والكل أمام الدولة إرهابيون حتى أصبح الشعب كله في نظر
من يحكموننا يستحق الإعدام، فيا كل العقلاء في مصر:الإنسانية تذبح
أمام أعينكم وأن لم تقولوا لا فانتظروا الدور عليكم. وكل من يظن أنه
بعيد عن بطش السلطة فعليه أن يعلم أنه إن سكت اليوم وأقر الظلم ورضي
به فعليه أن ينتظر ليذوق من نفس الكأس غداً .
الحلقة الثالثة: عشرات المصابين بعاهات مستديمة وأمراض مزمنة من
التعذيب
--------------------------------------------------------------------------------
تحولت المعتقلات إلى مقابر للأحياء تطوي بين جدرانها المظلمة الآلاف
من الشباب المسلم، بعضهم مر عليه العام، والعامان، بل والثلاثة أعوام
في معتقله ولا أحد يشعر بهم، ولا أحد يسمع صرخاتهم وأنّاتهم. يسامون
سوء العذاب على أيدي أناس لا قلوب لهم. يتلذذون بصرخات المعذبين ،
أدمنوا منظر الدماء الحمراء وهي تنزف من الأجساد. تطربهم صوت الكرابيج
وهي تلهب الظهور .
ولأن من يحكموننا لا يريدون أن يصلحوا من أنفسهم ويحققوا مطالب
الشعب، فإنهم اختاروا الطريق الصعب، طريق الصدام والمواجهة مع الشعب،
كل الشعب، بالرصاص والاعتقال والتعذيب، وأصبح التعذيب سياسة
النظام.
فكم من بريء قتل تحت رحى التعذيب الجنوني؟ وكم من أمهات فقدن أبنائهن
وفلذات أكبادهن؟
وكان من قدري أن أعيش في سجن استقبال طرة، لأرى ضحايا التعذيب وأدلي
بشهادتي عسى أن تكون بلاغاً للجهات المعنية في مواجهة الصمت الذي
يريدون أن يفرضوه علينا، وعسى أن يجد هؤلاء الضحايا صاحب دعوة تخفف
عنهم وتفرج كربهم .
حطام بشرية
كنت أسمع على فترات متفاوتة من الليل والنهار طرقات على الجدران، شخص
ما يضرب الجدران بيديه. ظللت أياماً لا أعرف صاحب هذه الطرقات.
وفي أحد الأيام كنت أجلس مع أحد المعتقلين أتبادل معه الحديث، وبينما
تركته لحظات فإذا به بشكل لا شعوري يضرب بقبضة يده جدران الزنزانة،
فتأكدت أنه صاحب الطرقات التي كنت أسمعها. شعرت أن بداخله شيئاً ما،
فتصرفاته تدل على أنه يعيش في حالة قلق دائم.
قابلته عدة مرات ولم أطلب منه أن يحكي شيئاً. أردت أن أشعره
بالاطمئنان، وبالفعل بدأ يفتح لي قلبه، وبدأ يروي لي حقيقة الصراع
النفسي الذي يعيش فيه .
اسمه " حسين القلعاوي " من القاهرة خريج المعهد الفني بالمطرية. قبض
عليه في أواخر عام 88 في أحداث عين شمس التي قتل فيها وأصيب العشرات
برصاص الشرطة أثناء اقتحام مسجد آدم. أصيب ضابط شرطة بطعنة في رقبته،
لفظ أنفاسه الأخيرة على الفور. حام الاتهام حول شاب يدعى "شريف ".
اعتقلت الشرطة المئات، وساقتهم إلى سلخانات التعذيب. وتحت الإيذاء
البدني البشع اعترف أحدهم بأن " حسين القلعاوي " هو الذي يعرف طريق"
شريف" فكان الجحيم الذي فتح بابه على "حسين " .
بدأ " حسين" يسترجع ذكرياته المؤلمة وبدأ يروي لي : تعرضت لتعذيب
جنوني فوق طاقة البشر. كنت كالذبيحة في المذبح. علقوني وتناوبوا عليّ،
كل يأكل من جسدي، بالصعق الكهربائي تارة، والجلد تارة أخرى، حاولت
الصمود فترة طويلة. ولكن خارت قواي. كتفاي انخلعا من مكانهما. كنت
معلقاً وأحدهم كان يجذبني من قدمي. ذراعي انفصلتا عن كتفي. قدماي من
شدة الضرب والجلد كساهما السواد بعد تجلط الدم أسفل الجلد. ضربوني
بالعصا والحديد. تحولت إلى حطام بشرية. لم يبق في جسدي موضع إلا وبه
إصابة. لم أستطع المقاومة. أخذتهم إلى حيث يبيت " شريف". كنت أتمنى أن
يغادر المكان، ولكن. توقف "حسين " لحظات ، ثم بدأ يكمل: اقتحموا
المنزل وكان مع "شريف" اثنان من الأخوة. اقتحمت قوات الأمن الغرفة
وقتلوهم جميعاً. قتلوهم أمام عيني. ثم تبادلوا القبلات والأحضان وهنّأ
بعضهم بعضاً ثم وضعوا بنادق آلية بجوار الجثث.
إشتاط النظام غضباً وبدأ يضرب في الناس بجنون ويعتقل حتى الأطفال وقد
تم إعتقال ما يقرب من 60 طفلاً في هذه الفترة، هذا بالإضافة إلى
النساء والأخوات والأمهات فضلاً عن الآباء والأشقاء. عندما جاءت
الشرطة إلى مكان طعن الضابط عصام شمس. ألقوا القبض على بعض البائعين
الذين قالوا إن الذي طعنه هو شريف.
يضيف حسين القلعاوي والدموع في عينيه : مازلت حتى الآن أعاني من عذاب
الضمير. أشعر أنني كنت سبباً في قتلهم. حاول الأخوة التخفيف عني، ولكن
لم أستطع النسيان. طلب مني ضباط أمن الدولة أن أكتم ما حدث ولا أخبر
أحداً بما جرى ولكني لم أستطع فقد أصبت بانهيار جسدي ونفسي، فأنا حتى
هذه اللحظة أعالج من آثار التعذيب، فكتفاي مصابتان بخلع حتى الآن.
جسدي عبارة عن حطام. حطام بشرية
ويواصل حسين القلعاوي: مكثت في السجن فترة طويلة ثم خرجت. بدأت أشتري
كل الكتب التي تتناول حرب العصابات، كتبت بحثاً عن كيفية توجيه ضربات
لجهاز الشرطة. مجرد محاولة على الورق، لإقناع نفسي أنني سأنتقم، فصحتي
لا تسمح بان أفعل شيئاً فأنا لا أستطيع أن أحمل ثقلا وزنه 20 كجم
مثلاً، ولا أستطيع الجري، ولم تكن إلا محاولة لإرضاء الضمير. قبض عليّ
أخيراً ومعي هذا البحث. نعم أعددت هذا البحث، ولكن ليسألوا أنفسهم
لماذا يقدم مثلي على هذه التصرفات؟ إنهم يقتلوننا ويعذبوننا فماذا
ينتظرون منا ؟!
العيادة
كنت أفضل أحيانا أن أجلس بجوار العيادة؛ وهي عبارة عن زنزانة بها بعض
الأدوية ويتواجد فيها الأطباء المعتقلون لاستقبال المرضى سواء من
المعتقلين الإسلاميين أو الجنائيين. كنت أرقب المرضى. كم هالني بشاعة
التعذيب، وكم شعرت بالأسى لأنني لا أملك كاميرا لأسجل بشاعة التعذيب
الذي تعرض له الشباب المسلم. رأيت بعض الرؤوس ممزقة. أجزاء كبيرة من
فروة الرأس مسلوخة. كنت أرقبهم أثناء الغيار على الجروح. كان الموقف
مرعباً لأمثالي عندما أسمع صراخ المعتقل من شدة الآلام وزملاؤه يمسكون
بذراعيه وقدميه لحين انتهاء الطبيب من تطهير الجرح خاصة في ظل عدم
وجود مخدر موضعي .
تمزيق فروة الرأس
أحد هؤلاء الذين طارت رؤوسهم " رمضان محمد عيد " من الأميرية، حاصل
على بكالوريوس تجارة. شاهدت فروة رأسه ممزقة وعظم الجمجمة يبدو بشكل
مقزز. المنظر مرعب. الجرح ملئ بالتقيح والصديد، وعملية تطهيره تجعل
"رمضان" يذوق الموت ألف مرة.
اعتقل رمضان عقب اغتيال الكاتب فرج فودة الذي داب على مهاجمة
الاسلاميين ضمن العشرات من الأبرياء الذين يعتقلون إذا وقع حادث أو
واقعة تصادم عربتين !!
كشف لي"رمضان" عن السلخانة التي نصبوها له وللعشرات مثله. يقول رمضان
: ألقوا القبض علي وساقوني إلى مقر مباحث أمن الدولة بشبرا. مكثت 16
يوما تحت التعذيب المتواصل. سألوني عن أشرف المتهم الثاني في قضية "
فرج فودة ".
علقوني من يدي بالساعات. ضربوني على رأسي حتى مزقوها. أقسمت لهم أنني
لا أعرفه ولم أره في حياتي. لو أعلم أنهم سيصدقونني إذا أخبرتهم بأنني
قاتل " فرج فودة " لقلت لهم حتى أنجو من العذاب. لم يتركوني حتى أصبحت
جثة هامدة من العذاب.
حملوني على نقالة إلى السجن. حاولوا أن يأخذوني مرة أخرى إلى لاظوغلي
فلم يجدوا فيّ حياة. كنت غائباً عن الوعي.
مريض بالصرع داخل السجن
وذات مرة وبينما أنا جالس مع الدكتور" علي محمد " المعتقل حاليا
بالسجن والذي ألقي القبض عليه في محطة السكة الحديد قبل توجهه إلى
عمله بمستشفى شبرا العام، أتى بعض المعتقلين بشاب مصاب بحالة صرع
ووضعوه على الأرض. بعد فترة أفاق وبدأ يسترد وعيه وخرج ليجلس في
الهواء، فأجلسته بجواري، ثم تبادلت معه الحديث. اسمه " أحمد محمد عبد
النعيم " من ملوي مأمور بالشهر العقاري بأبو قرقاص، معتقل منذ شهر
مايو الماضي. اعتقلوه رغم أنه يعالج من الصرع منذ سنوات.
يقول " أحمد " : نوبة الصرع تأتيني منذ سنوات وتزداد كلما غيرت نوع
الدواء .. منذ اعتقالي أصبت بالنوبة كثيرا، بشكل دائم وبدأت تطول
مدتها. اعتقلوني لأني أتردد على مسجد الجماعة الإسلامية .
حقيقة السوداني والأردني في تنظيم الإسكندرية
أثناء عودتي من مقابلة كل من الأستاذين " علاء عامر" و" عصام عبد
المطلب" المحاميين علمت أن مجموعة من المعتقلين الجدد قدموا من
الإسكندرية ..
فتوجهت إليهم لمعرفة حقيقة التنظيم الذي أعلن وزير الداخلية عن القبض
عليه، وبه سوداني وأردني، ولم يعنيني هل هذا التنظيم حقيقي أم وهمي؛
فقد شبعنا كثيراً من هذه التصريحات الملفقة، وإنما كان الذي يهمني هو
حقيقة الأردني والسوداني. ذهبت إليهما للوقوف على حقيقة الأمر. أكد لي
" جمال أبو زيد" أحد المعتقلين الذين ألقي القبض عليهم في الإسكندرية
أن السوداني والأردني لا علاقة لهما بأي من المقبوض عليهم لا من قريب
ولا من بعيد، والسوداني المقبوض عليه طالب بمعهد السكرتارية كان يقيم
في شقة في ذات العمارة التي قبض فيها على ما سمي بـ {مجلس شورى تنظيم
الجماعات المتطرفة} وكذلك الأردني الذي لا صلة له بالتدين فهو لا يصلي
إطلاقاً..!!
ولـ "جمال أبوزيد "هذا قصة عجيبة فقد اعتقل العام الماضي عدة شهور
وقبل الإفراج عنه عرضوا عليه أن يعمل معهم مرشداً فأوهمهم بأنه موافق
لكي يخرج فأفرجوا عنه، وبعد خروجه انتظروه كي يعود إليهم ليمدهم
بالأخبار ولكن طال انتظارهم دون جدوى ..فأرادوا القبض عليه فلم يعثروا
عليه، فاعتقلوا والده المسن أثناء جلوسه على القهوة وكذلك شقيقه "محمد
" لمدة أسبوع في قسم الشرطة كرهائن للضغط عليه وتسليم نفسه. ويقول
"جمال أبو زيد" :نظراً لظروف والدي الصحية سلمت نفسي لأمن الدولة.
قالوا لي لا نريد منك أي كلام وبدأت السلخانة. الضرب بالكرباج على
رأسي وجسدي، وأمسك الضابط "سامح الرجباوي" بالطبنجة وضربني بظهرها في
أسناني فتحطمت سنتي. عملوا لي فلكة في رقبتي ورفعوني على الشباك.
خلعوا ملابسي وصعقوني بالكهرباء في جهازي التناسلي، وقالوا لي وهم
يضحكون سنحرم البشرية من ذريتك يا"جمال".. ظللت أصرخ بهستيريا فالألم
كان شديداُ ..لم يتركوني حتى أصبحت جثة هامدة، لا أقدر على الحركة
بعدها ألقوني في قسم كرموز 27 يوماً ثم رحلوني إلى سجن الاستقبال. لي
حتى الآن 6 شهور. حصلت على 4 أحكام بالإفراج، ومع كل إفراج يذهبون بي
إلى الإسكندرية لأمكث عدة أيام في قسم الشرطة ليوهموا الناس أنهم
أخرجوني، ثم يصدروا قراراً جديداً باعتقالي وأعود إلى السجن مرة
ثانية.
..وكان من القادمين من الإسكندرية مجموعة من المعتقلين اتهموا بأنهم
وراء حرائق وتخريب الخمارات، وأصدر القضاء حكماً ببراءتهم في 9 يونية
الماضي إلا أن الداخلية اعتقلتهم ورحلتهم إلى السجن. من هؤلاء "رزق
سالم" الذي قبض عليه في مايو 91.. يروي "رزق" عن مأساته ومأساة أسرته
المنكوبة. يقول "رزق": لكي يقبضوا عليّ احتجزوا شقيقتي وشقيقي الأكبر
لمدة 11 يوماً. ساموهم سوء العذاب ليدلوهم على مكاني. بعد القبض عليّ
ساقوني إلى سلخانة. صعق بالكهرباء في جهازي التناسلي. تعليق من
الكتفين. جلد بالسياط. ضرب بالعصى. كان يضربني ضابط يدعى"هارون"، كان
يضربني بالحذاء في اسفل الظهر، وكان ضابط آخر يدعى "سامح" يضربني برجل
كرسي.
ويضيف "رزق" : بعد لحظات توقف وبعد تردد :أتوا بشقيقتي الصغرى
{16}سنة أمامي أثناء التعذيب وهددوني بهتك عرضها. كانوا يضربونها في
غرفة مجاورة حتى أسمع صراخها. كنت أقول لهم ما ذنبها ..إنها صغيرة
..لماذا تعذبونها ؟ ولكنهم وحوش كاسرة منهم لله .
يضيف "رزق سالم " :حبسوني في زنزانة بدون سقف في قسم الشرطة .. كانت
غارقة بالمياه، فاضربنا أنا ومن معي احتجاجا على وضعنا في هذه
الزنزانة .. كنا نظن أن الإضراب قد يأتي بنتيجة ولكن ما حدث كان بشعاً
وفي منتهى القسوة، فقد أطلقوا علينا الجنود ضربونا بالهراوات في كل
أنحاء أجسادنا فأجهزوا علينا ثم وضعوا الحديد في أيدينا من الخلف لمدة
22 يوماً لم يكن بالزنزانة مكان لقضاء الحاجة ولك أن تتخيل كيف تكون
الحياة بهذا الشكل.
تعذيب الأهل ..
والتقيت بالمعتقل " طه أبو العباس محمد " من الإسكندرية. قبض عليه
منذ أغسطس 1990م. حصل على 14 حكما بالإفراج النهائي، ولكن لا قيمة
لهذه الأحكام ..يحكي "طه " مأساته : منذ اعتقالي لم أتهم في قضية وكل
ما قالوه لي إنني معتقل مدى الحياة لأنني أنتمي إلى الجماعة
الإسلامية. أخبروني أنه من سابع المستحيلات أن يتركوا الجماعة
الإسلامية تعمل في الإسكندرية. اعتقلوا شقيقي "محمد" الطالب بمدرسة
الصنايع بمحرم بك. اعتقلوه عاماً ونصف. المدرسة فصلته هذا العام وهو
داخل السجن ..
الإفراج أصبح شكلياً ولا يعني إلا مزيداً من العذاب. يتم ترحيلي عقب
كل إفراج إلى محافظات بعيدة حتى يذوق أهلي العذاب خلفي. سجنوني 6 أشهر
في قنا ولا أحد من أهلي يعرف عني شيئاً. أتوا إلى القاهرة بحثوا عني
في السجن فأخبروهم أنني خرجت. انتظروا كل هذه المدة ولا يعلمون عني
شيئاً. عاشوا في عذاب ..لقد ارادت مباحث أمن الدولة قتل الإسلام في
نفوسنا، ولكن الإسلام في صدورنا راسخ وأبداً لن يموت ..
ومن الحطام البشرية الملقاة داخل سجن الاستقبال " محمد عبد الله
المهدي " الطالب بالمعهد الفني الصناعي بالمطرية ، والمعتقل من أكتوبر
90، يقول "محمد" : عذبوني لأدلهم على الأماكن التي يبيت فيها بعض
المطلوبين. مئات المطلوبين لا يبيتون في منازلهم، الحملات الليلية على
المنازل لا تعثر على شيء فكانت وسيلتهم الوحيدة للقبض على أي مطلوب
اعتقال العشرات وتعذيبهم ليدل كل منهم على من يعرفه. التعذيب بشع
وجنوني. علقوني من ذراعي من الخلف ولطول المدة خلعت ذراعاي بعد أن
تمزقت عضلات الكتفين. كانوا يطفئون السجائر في صدري وظهري. ضربوني
بالشوم على قدمي حتى تورمت. كنت أصاب بإغماء فكانوا يصبون عليّ الماء
البارد. غبت عن الوعي عدة مرات. كلما تورمت قدماي كانوا يأمرونني أن
أجري؛ وأتنطط حتى يتدفق الدم في العروق. لم أشعر أنني إنسان كنت عار
الجسد معصوب العينين.
التعذيب يترك دائماً عاهات مستديمة وأمراض مزمنة والعشرات من الشباب
الإسلامي أكل التعذيب من أجسادهم، فتراهم أمامك أجساداً بشرية ولكنهم
في الحقيقة حطام. بقايا بشرية تسير على قدمين ..ومن هؤلاء " محمد أبو
السعود " من شرانيس منوفية ، المعتقل منذ عام ونصف بدون محاكمة. يقول
" محمد أبو السعود" : وصلتهم معلومات كاذبة عن وجود مخطط لاغتيال وزير
الداخلية أثناء ذهابه إلى بلده بالمنوفية، اعتقلوا عدداً كبيراً وبدأ
التعذيب. أخذوني إلى فرق أمن شبين ثم أمن الدولة بالنوبارية بالبحيرة.
عشرة أيام بين التحقيق والتعذيب. خلعوا ملابسي. علقوني على الباب حتى
أصيبت يداي بالشلل. طرحوني أرضاً. صعقوني بالكهرباء في أماكن حساسة من
جسدي. سألوني عن مخطط مزعوم لا أعرف عنه شيئاً. فقدت الحركة تماماً
حتى أن الضابط كان يضع الولاعة بين أصابع قدمي وحرقها. كنت أشعر
بالألم ولكن جسدي منهار تماما. وضعوا المسدس في جنبي وهددوني
بالقتل.كانوا يضربونني بمقدمة أحذيتهم في ضلوعي، ثم رحلوني إلى سجن
الاستقبال لمدة أسبوع واحد. سحبوني بعدها إلى لاظوغلي مرة أخرى. مكثت
هناك تحت العذاب 9 أيام أخرى ولكن ليس لدي ما أقوله فأنا حقاً لا أعرف
شيئاً عما يقولون. وبالفعل فقد تبين في النهاية أن هذا الكلام مجرد
إشاعة لا أساس لها ولكن بعد إيه .. بعد القتل عشرات المرات تحت
التعذيب.
تعذيب النساء
وإذا كان تعذيب الإنسان أي إنسان يدمي قلوبنا فما بالكم إذا كان هذا
الإنسان امرأة لا ذنب لها إلا أنها زوجة أو شقيقة أو أُم لأحد
المعتقلين، هذه الجريمة التي تعتبر بحق عاراً على جبين من
يحكموننا.
في السجن بحثت عن المعتقلين الذين عذبت زوجاتهم وأمهاتهم وشقيقاتهم،
ولأن هذا الموضوع يتعلق بالأعراض فقليل من المعتقلين الذين يوافقون
على الحديث في هذا الموضوع. حكى لي : " محمد سالم" المعتقل من
الإسكندرية عن تعذيب شقيقته الصغرى قبل القبض عليه لتدل على مكانه.
يقول "محمد سالم" : عندما فشلوا في القبض علي احتجزوا والدتي ووالدي
وشقيقتي. أطفأوا السجائر في وجه شقيقي عذبوا أختي الصغرى كانوا يدوسون
على بطنها بأقدامهم !! أمام أبي وأمي. وبعد القبض علي أتوا بوالدتي في
قسم المنتزه وهددوني بالاعتداء عليها .
ويضيف "محمد سالم " إن تعذيب النساء أصبح ظاهرة في الإسكندرية ، فكل
أخ لا يجدونه يأخذون أهله. فقد احتجزوا من قبل زوجة " صابر بدر حسن "
عدة أيام، ووالدة منتصر الشنتلي " وشقيقة " أمين شبل " وزوجة " عبد
الستار محمد عبد الستار " وجلدوها ، وهذه الجريمة لا يخجل منها من
يحكموننا ولا يبالون بكونها عاراً يلاحقهم في كل مكان؛ فهم ما عادوا
يعرفون غير شيء واحد هو البطش والظلم والطغيان. فالتعذيب جريمة بشعة
في حق الإنسانية جميعاً معارضين للحكم ومؤيدين. فغداً سيمتد التعذيب
ليشمل الجميع، وخاصة أننا أمام قوم مستعدون لبيع أنفسهم للشيطان من
أجل الاستمرار، وحكومة بنت سياستها على القهر والتسلط .
الحلقة الرابعة: معتقلون مدى الحياة !!
--------------------------------------
ما يحدث في سجون مصر يكشف الوجه القبيح لمن يحكموننا، فالجرائم التي
ترتكب ضد الشباب الإسلامي تسقط كل الأقنعة الزائفة التي يتوارى خلفها
جلادون باعوا ضمائرهم للشيطان، وباعوا بلادنا بثمن بخس. وسوف يقف
التاريخ طويلاً قبل أن يلطخ صفحاته بجرائم سوداء بشعة، ارتكبت في حق
شعب مصر، لأول مرة عبر تاريخها الطويل .
ولم تشهد مصر انتهاكا لآدمية الإنسان في عهد الملكيات الفاسدة مثلما
يحدث الآن على أيدي أناس يتسمون بأسمائنا ويتكلمون بألسنتنا ويعيشون
معنا على أرضنا.
ولقد امتلأت السجون عن آخرها واكتظت بالآلاف من المعتقلين الأبرياء.
وشاء الله أن يستضيفني أهل الحكم في مصر 30 يوماً في مقابر الأحياء،
في سجن استقبال طره لأرى بعيني الإنسانية ذبيحة وكرامة الشعب مهدرة،
حيث غاب القانون وديست أحكام القضاء بالأقدام الغليظة.
لقد لاحظت خلال فترة تواجدي بالسجن أن الاعتقال مدى الحياة أصبح
ظاهرة خطيرة ويمثل مخالفة صارخة للقانون؛ فقانون الطوارئ الذي يستند
إليه في إصدار قرارات الاعتقال لا يجيز اعتقال أي شخص أكثر من شهرين
بأي حال من الأحوال، ولكن داخل السجن رأيت أنه لا حرمة لقانون ولا
احترام لقضاء. صدرت آلاف الأحكام ببراءة المعتقلين ولكنها لا تنفذ.
مجرد حبر على ورق !!
ومن أبرز المحكوم عليهم مدى الحياة " حسن الغرباوي" المعتقل من آوخر
1988 م، وما زال حتى الآن داخل السجن لا أمل في خروجه، و"حسن" قبض
عليه عقب الضربة التي وجهت للجماعة الإسلامية بعين شمس والتي تسببت في
الصدامات الدامية الشهيرة. لفقت وزارة الداخلية عدة اتهامات لـ"حسن"،
برأه القضاء منها جميعاً، ودخل في دوامة الاعتقال من داخل الاعتقال.
له ثلاث سنوات معتقل بلا اتهام حصل على ليسانس الحقوق ونجح في
الدبلومة داخل السجن ويعد حالياً رسالة الماجستير في الشريعة
الإسلامية.
روى لي" حسن " موقفاً طريفاً يجسد المأساة التي تعيشها أسر
المعتقلين، ورغم طرافة هذا الموقف إلا أنه مؤلم. يقول "حسن":عندما
اعتقلت كان إبني "أنس" عمره شهور وبعد أن كبر كان يأتي إلى السجن مع
أمه. كان لا يعرفني. كان يقول لي يا عمو!! نعم كان يقول لي يا عمو،
حتى فترة قريبة جداً عندما بدأ يفهم. وفي آخر مرة قال لي أنت حتروح
معانا أنا قلت لعم العسكري؟ وفي نهاية الزيارة تركني وهو حزين. ظل
يبكي حتى خرج من السجن وأمه تحاول أن تخفف عنه.
ولاحظت أن "حسن" رغم طول مدة الحبس معنوياته مرتفعة جداً ويحظى
باحترام شديد من المعتقلين ومن أجل هذا فإن إدارة السجن عزلته مع
آخرين من القيادات داخل مستشفى السجن التي تحولت إلى زنازين. ومن
المحبوسين داخل المستشفى "الزنزانة" الدكتور"أحمد عبده" و"محمود شعيب"
و"أحمد يوسف" "وشعبان علي" والشيخ"بهيج" من عين شمس.
ومن المعتقلين المعمرين بدون سند من قانون " سامي فؤاد" و"خالد
السمري" من روض الفرج بشبرا. اعتقلا منذ عامين. حصلا على العديد من
أحكام الإفراج. وترفض مباحث أمن الدولة الإفراج عنهما إلا إذا وافقا
على أن يجلسا في منزليهما ويتركا الدعوة إلى الله. يقول "سامي
فؤاد":إنهم يساوموننا على أن نتراجع عن إسلامنا ويظنون أن طول مدة
الحبس ستضعفنا وستقضي على الدعوة في الخارج وهم واهمون فالحبس قد يكون
خيراً لنا ونحن لا نعلم، فأنا مثلاً حفظت القرآن كاملاً داخل السجن،
وما كان لي ذلك لو كنت بالخارج فإذا خرجت سأظل مطارداً ولن أبيت في
منزلي وسط أهلي ولا وقت للحفظ والقراءة، وليس معنى حبسنا أن دين الله
سيموت.
فقه الاعتقال
ويضيف" خالد السمري" قائلاُ :هل تعلم ؟! آلاف (الأخوة) لا يبيتون في
منازلهم منذ سنوات ؟! منازلنا تقتحم يومياً بالليل وبالنهار. حتى في
رمضان يقتحمون بيوتنا أثناء إفطار المغرب. نحن نعيش في مأساة ولا يشعر
بنا أحد.نعيش في السجون أكثر مما نعيش وسط أهلنا.
فقه الاعتقال أصبح معروفاً لدى الكبير والصغير في أسرة كل أخ. الكل
يعرف موعد تقديم التظلم للقضاء، والزيارة كل كام يوم، ومن الذي تحق له
الزيارة من الأقارب، وما هو المسموح وما هو الممنوع. ويشير " خالد
السمري" إلى أن اللصوص يخشون من سرقة منازلهم من الرعب رغم أن أبوابها
محطمة.
الحرمان من الامتحانات
وفي السجن اكتشفت أن هناك وسائل عديدة تستخدمها مباحث أمن الدولة
للضغط على الشباب الإسلامي كي يتركوا ما يعتقدونه، فأحياناً يعتقلونهم
أثناء الامتحانات لمنعهم من امتحان باقي المواد. ويستخدمون ذلك كوسيلة
للضغط. حدث هذا مع " قاسم سيد قاسم " من امبابة معتقل منذ ثلاثين
شهراً. اعتقلوه أثناء أداء امتحانات البكالوريوس بهندسة القاهرة. يروي
"قاسم"حكايته مع الاعتقال منذ عامين ونصف يقول:أثناء أداء الامتحان
اعتقلوني. كان المتبقي 4 مواد. تهمتي أنني إمام أحد المساجد بامبابة،
طلبوا مني أن أعطيهم أسماء الأفراد الذين يصلون خلفي فرفضت. كانوا
يستدعونني قبل كل مادة للضغط عليّ، حتى انتهت الامتحانات. استخدموا
معي كل الأساليب المعروفة وفي النهاية قالوا لي لن تخرج من السجن
ستعتقل مدى الحياة. حصلت على العديد من أحكام الإفراج ومن كثرتها نسيت
عددها ومع كل إفراج يتم ترحيلي إلى أمن الدولة بضعة أيام ثم أعود. في
الفترة الأخيرة ساوموني على الخروج على أن ألزم بيتي وأقطع صلتي
بالعمل الإسلامي فرفضت. عرضوا عليّ أن أخرج وأترك مصر في خلال 24 ساعة
رفضت. فقالوا لي لن تخرج أبداً .
أخبرني " قاسم" أنه العائل الوحيد لأمه وشقيقاته البنات فوالدة
متوفى، والمعاش الذي يحصلون عليه لا يكفي متطلبات الحياة ، وأنه كان
يعمل خلال الإجازة ليوفر بعض المال ليعين به الأسرة على تكاليف
العيش.
القتل تحت التعذيب
تذكرت ذات يوم الشاب الذي قتل تحت التعذيب في لاظوغلي منذ ثلاثة أشهر
ويدعى " محمود جهمي سعداوي" والذي أضرب المعتقلون أسبوعا كاملا
احتجاجاً على تعذيبه حتى الموت بحثت عن أي من زملائه الذين كانوا
يعذبون معه، وبعد كثير سؤال عثرت على أحدهم. رجاني ألا أذكر
أسمه..
يقول الشاهد على تعذيب " محمود جهمي سعداوي": كانوا يعذبونه بشراسة
طلبوا منه أن يدلهم على بعض المطلوبين في قضية مقتل ضابط مباحث أمن
الدولة بالفيوم ..كانوا يعلقونه على الباب بالساعات. استخدموا معه كل
أنواع التعذيب. كان في الأيام الأخيرة منهاراً تماماً كان يطلب شربة
الماء رجاهم أن يشرب كانوا يأتون بجركن مياه مثلجة ويضعونه على فمه ثم
يبعدونه بدأ صوته يتضاءل في إحدى المرات دخلوا عليه وضربوه بالعصا.
تركته على هذه الحالة إلى أن ذهبت إلى السجن. وبعد يومين جاءنا في
السجن نبأ وفاته وأن الشرطة سلمته لأهله ولم يدفنوه في الخفاء كما
دفنوا غيره، فكم من أسرة فقدت إبنها ولا تدري حتى اليوم أين هو
ويعيشون بين نارين. لا هم يستدلون على مكانه ولا يصدقون أنه مات. فتن
سوداء كقطع الليل المظلم .
مع جندي الأمن المركزي
كان معي في الزنزانة شاب هادئ جداً. كان مجنداً في الأمن المركزي
وكان يخرج مع القوات الضاربة ليواجه المظاهرات. شارك في اقتحام "مسجد
آدم " بعين شمس أسمه "محمد عطا الله" من قرية "الجزاير" بسمالوط.
سألته عن غسيل المخ الذي يحدث لجنود الأمن المركزي الذي يجعلهم
يواجهون المظاهرات والشباب الإسلامي بغل وشراسة.
شرح لي " محمد عطا الله" تجربته الشخصية فقال : منذ دخلت معسكر "أحمد
شوقي" بالقاهرة وهم يزرعون في نفوسنا الخوف من أي شاب ملتح. كانوا
يقولون إنهم أعداؤنا وإنهم لو وجدوا الفرصة سيقتلوننا. كانوا يزيلون
منا حاجز الرهبة من الاعتداء على الجماعات الإسلامية، فاللحية
والجلباب الأبيض لهما في نفس أي مسلم احترام، ومن أجل ذلك كانوا
يزيلون هذه الرهبة بالتدريج بأن يقسمونا في التدريبات فريقين، فريقاً
يرتدي الجلاليب البيضاء وهم يهتفون الشعارات الإسلامية ويقولون "لا
إله إلا الله " وفريق آخر بالعصى والقنابل المسيلة للدموع. التدريبات
عبارة عن معارك حقيقية يضرب بعضنا بعضاً، ومع كثرة التدريب أصبحنا
نخاف من كل شخص ملتح.
ويواصل محمد عطا الله :عندما أنزل إجازة وأرى أفراد الجماعات
الإسلامية كنت أخاف منهم، ولا أبالغ إن قلت أنني كنت مرعوباً منهم
لأنني كنت اشعر أنهم لو وجدوا فرصة سيقتلونني.
وعندما انتهيت من أداء الخدمة اقتربت من هؤلاء الشباب في مسجد القرية
بتخوف وتردد.
ولكن سرعان ما هداني الله وعرفت الحقيقة واقتنعت بدعوتهم، واندمجت
معهم، وأخيراً اعتقلت ضمن حملة على القرية.
أسر كاملة داخل السجن
ومن الظواهر الملفتة للنظر داخل السجن وجود أكثر من معتقل من أسرة
واحدة فقد رأيت ثلاثة أشقاء من مدينة السلام، "زينهم أحمد حسن"*
وشقيقه "محمد"*و"سلامه"* ولا يوجد اتهام محدد. بل إن أحدهم لم يجدوا
ما يدينه فحرزوا له ساطوراً!! يقول زينهم :هل يوجد بيت ليس به ساطور؟!
وهل أصبح الساطور تهمة ؟!
كما التقيت بثلاثة أشقاء " سامح حسن" من امبابة وشقيقيه "جمال"
و"خالد". الأول معتقل منذ عامين بدون محاكمة ، والثاني معتقل منذ عام
ونصف والثالث منذ حوالي عام، والأخير منعوه من أداء امتحانات الفرقة
الثالثة بحقوق القاهرة .
ومن المعتقلين أيضاً متولي قناوي (50 سنة) وابنه من قرية الحميدات
بقنا .. قبضوا عليه أثناء الاعتقالات الأخيرة ..وهو رجل بسيط لا صلة
له بالسياسة، لا من قريب ولا من بعيد. أتوا به " تكملة عدد" كما يقول
أحد بلدياته.
والتقيت أيضاً بـ " علي عبد الظاهر" وشقيقه " أحمد " * الأول معتقل
منذ 22 شهراً والثاني قارب على العام منذ اعتقاله .
زنزانة الصغار
لاحظت أثناء تجوالي داخل العنبر وجود عدد كبير من الصبية صغار السن
كان وجودهم داخل العنبر لافتا للانتباه وأمر يثير الاستغراب فهل وصل
الضعف بحكومة الجور التي تحكمنا بغير إرادتنا أن تعتقل الصبية
الصغار؟! تبادلت الحديث مع بعضهم. راعني أنهم اعتقلوا لأسباب تافهة.
أول من التقيت بهم من هؤلاء الصغار "محمد مسعد عبده" من دمياط، تلميذ
في الصف
الثالث الإعدادي اعتقلوه ضمن الاعتقالات الأخيرة التي تمت في دمياط
ليعرفوا منه أماكن بعض المطلوبين للاعتقال. يقول"محمد مسعد" : قبضوا
عليّ وسألوني عما إذا كنت أعرف أماكن أخوة لم يقبض عليهم أم لا؟ قلت
لهم: أنا لا أعرف أحد ؛ فعلقوني في خشبه من قدمي ويدي فسقطت على ظهري
ومازال يؤلمني حتى الآن .. قالوا لي أن أحد أصدقائي أعترف عليّ بأنني
أعرف أماكن بعض المطلوبين .. فأنكرت فأتوا بي إلى السجن.
ومن الذين اعتقلوا مع " محمد " من دمياط " فوزي رأفت" الطالب بالصف
الأول الثانوي يقول"رأفت" : اعتقلوني ليسألوا عن سبب زيارتي المتكررة
لشقيقي المحبوس في سجن "بور سعيد " وماذا كان يقول لي ! فأخبرتهم أنني
أكبر أشقائي بعد شقيقي لذا فأنا الذي أتحرك لخدمته وزيارته. سألوني عن
أفراد الجماعة الإسلامية الذين أعرفهم فأكدت لهم لا أعرف غير أخي
المحبوس فضربوني بالكرباج ثم اعتقلوني.
قصة مسجد اقتحم
ولأن عدد الصغار كبير فقد تم إيداعهم في زنزانتين لتقارب أعمارهم،
وحقيقة شعرت أن عقولهم كبيرة تفوق أعمارهم, ورغم صغر سنهم إلا أنهم في
قمة الهدوء والرزانة.. اقتربت من أحدهم ..أسمه " عربي عبد الرشيد أمين
" تلميذ في الصف الثاني الإعدادي بمدرسة " مصطفى كامل " بامبابة كل
جريمته أنه ذهب يصلي الفجر في أحد المساجد، وقدره أن المسجد اقتحم في
هذا اليوم. يروي عربي قصة المسجد الذي اقتحم واعتقل كل من فيه. يقول :
ذهبت لصلاة الفجر في مسجد " سيد المرسلين" وبعد دخولنا في الصلاة
فوجئنا بالرصاص يدوي داخل المسجد. ضباط وجنود يقتحمون المسجد ويدخلون
بالأحذية انهالوا علينا ضرباً. لم يكن بالمسجد ما يستدعي، كنا قد
دخلنا في الصلاة امسكوا بأخ وخلعوا ملابسه وطرحوه أرضاً وضربوه في
رأسه بسنكي بندقية. أخذوا كل الموجودين؛ كان عددنا حوالي 25 شخصاً كان
معنا ناس كبار في السن. أحالوا بعضنا إلى النيابة بتهمة واحدة مقاومة
السلطات وحيازة مفرقعات!!!
ومن الصبية الصغار الذين اعتقلتهم الحكومة" جمال فتحي عبد المحسن"*1
عاماً من " دير مواس" بالمنيا وهو نزيل دائم بسجن الاستقبال وهو محبوس
للمرة الثالثة يروي"جمال " قصته مع الاعتقال يقول: اعتقلت منذ عامين.
مكثت في السجن شهرين وخرجت ثم اعتقلت لمدة 6 أشهر في حملة اعتقالات
شهدتها المدينة، وخرجت لمدة 45 يوماً تقريباً، ثم قبض عليّ مرة أخرى
منذ شهرين. في مباحث أمن الدولة رشوا عيني بغاز مسيل للدموع من بخاخة،
وجلدوني بالكرباج على ظهري كي أدلهم على بعض المطلوبين.
ويضيف " جمال فتحي " في السجن جاءني الضابط "عصام " بمباحث أمن
الدولة وعرض علي العمل مع المباحث وأدلهم على أماكن بعض الأخوة
المطلوبين للاعتقال وقال لي : إنه سيزوجني ويعطيني 300 جنيه . فقلت له
: أنا صغير على الزواج وأنا في غنى عن فلوسكم.
فرد علي : أنت في ضلال ومش هتشوف الشارع مرة ثانية يا جمال.
إن ما يحدث في مصر يدمي قلب كل حر، فعلى كل الشرفاء أن يعبروا عن
رفضهم لسياسات هؤلاء الجلادين بأن يعلنوا الحرب عليهم ويقاطعوهم وألا
يدخلوا حزبهم وليعلم كل من يضع يده في أيديهم إنما هو جلاد مثلهم وكل
من يسكت على إجرامهم عليه أن ينتظر غضب الله في الدنيا والآخرة، وكل
من يبرر إجرامهم فإنما هو شيطان يدعو على باب من أبواب جهنم، فيا
قومنا، يا أهلنا: قفوا صفاً واحداً أمام هؤلاء الطغاة فإن استمر هذا
الحال فانتظروا الخراب على أيديهم وانتظروا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا
منكم خاصة .
الحلقة الخامسة : المعتقلون حولوا السجن إلى مجتمع إسلامي صغير
----------------------------------------------------------------------
قدر الله أن يعتقلني أهل الحكم في مصر لأعيش 30 يوماً في سجن استقبال
طره، لأرى بعيني جرائم سوداء بشعة ترتكب في حق الآلاف من شباب مصر، في
غيبة تامة للقانون، وتجاهل كامل للقضاء، لتتحول مصر إلى غابة يسودها
الباطل ويحكمها الطغيان .
وفي الحلقات السابقة كتبت عن ممارسات السلطة تجاه الشباب الإسلامي
وكشفت عما يجري في ظلمات السجون، وفي هذه الحلقة سألقي الضوء على حياة
المعتقلين داخل هذه المقابر وكيف يعيشون رغم الظلم الواقع عليهم
.
داخل السجن رأيت رحمة الله تتنزل على المئات من المظلومين الذين لم
يجدوا من يسمع لهم، أو يشعر بهم، سوى رب السماء والأرض .
فرغم الظلم الذي يحكم، والطغيان الذي يسود تحولت الزنازين إلى بقع
مباركة تفوح منها رائحة الإيمان. فداخل السجن تتجسد كثير من المعاني
الإسلامية التي افتقدناها في دنيانا التي امتلأت غشاً وخداعاً، وأصبح
المعتقلون ملائكيين يرتفعون عن الأغراض والأهواء. كل منهم يحب أخاه
أكثر من نفسه حتى المختلفين معهم في الرأي, وتحول السجن إلى مجتمع
إسلامي صغير. فالعنبر له قيادة واحدة كلمتها مسموعة من الجميع، مسئولة
عن كل معتقل، وهناك الكثير من التخصصات موزعة على المعتقلين بنظام
وانضباط .
فهناك لجنة مسئولة عن طعام المعتقلين، ويوجد أطباء مهمتهم علاج
المرضى، ولجنة مسئولة عن الإجراءات القانونية لكل معتقل، ولجنة مسئولة
عن كساء المعتقلين، ولجنة للإعلام.
لجان للتغذية والكساء
ولأن المشكلة الرئيسية التي تواجه المعتقلين هي الطعام نظراً لسوء
الوجبة التي تقدمها إدارة السجن فالمعتقلون يعتمدون بشكل أساسي على
الأطعمة التي يأتي بها الأهالي في زيارتهم، ولتحقيق نوع من العدالة،
فإن اللجنة المسئولة عن التغذية تجمع الزيارات وتعيد توزيعها على
الجميع. وأي معتقل لا يأخذ شيئاً من الأطعمة التي تأتيه من أهله بل
يقوم بتسليمها إلى ما يسمى "المطبخ" وهو زنزانة بها بعض
المعتقلين.
وعملية توزيع الأطعمة تتم بعدالة تامة وبالتساوي على الجميع الصغير
قبل الكبير، فالجميع يأكل ولا يشعر أحد بالحرمان.
عدد كبير من المعتقلين قبض عليهم من الشوارع ومحطات السكك الحديدية
معظمهم يأتي إلى السجن بدون ملابس أو بطاطين مما فرض على المعتقلين
تخصيص بعض الأفراد لمتابعة احتياجات هؤلاء فيتم جمع ما يزيد على حاجة
كل معتقل من ملابس وأغطية لإعطائها للمحتاجين .
وفي هذه المواقف تتجلى كل معاني الإيثار. لقد رأيت المعتقلين يتبارون
في تقديم كل ما يزيد على حاجتهم للمعتقلين الجدد.
مسئول جمع الملابس هو الشيخ" صلاح رجب" من "ديروط" وهو من الشخصيات
التي تحظى باحترام الجمع، ويتميز بذكاء حاد، وشخصيته قوية لها هيبة
وسط المعتقلين، وهو معتقل منذ عام تقريباً، أي قبل الأحداث والصدامات
الأخيرة.
ومن رحمة الله بعشرات المرضى من المعتقلين أن السجن لا يخلوا من
أطباء رهن الاعتقال، والطبيب في السجن لا ينام الليل. وفي السجن بعض
الأطباء رهن الاعتقال وهم د."أحمد عبده سليم"، د."محمود شعيب" ، د."
أيمن جاد الرب" ود."علي محمد" ، ولأن العنبر يغلق على المعتقلين في
الثالثة بعد الظهر ولمغادرة الطبيب المعين من قبل السجن ، فإن هؤلاء
الأطباء يقومون بمجهود جبار لرعاية المرضى والحالات الطارئة..
وكل منهم يخدم في المكان المحبوس فيه ، فالدكتور" أحمد عبده " ود."
محمود شعيب" داخل المستشفى ــ التي تحولت إلى زنازين ــ وباقي الأطباء
داخل العنابر.
ونظراً لأن السجن لا توجد به الأدوية اللازمة، فإن المعتقلين يعتمدون
بشكل أساسي على ما يشترونه من الخارج،وتم تخصيص زنزانة وضعوا بها
الأدوية.
ويوجد أيضاً بعض الممرضين رهن الإعتقال يساعدون في الرعاية الصحية،
وخاصة أن هناك بعض المعتقلين يعانون من آثار التعذيب ويحتاجون للرعاية
منهم " حاتم الضوي" من مدينة قوص بقنا، معتقل منذ ثمانية أشهر تعرض
لأساليب مبتكرة من التعذيب أتركه يرويها لنعرف كيف تحول الشباب
الإسلامي إلى حقل تجارب لأباطرة التعذيب. يقول حاتم : في اعتقالي
السابق وبمجرد القبض عليّ تعرضت لأساليب تعذيب قمة في الشراسة
..علقوني من يدي وأمسك أحدهم برجل كرسي وبدأ يضربني على مؤخرة العمود
الفقري حتى تهشمت الفقرات القطنية ، عصبوا عيني بقطعة قماش مبللة
بالماء ، ثم وصلوها بالتيار الكهربي..صعقوني في أماكن حساسة كنت عاري
الجسد تماماً أتلوى كالذبيح. الآلام رهيبة لم يتركوني إلا بعد أن
تحولت إلى جثة هامدة. أسفر هذا التعذيب عن إصابتي بشلل نصفي بعد تهشم
الفقرات القطنية ولم أستطع الحركة بعدها لمدة 4 أشهر.
وتسبب الصعق عن طريق قطعة القماش المبللة في إصابتي بصداع نصفي وضعف
الإبصار مازلت حتى الآن أشعر بآلام.
ذكرت قصة " حاتم" كمثال لآثار التعذيب التي تستمر مع المعتقل وتحتاج
إلى رعاية .
اللجنة القانونية
ومن المشاكل التي تواجه بعض المعتقلين عدم درايتهم بالإجراءات
القانونية التي يجب أن تتخذ بالإضافة إلى عدم علم ذويهم بمكان
اعتقالهم للقيام باللازم، ولهذا خصص المعتقلون لجنة خاصة بالتظلمات
وظيفتها تدوين أسماء المعتقلين الجدد بشكل يومي وإعطائها للمحامين،
الذين وهبوا أنفسهم للدفاع عن الشباب المسلم، ومن أجل هذا لم يسلم
هؤلاء المحامون من الإرهاب الحكومي ، فالسجن لا يخلو من محام
معتقل.
ففي الفترة التي قضيتها في السجن كان معي الأستاذ" حسن علي" المحامي
، ورغم أن غرفة المشورة بمحكمة أمن الدولة أفرجت عنه، إلا أن وزير
الداخلية رفض تنفيذ حكم القضاء وأصدر قراراً باعتقاله وما زال في
السجن ينتظر مجلس نقابة المحامين الجديد ليتحرك من أجله، ويضع نهاية
لمسلسل التنكيل بالمحامين.
إذاعة إسلامية
من الأشياء الممتعة داخل السجن الاستماع إلى " صوت الخلافة
الإسلامية" وهي الإذاعة الداخلية التي ابتكرها المعتقلون ليقهروا بها
حواجز العزلة التي يفرضها عليهم الجالس على عرش لاظوغلي.
يبدأ البث يومياً بعد العشاء لمدة ساعة ونصف تقريباً، وبرامج الإذاعة
عبارة عن فقرات إخبارية وتقارير وتحليلات سياسية. يفصل بين كل فقرة
أناشيد إسلامية وتتضمن الفقرات خطبة سياسية من أحد المعتقلين تلهب
الحماس وتقوي الهمة.
والفقرة الإخبارية تحتوي على أخبار محلية وعربية وعالمية، تهم
المسلمين في كل مكان.
ويحصل المشرفون على الإذاعة على الأخبار من الصحف والمجلات التي تدخل
السجن.
يسمح السجن بدخول الصحف الحكومية فقط ، ومع هذا فإن صحف المعارضة
تدخل مهربة.
وبث هذه الإذاعة يتم عن طريق بعض المعتقلين أصحاب الحناجر القوية
والأصوات العالية بأن يقف مذيع الفقرة على باب الزنزانة ويقرأ على ضوء
الشعاع الخافت داخل العنبر بصوت عال من الورقة المكتوبة. وباب
الزنزانة يوجد بأعلاه شباك ارتفاعه نصف متر تقريبا وعندما تبدأ
الإذاعة يستمع إليها كل من في العنبر على مختلف اتجاهاتهم حتى
الجنائيين ويدوي صوت المذيع داخل العنبر ليسمع كل من في الزنازين.
وللحقيقة فإن منفذي هذه الإذاعة على درجة من الانضباط فالفقرات
متناسقة ومنظمة، ومن ينشدون الأناشيد الإسلامية أصواتهم غاية في
الروعة، وهذه الأناشيد تلعب دورا كبيرا في رفع معنويات المعتقلين،
فالقصائد والأبيات التي ينشدونها كتبها مجاهدون عمالقة بدمائهم
وأرواحهم أمثال " سيد قطب " و " يوسف العظم " وغيرهما.
ومن خلال الإذاعة استمعت إلى بعض الخطباء ما استمعت لمثلهم من قبل,
قمة في البلاغة والشفافية والصدق، كنت أحياناً لا أتمالك نفسي من شدة
التأثر، وكانت الدموع تنساب من عيني. شباب رزقهم الله ألسنة مخلصة،
كلامهم يدخل القلوب. كلماتهم تنساب كالماء الجاري بدون تكلف. أجرى
الله على ألسنتهم الحكمة. أعتقد لو أن هؤلاء الخطباء أتيحت لهم الفرصة
لغيروا طباعاً وأخلاقاً ومعاملات وساهموا في اصلاح المجتمع. لا أبالغ
في هذا ولكنها الحقيقة .
ومن المحزن أن يكون أمثال هؤلاء الشباب داخل السجن ، بينما تجار
المخدرات يعيشون وسط الناس ، بل ويشرعون لنا في مجلس الشعب ومما يزيد
الأمر حزناً أن وزير الأوقاف يقود حملة شعواء لتشويه صورة هؤلاء
الشباب وكذلك الاعلام.
واعتقال الخطباء أصبح ظاهرة لافتة للانتباه في بلد الأزهر، فلم يعد
يكفي تأميم المساجد وضمها للأوقاف خاصة بعد أن بدأ الشباب يخرج إلى
الميادين وساحات الجامعات، فكان الحل الوحيد هو إعتقال الخطباء من
الشباب الإسلامي مما يدل على أن الكلمة، والكلمة فقط ترهبهم وتزلزل
أركانهم وويل لشعب يحكمه نظام لا يستطيع مواجهة الكلمة .
ويعتبر د . " محمود شعيب " من أبرز هؤلاء الخطباء الذين اعتقلوا
لأنهم يجاهدون بالكلمة. يتميز بطلاقة لسان غير عادية يسحر من يستمع
إليه. يحفظ القرآن الكريم ولديه من العلم حظ وافر. حصل على بكالوريوس
الطب هذا العام من داخل السجن, نزيل دائم في السجن بسبب خطبه التي
تلهب حماس الشباب ، معتقل منذ يناير 90 ورغم حصوله على أكثر من 15
حكما بالإفراج وإخلاء السبيل، إلا أن الحكومة ترفض أن يرى الشارع
.
والمعتقلون بذلوا جهدهم لتحويل السجن إلى مجتمع إيماني، فوزعوا
المسؤوليات، كل في المكان المناسب حتى الآذان اختاروا له أجمل
الأصوات. كان ينتابني شعور بالغربة عندما أسمع آذان المغرب والعشاء
بالتحديد، فصوت المؤذن كان حزيناً ومؤثراً .. عندما يردد " الله أكبر
.. الله أكبر " تهتز له أوتار القلوب. كان ينقلني من دنيانا إلى
الوراء، أتخطى قرون الذل والانكسار إلى أيام الإسلام الأولى عندما كان
بلال يؤذن بصوته العذب إيذاناً بسقوط فارس والروم وأذيالهما وقيام
دولة الإسلام. كان صاحب الآذان شابا يدعى " أحمد مراد " من الأقصر،
مسئوليته آذان المغرب والعشاء فقط، أما باقي الأوقات فموزعة على
آخرين، و " أحمد مراد " معتقل منذ 8 شهور بلا محاكمة ، وهو من عشرات
الأحياء المقبورين في سجون الظلام، ولأن من يحكموننا أرادوا أن يدفنوا
هؤلاء الشباب الطاهر، فإن هؤلاء الضحايا خلف الجدران المظلمة قابلوا
التخطيط الحكومي بأن جعلوا فترة الاعتقال خلوة للزاد، فمعظمهم أتم حفظ
القرآن الكريم، وعدد كبير منهم أتجه إلى حفظ متون كتب العقيدة
والتفسير. المعتقلون يحفظون القرآن بالنهار ويقومون الليل بما
حفظوه.
وقيام الليل داخل السجن من العبادات التي يداوم عليها معظم
المعتقلين.كنت أقف على باب الزنزانة لأستمع إلى القرآن يرتل في كل
الزنازين. أجمل الأصوات في الدنيا سمعتها داخل السجن. أصوات يغلفها
الخشوع. كنت أسمع الترتيل مختلطاً بالبكاء في جوف الليل. كنت أشاهد
الجنود والحراس يتصنتون على الأبواب يستمعون إلى أجمل الأصوات.كنت
أسمع دعاء المظلومين في جوف الليل. دعوات كافية لأن تنسف الجبال
نسفاً، ولكن الظالمين لا يعلمون.د
.. حقيقة إن تجربة السجن زادتني ثقة عن ذي قبل أن الإسلام قادم ..
قادم، رغم الجراحات والأشلاء والضحايا, لقد رأيت الإسلام شامخاً
كالجبال بين الضلوع المتورمة والأجساد الممزقة .. لقد رأيت شباباً
حرصهم على الموت أشد من حرصهم على الحياة لا تؤثر فيهم سلخانات
التعذيب ولا حملات التضليل .
ولكن ثمة سؤالاً حائراً يحتاج إلى إجابة ما هو مستقبل مصر في ظل
حكومة ترفض التغيير بشكل سلمي .. وترفض إصلاح نفسها وتحقيق مطالب
الشعب ؟
[email protected]
3/12/2011 م