تجربة تركيا
سعيد عبد العظيم
فتركيا معدودة من الدول الإسلامية لأن غالب سكانها من المسلمين، وجزء منها يقع فى قارة أوروبا، وكانت استانبول عاصمة للخلافة العثمانية....
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه..
أما بعد،،
فتركيا معدودة من الدول الإسلامية لأن غالب سكانها من المسلمين، وجزء منها يقع فى قارة أوروبا، وكانت استانبول عاصمة للخلافة العثمانية التي ترامت حدودها وأطرافها لعدة قرون، ومر عليها أفذاذ من القادة والخلفاء من مشاهير التاريخ، وكان آخرهم السلطان عبد الحميد الذي رفض التنازل للزعيم اليهودي هرتزل عن أرض فلسطين مقابل خمسين مليوناً ذهبية منها مليون لخزائنه الخاصة، وقال قولته المشهورة: بلغوا الدكتور هرتزل أن الدولة العلية لا يمكن أن تختبئ وراء حصون بنيت بأموال أعداء المسلمين، وأن هذه الأرض ليست ملكي، ولكن ملك للمسلمين، ولا يجوز التفريط في شبر منها.
فكانت المؤامرة وكانت الحرب على هذه الدولة إلى أن تم القضاء على الخلافة العثمانية، وجاء مصطفى كمال أتاتورك ربيب يهود الدونمة، وبمساندة الاتحاد والترقي ليقيم دولة علمانية غاية فى التطرف محل الخلافة العثمانية.
هذه الخلافة التي مرت بمراحل ضعف وقوة، شأنها كشأن غيرها من الدول، وإذا كان المشوهون لها والمنفرون منها يصفونها بخلافة الجهل والفقر والمرض هكذا على جهة الإجمال، ويُدرِسون ذلك للتلاميذ الصغار في مدارسهم، فالواقع والحقيقة والتاريخ يحكي أن هذه الخلافة كانت لها أياد بيضاء على هذه الأمة ما لا يقل عن أربعمائة سنة دافعت فيها عن الإسلام و المسلمين ضد أعدائهم، واتسعت الفتوحات الإسلامية فى عهدها وكانت خلافة مرهوبة الجانب، حسناتها كثيرة وعديدة لا يجحدها إلا اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيون.... وكل من يبغض الإسلام وأهله، حتى لو تمثل ذلك في بعض الأسماء الإسلامية كما حدث فى بلغاريا من استبدال الأسماء الإسلامية بغيرها، وللأسف شابه هؤلاء بعض أصحاب النعرات الوطنية والقومية من المنسوبين للإسلام، وما عُصى الله بمعصية أعظم من الجهل بالدين، والغرض مرض، فلا تعجب عندما تجد بعضاً من قادة وزعماء المسلمين المعاصرين يبغضون الخلافة العثمانية ويفتخرون فى الوقت ذاته بأن أتاتورك هو مثلهم الأعلى، و أن بلدانهم علمانية و ليست إسلامية!!!
لقد حاول أتاتورك طمس الهوية الإسلامية فقام بتحويل المساجد إلى متاحف والأذان إلى اللغة التركية وارتدى القبعة وكان كثيراً ما يُرى مخموراً ومنع الحجاب.... وصار الجيش هو المُدافع عن العلمانية، وهى الراية المرفوعة على البلاد والمُحارب بطبيعة الحال لكل مظهر إسلامي، ومات أتاتورك وهو يعرض عرش تركيا على المندوب السامي البريطاني في بلاده، ورفض الأخير لأن العمالة والتواطؤ سيفتضح، وظلت تركيا علمانية، وقام الجيش بدوره في منع كل من حاول العودة بتركيا إلى شئ من الإسلام كحزب الرفاه والسلامة، وعُزِل وحُبِس رجل كأربكان مرات وتم حل حزبه لأسباب غاية فى الغرابة كضبطه يُصلي!!!
وأعدموا عدنان مندريس رئيس الوزراء للتوجه الإسلامي ولكونه حج سراً، ولو قلنا إنها الحرب على الإسلام وأهله فى أبشع الصور كهذه التي مورست فى الاتحاد السوفيتي والصين وبورما..... وإن إختلفت صورها وأشكالها {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
لقد قام الجيش التركي بعدة انقلابات للمحافظة على العلمانية ولإبعاد تركيا عن أي مظهر إسلامي، واليوم عندما نشاهد حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان تلميذ أربكان وعدنان مندريس يحاول العودة بتركيا إلى وجهها الإسلامى ويُصرِح بأنه ابن الخلافة العثمانية، ويمد يده للدول الإسلامية ويناصر بعض قضاياها وينجح فى تقليم أظافر الجيش وتقليص مظاهر العلمانية، ويُعاد فتح المساجد وظهور الحجاب فى المحافل الرسمية، وغير ذلك من الشعائر والمظاهر الإسلامية التى تزداد يوماً بعد آخر، أقول لا نملك إلا أن نفرح بذلك، فليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، فماذا كانت تركيا الأتاتوركية وكيف أصبحت فى يومنا هذا؟ ومن آلمه بعض أو الكثير من مظاهر الإباحية والعلمانية التى ما زالت فى تركيا بل والأخطاء التي يقع فيها حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، فهذا من حقه، وليس لمسلم أن يرضى بمعصية، أو أن يكيل بمكيالين، أو أن يوالي أحداً على حساب دينه، فالحق مقبول من كل من جاء به، والباطل مردود على صاحبه كائناً من كان، وهذا لا يتنافى مع قولنا: بعض الشر أهون من بعض، وليس لنا أن ننسى السنن، أو أن نتجاهل الشرع والواقع، فنحن نفرح بدخول المخمور المسجد وإقلاعه عن شرب الخمر، ونفرح برجوع المرأة عن الرقص والغناء والتمثيل وارتدائها الحجاب، ودخول المرء فى الإسلام بعد أن كان ملحداً أو يهودياً أو نصرانياً.....
نفرح بكل تائب وندرك أنه بعد توبته قد يمارس بعض الجهالات والمخالفات لضعف إسلامه وقلة يقينه وعدم علمه، وإن كنا نتمنى له ولأنفسنا صلاح الحال وتقوى الله والاستقامة على شرعه، وإذا كان المسلمون قد فرحوا بانتصار الروم على فارس لأنهم أقرب الطائفتين للحق، فكيف لا نفرح بانتصار المسلمين على ما بهم من مثالب وعيوب، نتمنى لتركيا ولأردوغان الاقتراب أكثر وأكثر من هدي رسول الله – صلي الله عليه وسلم - والدولة المسلمة التي أقيمت على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين، نتمنى لهم ولنا أن نكون على مثل ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام، فكل خير فى اتباع من سلف، وكل شر فى ابتداع من خلف، وفى الحديث «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» هذا هو مقياسنا فى القبول والرفض، و يبقى أن يقال: ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه، والواجبات تسقط بالعجز وعدم الاستطاعة و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وكما هو مقرر ليس المقدور عليه كالمعجوز عنه، ولا بد من مراعاة ظروف الإضطرار والإستكراه، وقد اتفق العلماء على أن التكليف بما لا يطاق ليس واقعاً فى الشرع، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
لقد أثنى النبي – صلى الله عليه وسلم - على النجاشي وقال عندما مات: «صلوا على أخيكم النجاشي» وكان حاكما للحبشة، فبماذا كان يحكم وهو بعيد عن مدينة النبي – صلى الله عليه وسلم - وفى ظروف لا يستطيع فيها إظهار الكثير من شعائر إسلامه، وقال نبي الله يوسف من قبل لعزيز مصر {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وحال مصر الفرعونية معلوم ومعروف، ولذلك قال لصاحبي السجن {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، و بوَب البخاري "باب ترك الإمام بعض الأمور المختارة للمصلحة الراجحة" و إستدل بحديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولأقمتها على قواعد إبراهيم ولجعلت لها باباً يدخلون منه وباباً منه يخرجون».
فالذي منع النبي –صلى الله عليه و سلم- من هذا الفعل أن القوم حدثاء العهد بمعرفة الإسلام، والإقدام على ذلك يغلب على الظن حدوث الضرر والمفسدة معه، وأيضاً لذلك امتنع النبي –صلى الله عليه وسلم- عن قتل ابن سلول رأس المنافقين وقال: «ترعد له أنف كثيرة بيثرب، فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»، والأدلة والشواهد فى هذا المعنى كثيرة وشرع الله مصلحة كله وحيثما كانت المصلحة الحقيقية لا المتوهمة فثم شرع الله.
إن مسيرة آلاف الأميال تبدأ بخطوة واحدة، و بناء الأفراد يحتاج إلى وقت فكيف ببناء الأمم، وخصوصاً مع كثرة الصعاب والمعوقات وكثرة الهدامين، وهذا كله لا يمنع من السعى لإقامة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِين}.
وستكون بإذن الله خلافة على منهاج النبوة كما أخبر الصادق المصدوق – صلوات الله وسلامه عليه -، ولا حجر على سعة رحمة الله {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}.