خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة
عبد الله بن صالح القصير
لا يذكرون أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير وعلى وجْه الثناء والشهادة له بالفضْل...
- التصنيفات: قصص الصحابة - سير الصحابة -
أ- محبَّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ حبَّهم إيمانٌ وبُغْضهم نفاقٌ، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية الإيمان حُبُّ الأنصار، وآية النفاق بُغْضُ الأنصار»، وقال في الأنصار: «لا يحبُّهم إلا مؤمن، ولا يُبْغِضهم إلا منافق»، وإذا كان هذا في الأنصار، فإنَّ المهاجرين أَوْلَى بالحبِّ؛ لأنهم أفضلُ في الجملة؛ لِمَا لهم من السابقة إلى الإسلام والهجرة مع النُّصرة، وورَدَ تقديمُهم في الذِّكْر على الأنصار في نصوص كثيرة بيَّنتْ فضْلَ الجميع ورضوان الله عليهم، وما وعَدَهم الله من الثواب الكريم والأجْرِ العظيم.
ب- سلامة قلوبهم من الغِلِّ لأحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم تحقيقًا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
ت- سلامة ألْسِنتهم نحوهم، فلا يذكرون أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير وعلى وجْه الثناء والشهادة له بالفضْل؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حَمَى كرامتهم، فقال: «لا تسبوا أصحابي؛ فوَالذي نفسي بيده لو أنْفَقَ أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذَهبًا، ما بلَغَ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه»، فإنَّ الحديث صريحٌ في تحريم السبِّ، فاللعْن أعظم من السب؛ فتحريمه أوْلَى، وكلاهما من كبائر الذنوب، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعْنُ المؤمن كقتْلِه»، وثبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهَ الله في أصحابي، لا تتخِذوهم غَرضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقدْ آذى الله، ومن آذى الله فيوشِك أن يأْخُذَه»، فحقوق الصحابة على الأمة من أعظم الحقوق، فإنهم خيار الأُمَّة، بل خيرُ الناس بعد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ورَضِي الله عن الصحابة أجمعين.
ث- وأهل السُّنة والجماعة لا يعتقدون عصمة أحدٍ من الصحابة ولا القرابة؛ لا السابقين ولا غيرهم ممن لَقِي النبي صلى الله عليه وسلم، بل يجوز عند أهْل السُّنة وقوعُ الذنوب منهم في الْجُملة؛ من كبائر الإثم وصغائره، لكنَّ الله تعالى يغفر لهم بأسباب قيَّضَها لهم، منها:
1- بالتوبة وبرفْع درجاتهم بها.
2- ويغفر لهم بالْحَسَنات الماحية؛ قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 33، 34] وهم رضي الله عنهم أعظمُ الأُمَّة صدقًا في الإيمان، وتصديقًا للرسول صلى الله عليه وسلم ولهم من السوابق والفضائل ما يوجِب مغفرة ما يَصْدر منهم إنْ صَدَر.
3- حتى إنهم يُغْفَر لهم من السيئات ما لا يُغْفَر لغيرهم ممن بعدهم، وقد ثبتَ بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنهم خيرُ القرون، وأنَّ الْمُدَّ من أحدِهم إذ تصدَّق به كان أفضلَ من مثل جبل أُحُد ذهبًا ممن بعدهم.
4- ثم إذا كان قد صدَر عن أحدٍ منهم ذنبٌ فيكون قد تابَ منه، فإنهم أعظمُ الأمة خشية لله، ومسارعة إلى التوبة وأسباب المغفرة، وبُعدًا عن الإصرار.
5- وأيضًا فإنَّ لهم من فضْل السابقة وعِظَم الحسنات الماحية، وغير ذلك مما خصَّهم الله به، مع ما ابْتُلوا به من المصائب المكفِّرة.
6- ثم إنهم أيضًا أحقُّ الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من أسباب المغفرة.
فإذا كان هذا في الذنوب المحقَّقة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مُجتهدين مأْجُورين، المصيب له أجران؛ أجْرٌ على الاجتهاد وأجْرٌ على الإصابة، والمخطِئ له أجرُ اجتهاده، وخطؤه مغفور له؟!
ج- ولذا أجمع أهل السُّنة والجماعة على وجوب السكوت عن الخوض في الفِتن التي جَرَتْ بين الصحابة رضي الله عنهم بعد مَقْتل عثمان رضي الله عنه والاسترجاع على تلك المصائب، والاستغفار للقَتْلى من الطَّرَفين، والترحُّم عليهم؛ قال أحد السلف لَمَّا سُئِل عن القتال بين الصحابة رضي الله عنهم: تلك دماءٌ وأشلاءٌ طهَّر الله منها أيدينا، فلا نلوِّث بها ألْسِنتنا، ثم قرأ قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134].
فالواجب حِفْظُ فضائل الصحابة والاعتراف بسابقتهم، ونشْر مناقبهم، والاعتقاد أن كلاًّ منهم مُجتهد لَم يتعمَّدِ الخطأ، فمن أصابَ فله أجران، ومَن أخطأ فله أجْرٌ وخطؤه مغفور، وما رُوي من الأحاديث في مساويهم، فالكثير منه مكذوب، ومنه ما قد رُوي وزِيدَ فيه أو نُقِص منه، وغُيِّر عن وجْهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ لعدم العَمْد، ثم إنَّ القدر الذي يُنْكَر من فِعْل بعضهم قليل نزر مَغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم؛ من الإيمان بالله ورسوله، والهجرة والنصرة والجهاد في سبيل الله، والعلم النافع والعمل الصالح، فإنَّ مَن نظَرَ بعِلمٍ وبصيرة في سيرة القوم، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِم يقينًا أنهم خيرُ الْخَلْق بعد الأنبياء والمرسلين، لا كان ولا يكون مثلُهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأُمَّة التي هي خيرُ الأمم وأكرمُها على الله عزَّ وجلَّ.
تنبيه:
ليس في بيان خطأ من أخطأ من الصحابة رضي الله عنهم من الأحكام شيء من إظهار المساوئ، بل ذلك مما يَفرضه الواجبُ ويوجِبه النُّصح للأمة، فأهْل العلم والإيمان لا يُعَصِّمُون ولا يُؤَثِّمُون، وأهْل البدع والضلالة يَجعلون الخطأ والإثْمَ متلازمين، وبذلك يتبيَّن أنَّ أهْل السُّنة والجماعة وسط في الصحابة بين الذين يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، والذين يَجفون عنهم ويقولون: إنهم بخطئهم آثمون باغون.