ازدواجية الخطاب وأثرها في مسيرة النهضة

والحقيقة أنَّ هذا التوزُّع الفكري والثقافي الذي أصابَ الأمَّة كان سببًا مباشرًا لوقف أو على الأقلّ: تعطيل مسيرة النَّهضة وملاحقة التطوُّر والتقدُّم الذي يشهده العالم المعاصر، وكان سببًا في التسوُّل على موائد الغرب، والارتِماء في أحضانه والاحتِماء برؤاه وأفكاره، وتسبَّب أيضًا في إضعاف القرار الموحَّد الَّذي يعبِّر عن شخصيَّة الأمَّة وذاتيَّتها..

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

يعيشُ العالم العربي والإسلامي حالة من التوزُّع والنزاع الفكري والثقافي، فضلاً عن التوزُّع السياسي والاقتِصادي؛ بسبَب توزُّع تيَّاراته الفكريَّة والثَّقافيَّة وتنازُعها؛ إذْ يتنازع الخطاب الفكري تيَّارات متعدِّدة لكلِّ تيَّار رؤيته المناوئة في أحيان كثيرة لغيره.

 

والحقيقة أنَّ التعدُّديَّة الفكريَّة والثقافية في حدِّ ذاتها ليستْ حالة مَرَضيَّة يُخشى منها؛ بل هي حالة صحّيَّة تُنذر عن قوَّة الأمَّة ومتانتها في مواجهة التحدِّيات التي تتربَّص بها، بشرْط أن يكون بيْنها تقارُب في الرُّؤى والأفكار، وتوحُّد في القضايا المصيريَّة التِي تمرُّ بها الأمَّة الإسلاميَّة في العصْر الحالي، لكنَّ الحالة الآنيَّة التي تُعاني منها الأمَّة حالة مرَضية تَحتاج إلى تضافُر الجهود وصدق النوايا لعلاجِها، والوقوف على الأسباب الَّتي تؤدِّي إلى توسيع الهوَّة بينها، بهدف وضْع العلاج الناجع لها.

 

ويُمكن إرْجاع هذه التيَّارات إلى تيَّارين رئيسين:

تيَّار يتَّخذ الإسلام أصلاً في أُطْروحاتِه الفكريَّة والثقافيَّة، وقاعدة تنطلِق منها رُؤاه وحلولُه لمشكلات وقضايا الأمَّة المعاصرة، مع اختِلافات بيْن بعض تيَّاراته تصِل أحيانًا إلى حدِّ الخلاف.

 

ويرى هذا التيَّار في الإسلام قوَّة ومنعة تستطيع به الأمَّة أن تقِف قادرة في وجْه التَّحدِّيات الَّتي تُواجهُها، ويكون لها دوْر قيادي ومؤثِّر في العالم المعاصر، إنِ اهتدتْ بتعاليمِه وسارتْ على نَهجه، وتستطيع الأمَّة إذا عادت إلى جُذورِها وتراثها أن تَخرُج من الهوَّة التي سقطتْ فيها بعد أن نحَّت الإسلام كمنهج حياة، ودستورٍ سياسي عن واقِع حياتِها، كما يرى هذا التيَّار في الإسلام حلاًّ للمشكلات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي تعاني منها الأمَّة؛ لأنَّه منهج حياة متكامل، ويجب التَّعامل معه بهذا الشَّكل، أمَّا حينما اختزله المسلِمون وحصروه في بعْضِ الشَّعائر والعبادات ونحَّوه عن القضايا الحياتيَّة، واعتبره البعض عائقًا أمام التقدُّم، وتعامل معه المسلمون على هذا الشَّكل المتجزِّئ صاروا إلى ما هم عليه.

 

♦ وتيَّار آخر ينحِّي، أو يُمكننا القول:

لا يعطي أهميَّة للإسلام في خطابِه، وإن كان لا يُهْمِله كليَّة؛ بل إنَّه يستخدِمُه أحيانًا في خطابِه للاستِئْناس بأفكاره، وأحيانًا أُخَر يطوِّع نصوصَه حسْبما يتوافق وأطروحاته، على اختِلاف بين هذا التيَّار في درجات التَّعامل مع معطيات الفكْر الإسلامي بين رافضٍ له ومستأنِس به، ومطوِّع لنصوصِه على ما يوافِق رُؤاه وهواه أحيانًا.

 

ويرى هذا التيَّار أنَّ الانطِلاقة الحقيقيَّة للأمَّة أَن تواكِب العصر، وتطوّر خطابَها حتَّى يُواكب الأفكار السَّائِدة في العالم المعاصر، ويرى أن تَهتدي الأمَّة في نهضتها بالحضارة الغربيَّة المعاصرة؛ فقد بلغت هذه الحضارة مبلغًا يشْهَد له الواقع، وما بلغتْ هذا المبلغ إلاَّ حينما اتَّجهتْ إلى فصْل الدين عن الدَّولة.

 

وينظر هذا التيَّار للدين نظرةً قاصِرة، ويَعتبره تراثًا أدَّى دَوْرَه في الماضي في العصور السَّالفة، أمَّا اليوم فقد تغيَّرت الأحوال وأصبح تفعيل الدِّين أمرًا غير مقبول في العالم المعاصِر؛ بل إنَّه ربَّما يخلق ويجرُّ مشكلات ومعوِّقات كبيرة على الأمَّة لا تستطيع مواجهتها.

 

والحقيقة أنَّ هذا التوزُّع الفكري والثقافي الذي أصابَ الأمَّة كان سببًا مباشرًا لوقف أو على الأقلّ:

تعطيل مسيرة النَّهضة وملاحقة التطوُّر والتقدُّم الذي يشهده العالم المعاصر، وكان سببًا في التسوُّل على موائد الغرب، والارتِماء في أحضانه والاحتِماء برؤاه وأفكاره، وتسبَّب أيضًا في إضعاف القرار الموحَّد الَّذي يعبِّر عن شخصيَّة الأمَّة وذاتيَّتها، وبالتَّالي أضعف الحوارَ مع الآخر؛ إذ وجد الآخَر نفسَه حائرًا: مع مَن يتحاور وليس هناك نقطة التقاء بين الطرفين؟! فبات يكيل التهم والادِّعاءات، ويتَّهم الإسلام بالجمود والانزواء.

 

والحقيقة أنَّ إذكاء هذه الهوَّة الفكريَّة والثَّقافيَّة في عالمِنا العربي والإسلامي أمرٌ يُعَرْقِل مسيرة النَّهْضة والإصْلاح في المستويات كافَّة، من هنا كان على المخْلصين من أبْناء الأمَّة في مختلف التوجُّهات والتيَّارات أن يعملوا على رأْب الصدع، وتلاقُح الأفكار وتلاقيها على نقاط ارْتِكاز تنطلق منها رؤاهم وتصوُّراتُهم؛ حتَّى تنطلق منها الأمَّة متجاوزةً بها الصِّعاب والعراقيل الَّتي تواجِهُها.

 

ولكي تخرج الأمَّة من هذه الهوَّة، لا بدَّ من نقاط ارْتكاز يلتقي عليْها وينطلِق منها كافَّة التيَّارات؛ حتَّى تتجاوز هذه النزاعات والتوزُّعات الفكريَّة التي تسبَّبت في تشتُّت الجهود، وبالتَّالي فشلها إن جاز التعبير قال تعالى محذِّرًا من التنازع: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

 

والحقيقة أنَّ أيَّ ارتكاز على غير الإسلام ومبادئِه سيوقع الأمَّة في مستنقع التخلُّف والانزواء أكثرَ ممَّا هي عليه الآن، والواقع يشهد بذلِك؛ فقد جرَّبت الأمَّة رؤًى وأفكارًا متعدِّدة، لكنَّها لم تَجْنِ منْها إلاَّ مزيدًا من التأخُّر عن ركْب العالم المعاصِر، وظلَّتْ طوالَ هذه الفترة لا تَملكُ قرارًا، ولا تستطيعُ أخْذ حقوقِها الَّتي يسلبها العدو منها يومًا بعد يوْم، وهي عاجِزة عن الدفاع عن نفسِها، حتَّى ولو دفاعًا فكريًّا، فمع أنَّها تقِف موقف الضحيَّة والقرائن والشَّواهد العديدة تؤكد ذلك إلاَّ أنَّ العدوَّ استطاع بمكرِه وخبثِه أن يضعَها موضع الجاني، ويعاملها على هذا الأساس، وفي غفلةٍ منْها صدَّقت هذا الأمر، وتعامَلتْ على أساسِه، فباتتْ تُدافع عن نفسها، بالنَّفي أحيانًا وأحيانًا أخرى بالاعتِذار، ناهيك عن كثيرٍ من التَّنازُلات العديدة التي تنازلتْ عنْها لتسترْضِي بها العدو.

ولكيْ تتلاقى الأفكار والتوجُّهات وتتقارب؛ ينبغي مراعاة أمورٍ عدَّة حتَّى لا تزيد الهوَّة وتتباعد الرُّؤى والتوجُّهات.

 

نقاط ارتكاز:كما ينبغي أن يلتقِيَ المسلمون على نقاط ارْتِكاز تنطلق منها مسيرتُهم الفكريَّة، ومن هذه الأمور:

مراعاة ثوابت الأمَّة:

فأيّ أمَّة من الأمم لها ثوابت تنطلق منها، هذه الثَّوابت نابعة من طبيعتِها وذاتيَّتها وتراثِها وتاريخها، فإذا تَجاوزتِ الأمَّة هذه الثَّوابت ونحَّتْها جانبًا، أو على الأقلِّ همَّشتْها، فإنَّها لن تَستطيع مواجهة ومُجابهة أعدائِها، بل إنَّ تخلِّيها عن ثوابتِها وخصوصيَّة شخصيَّتها سيُعرِّضها للذَّوبان في خضمِّ الرؤى والتَّيَّارات التي يمجُّ بها العالم المعاصر.

 

إذكاء الحوار الداخلي:

من البد هيَّات أنَّه قبل الحديث عن ضرورة الحِوار مع الآخر لا بدَّ من الاهتِمام بالحوار الدَّاخلي بين تيَّارات الأمَّة المختلفة؛ لأنَّ انعِدام الحوار الداخلي بهدَف التَّقارب بين الرؤى والأفكار، والخروج في نهاية الأمْر بما يوحِّد الصف ويقوِّيه سيؤدِّي إلى ضعف أيّ حوارٍ خارجي مع الآخر إن لم يؤدِّ إلى فشله.

 

توحيد الخطاب بما يتوافق مع فقه الواقع:

إنَّ وحدة الصَّفِّ تنبع أساسًا من وحدة الفِكْر والهدَف، وأيّ وحدة عضويَّة لا بدَّ أن تسبقَها وحدة فكريَّة، وإذا كانت مراعاة الثَّوابت واجبةً فإنَّ مراعاة الواقع أوْجب، ولا يعني مراعاة الواقع التَّنازُل عن الثَّوابت، بل إنَّه يعني تطْوير العرض وتحْسينه ومرونة الخطاب وتطْويعه بِحيثُ يتواءم مع طبيعة العصر؛ فإنَّ الجمود في فهْم النصوص سيؤدِّي إلى التقوْقُع والانزواء والعجْز عن مسايرة الأحْداث وملاحقتها، ولن يقلَّ خطورة عن ترْكِها أو تأويلها بما يتناقض مع ثوابت الدّين.

 

الاعتزاز بالهُوِيَّة:

إنَّ الاعتِزاز بالهويَّة والتمسُّك بها وعدم التَّنازُل عنها أو الخجَل منْها من الأمور الَّتي لا يمكن إغفالُها أو التَّهاوُن فيها، بل ينبغي للمسلم أن يكون على ثقةٍ ويقينٍ من قدراتِه وقوَّة مبادئه وأفكاره، وعلى يقينٍ كامل في قدْرة الإسلام كمنهجِ حياة وفكرٍ يستطيع أن يقِفَ شامخًا في وجه التيَّارات المعاصرة، وأن يثريَ الحياة المعاصرة بمعطياته الحضاريَّة الرَّاقية، وله من التَّاريخ سندٌ قويٌّ ودليل على ذلك.

 

الاهتداء بالتراث الفكري للأمَّة، والاستقاء منه مع عدم إغفال التطوُّرات المعاصرة:

وهذا مبدأ من المبادئ المهمَّة لوحدة الصَّفّ، فنحن أمام تيَّارين: تيَّار يتعصَّب للتراث تعصُّبًا يَجعله أحيانًا يغفل الواقِع ويبتعد عنه، وتيَّار يتنكَّر للتراث ويوليه ظهره؛ ظنًّا منه أنَّه قد أدَّى دوْرَه في الأزْمان السَّالفة، ويجعله هذا التنكُّر يأخذ بالأفكار المعاصرة أيًّا كان مصدرها وأيًّا كانت مرجعيَّتها، ولا ينظر لتناقُضها مع قِيَم الأمَّة وثوابتها، والحقُّ أنَّه لا بدَّ من الموازنة والمواءَمة بين الاهتداء والأخْذ بالتراث، وبين الانتِفاع بمعطيات الحضارة المعاصرة.

 

هذه بعض الأمور الَّتي يمكن أن تأخُذ بها الأمَّة بكافَّة توجُّهاتها الفكريَّة، حتى تستطيعَ أن تُجابه وتواجِه التَّحدِّيات الَّتي تحيق بها من كل جانب.

 

الكاتب:  د. سيد عبد الحليم الشوربجي.