جريمة القتل بين العصبيات الجاهلية وتنافس الدنيا
إن تنافس الدنيا والحميَّة الجاهلية وأمثالها من النَّوازع النفسيَّة المنحرفة أو المريضة تثير في النفس الرغبة في جريمة القتل، وتنسي المسلم أن يردَّ القضايا إلى منهاج الله ودينه وأحكامه، كما حدث بين ولدَي آدم عليه السلام ممَّا عرضناه في أول هذه الكلمة، وإن هذه النوازع النفسيَّة تُنْسِي المسلم بعض ما كان يرفع من شعارات مخالفة للإسلام، فيقع في جريمة جديدة يخالف فيها أحكام الإسلام.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
جريمة القتل قديمةٌ في تاريخ الإنسان، وهي أول جريمة تُرتَكب على الأرض حين قَتَل أَحَدُ ابنَي آدم أخاه حسدًا منه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 27 30].
وامتدَّت هذه الصورةُ في تاريخ البشرية حيث تبرُز نظرتان مختلفتان: نظرةٌ نابِعة من الإيمان بالله ومِن خشيته، ونظرةٌ نابعة من أهواء الدنيا من حسَد وظلم وعدوان آثم، وكلُّ ذلك على قدَرٍ من الله غالب، وقضاء نافذ، وحكمة لله بالغة، حين جعل الله بحكمته الحياة الدنيا دار ابتلاء وتمحيص، تُبتَلَى فيها النفوس، ويُمَحَّص ما في الصدور، حتى تُكْشَفَ في الدار الآخرة على موازين قسط؛ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وامتدَّت الجريمة في الأرض، على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمم والشعوب، جرائم ممتدَّة يقوم بها المُجْرِمون المُعْتَدُون الظالمون، حتى امتلأ التاريخ البشريُّ بالمَجَازِر والدماء والأشلاء.
ولكن الله سبحانه وتعالى لم يترك الحياة يدفعها المجرمون وحدهم، فبعث الله الأنبياء والمرسلين ومَنْ آمن بهم واتبعهم، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس، وليبيِّن للناس سبيل الحق والعدل، وسبيل الأمن والسلام، وشرع الله للناس شرعه الحق لينظم الحقوق والمسؤوليات، والقضاء والحكم، على أسس ربَّانِيَّة تنتظم فيها الحياة، في دين واحد حملته رسالات الأنبياء، هو دين الإسلام.
وظلَّت الأهواء والعصبيات الجاهليَّة وتنافُس الدنيا وصُوَر الجرائم وبخاصة جرائمُ القتل وظلَّت شريعة الله تقاوِم الجريمة، وتنير سبل السلام، وفي جميع الحالات تبقى المسؤولية مسؤوليةَ الإنسان نفسه، مسؤولية الشعوب، لتختار هي بنفسها سبيل الحق الذي جاء من عند الله فتنصره؛ فتكسب عزَّ الدنيا والآخرة، أو تَضْعُف دونه فتخسر الدنيا والآخرة، على سُنَن ثابتة لا تتغيَّر، أو تُحرِّف آيات الله وتبدِّلها فيضل الناس بذلك، حتى جاءت الرسالة الخاتمة بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه.
وحملت الأمة المسلمة التي اختارها الله والتي جعلها خير أمَّة أُخرِجَت للناس، حملت هذه الأمةُ المسؤولية بعد النُّبُوَّة الخاتمة، لتتابُع تبليغ رسالة الله إلى الناس كافَّة ولتتعهَّدهم عليها.
ومن خلال هذه المسؤولية العظيمة خاض المسلمون ميادين الحياة يُبَلِّغون ويتعهَّدون، وينشرون الأمن والسلام ما استمسكوا بكتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم حتَّى إذا انحرفوا أو تهاونوا أو هانوا، مَضَتْ عليهم سنن الله الثابتة، وظَلُّوا في جميع الأحوال مسؤولين عن مدى وفائهم بالأمانة والعهد، ومحاسَبين بين يدي الله عمَّا فعلوه أو بذلوه.
وذاق المُسْلِمون في تاريخهم الطويل أهوالَ القتل وجرائمه، يندفِع بها المُجْرِمُون الذين لم يعرفوا حلاوة الإيمان وفضل الإسلام، ذاقَ المسلمون ذلك كُلَّما وَهَنُوا أو هَانُوا، أو ضَعُفوا وضَعُف التزامُهم بدين الله، وضعُف وفاؤهم بالأمانة التي حَمَلوها، فمضت عليهم سنن الله، يستضعفهم المجرمون قتلاً وتشريدًا، وإذلالاً وهوانًا.
انظر كم أصاب المسلمين مِنْ قتْلٍ في الحروب الصليبيَّة، وكم أصابهم من ذلك في الأندلس، وفي الهند، والجزائر وليبيا وسائر شمال أفريقيا، والصومال، ولبنان، والعراق، وأفغانستان، وغيرها من ديار المسلمين؟
ذاك كلُّه ابتلاءٌ من الله سبحانه وتعالى أو عقاب لما كان فينا من الانحراف أو ضعف واستكانة، ولكن الابتلاء الأكبر من الله سبحانه وتعالى والعقاب الأشد منه هو ما يقوم به أعداء الله في بثِّ الفتن والفساد بين المسلمين، واستدراج بعضهم ضدَّ بعض، وإثارة الخلافات واستغلالها، حتى اشتعل القتال بين المسلمين أنفسهم، يقتل بعضهم بعضًا، ويأسِر بعضهم بعضًا، ويذلُّ بعضُهم بعضًا في أجواء مجنونة من الخلاف لا تكاد تجد ما يُسَوِّغها إلا تنافس الدنيا أو العصبيات الجاهلية من حزبية أو إقليمية أو عائلية، وتمزَّقت الأمَّة شِيَعًا وأحزابًا، واستراح المجرمون وهم يَرَوْن المسلمين قد كفَوهم مؤونة قتلهم وأسرهم، واستباحة ديارهم!
وقد صدق فينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِي لي منها، وأُعطيتُ الكنزَين الأحمر والأصفر، وإني سألتُ ربِّي لأُمَّتي ألاّ يهلكها بسَنَة، وألاّ يُسَلِّط عليهم عَدُوًّا من سوى أَنْفُسِهم فيستبيحَ بيضتهم، وإنَّ ربي قال لي: إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يردُّ، وإني أَعطَيْتُ لأمَّتك ألا أهلكهم بسَنةٍ عامة، وألا أسلِّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستَبيحَ بيضتَهم، ولو اجتمع عليهم مَنْ بأقطارها، أو من بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضاً»؛ أخرجه الترمذي وقال: حسنٌ صحيح[1].
نعم، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حتى يكون بعضُهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا»، وهذا أدقُّ وصفٍ لواقعنا اليوم، فقد تحوَّلت الجهود من مجابهة اليهود إلى أن يجابِه بعضنا بعضًا، ويأسر بعضنا بعضًا، ويهلك بعضنا بعضًا، وأصبح المجرمون في الأرض، أعداء الله يجدون من المنتسبين إلى الإسلام من يوادّهم وينصرهم، ويستعين بهم على ضرب دار الإسلام وتحكيمهم في رقاب كثيرين من المنتسبين إلى الإسلام، فتفتح لهم الديار، وتفتح لهم القلوب، وقد تمزَّق المسلمون شيعًا وأحزابًا، ومصالح دنيوية وأهواء، يُوالُون أعداءهم ويغضبون الله بذلك، ولنستمع إلى آيات الله نورًا يشقُّ لنا الدرب وتهتدي به القلوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 1 3].
وتمضي سورة الممتحنة وآياتها البيِّنات تفصِّل العلاقات وتبيِّن حدودها، وكذلك آياتٌ أخرى في سورة البقرة وآل عمران والمائدة وغيرها من السور؛ لتكون العلاقة بين المؤمنين والمشركين جليَّة بيِّنة، لا لبس فيها ولا غموض.
وقبسات أخرى في سورة المائدة: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِين} [المائدة: 50 52].
إن هذا لَبَعضٌ من إعجاز كتاب الله، يستعرض فيه الزمن كله، كأنَّك تقرأ فيه ما جرى بالأمس، وما يجري اليوم، وما سيجري غدًا، سُنَن الله ثابتة ماضية لا تتبدَّل أبدًا.
والقضية الرئيسة التي يجب أن نستخلصها من هذه الآيات الكريمة: أن المرض والخلل هو أوَّلاً في أنفسنا نحن المسلمين وأن أعداء الله المجرمين لا يمكن أن يتمكنوا من إيذاء المؤمنين إلا حين يهون المؤمنون، ويضعف المسلمون، ويخالفون أمر الله وأمر رسوله في هذه القضية أو تلك، تُغرِيهم الاجتهادات البشريَّة التي لا تستند على أيِّ قاعدة ربانيَّة، فيضعف المسلمون أنفسهم بما كسبت أيديهم، وإذا هم يدعون إلى العلمانيَّة والمذاهب الحَدَاثية والديمقراطية؛ ممالأة للمجرمين في الأرض، فيحل عليهم عذاب الله، على الصالحين والمفسدين جميعًا؛ {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]، وانظر إلى هذا التعبير المعجز المليء بالصور والحركة في الآيات من سورة الأنفال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52].
نعم، يسارعون فيهم، فيوادُّونهم سرًّا كأن الله لا يراهم، والله سبحانه وتعالى محيط بما تعملون.
فمن المسلمين مَنْ يسارع سِرًّا، ومنهم من يسارع جهرًا، وفي الوقت نفسه لا يسعون إلى إخوانهم المسلمين يوادُّونهم كما يأمرهم الله، وإنما يقطعون معهم الصلاتِ والوُدَّ، ويجاهرونهم العداء والبغضاء.
وفي زحمة تناقض المصالح، وثورة الأهواء، وتنافس الدنيا، وغلبة العصبيات الجاهلية، يتسلَّل الشيطان إلى النفوس؛ ليزيِّن لها جريمة القتل، فيقتل المسلمُ المسلمَ، دون أن يَتَذَكَّر أوامر الله ونواهيه، فلا يكون القتل خاضعًا لشريعة الله وأحكامها، ولكن الفتنة في النفوس تُزَيِّن الجريمة لصاحبها، حتَّى ينسى أحكام الإسلام، آياتٍ وأحاديثَ، ثم يُسَوِّغ جريمته بأسباب يُبديها من عند نفسه، ولو أدَّى ذلك إلى تحريف بعض الآيات والأحاديث، ولكن الآيات المتعلِّقة بجريمة القتل محكَمة جليّة؛ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
إن تنافس الدنيا والحميَّة الجاهلية وأمثالها من النَّوازع النفسيَّة المنحرفة أو المريضة تثير في النفس الرغبة في جريمة القتل، وتنسي المسلم أن يردَّ القضايا إلى منهاج الله ودينه وأحكامه، كما حدث بين ولدَي آدم عليه السلام ممَّا عرضناه في أول هذه الكلمة، وإن هذه النوازع النفسيَّة تُنْسِي المسلم بعض ما كان يرفع من شعارات مخالفة للإسلام، فيقع في جريمة جديدة يخالف فيها أحكام الإسلام.
كان بعض المسلمين في فلسطين وفي قطاع غزة يقولون: الدَّم الفلسطيني حرام، ودوَّى هذا الشعار، حتى خُدِعت به بعضُ النفوس، واستغلَّته نفوسٌ أخرى، فأقدَمَتْ على قتل الفلسطيني، ولم يَعُدِ الدم الفلسطيني حرامًا، والشعار ذاتُه مخالفٌ للإسلام، فالدم الحرام محدَّد في الإسلام على غير أُسُس جاهلية، أو عصبيات قومية، أو خلافات عائلية، أو صراع حزبي أقرب للجاهلية منه للإسلام.
وفي أجواء المسلمين اليوم يسهُل تسويغ هذه الجريمة أو تلك بشعارات لا تلتزم أمانة الفقه في الإسلام، من خلال ما يغلب من جهل واسع بالإسلام بين كثير من المسلمين اليوم، وما يغلب من مصالح مادية دنيوية على بعض النفوس، وربَّما تقنع هذه الشعارات فريقًا وتغضب فريقًا آخر، ولكنَّ الأمر أخطر من إقناع فريق، إن الأمر يجب أن يكون في رضا الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، يوم توضع الموازين القسط، وتسقط موازين الدنيا وموازين أهوائها وتنافسها وعصبياتها الجاهلية؛ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
يجب أن يكون الهمُّ الأكبرُ في قلب المؤمن خشيتَه من الله، وصفاء إيمانه، وصدق علمه بمنهاج الله؛ ليردَّ الأمر إليه، إلى منهاج الله؛ ليأخذ الحكم منه ويلتزمه؛ {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [المؤمنون: 61 62].
هؤلاء يَتَّجِهون إلى الله بقلوب يملؤها الإيمان والعلم قبل أن تقدِم على جريمة القتل، فوَلَدَا آدم كما ذكرنا في أول هذه الكلمة كان أحدهما مُتَّجِهًا إلى الله، وكان الآخر يدفعه الحسد بعيدًا عن صفاء الإيمان والخشية من الله فقتل أخاه.
ويتذكر المؤمن الآيات والأحاديث تنير له الدَّرب وتحدِّد له الاتجاه والموقف؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ، يشهد أن لا إله إِلا الله وأني رسول الله؛ إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»؛ (رواه أحمد والشيخان) [2].
هناك الموقف الحق بين يدي الله يوم القيامة؛ {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان: 41 42]، ربَّما تقنع الشعارات المدويَّة طائفةً من الموالين للقَتَلة على عصبيات حزبية، ولكنَّها لا تُرضي الله سبحانه وتعالى مهما دوَّت بها الحناجر، وسيظلُّ في نفوس القَتَلَة المجرِمين قلقٌ وريبة يحاولون إخفاءها، ولكنَّها تَظَلُّ تقرع القلوب وتنشر فيها الألم والخوف.
وعن عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث: رجلٌ زنى بعد إحصان، أو ارتدَّ بعد إسلام، أو قتل نفسًا بغير حق فيقتل به»؛[3] (أخرجه أحمد والنسائي، وعن عثمان رضي الله عنه أخرجه أحمد والترمذي، والنسائي وابن ماجه والحاكم).
لقد أصبح بعضُ المسلمين يستحلُّون دماءَ بعضهم بعضًا، يغفلون جرائمهم فيحلُّون ويُحَرِّمون على هوًى في النفوس، دون الالتزام بالكتاب والسنة ويصدُّون عن سبيل الله.
كم يتمنَّى كثيرٌ من الناس أن يروا الإسلام الحق كما أُنزل من عند الله مطبَّقًا في الواقع، متمثلاً في سلوك الفرد المؤمن ومواقفه ونشاطه، ومتمثلاً في نهج الجماعة والأمة ومواقفها الإيمانية في جميع ميادين الحياة!
لقد استطاع أعداءُ الله أن يشغلوا المسلمين بفتن هائجة يثيرونها فيهم، وبقضايا ثانوية تصرفهم عن قضاياهم الرئيسة، بعد أن اضطرب الميزان في أيديهم، أو ضاع من بين أيديهم، فتركوا كثيرًا من القضايا الرئيسة، قضايا الإسلام ودعوته وتبليغها إلى الناس كافَّة، دعوةً ربانيَّة واحدة، وجمع كلمة المؤمنين أمةً واحدةً في الأرض كلها، أمةً واحدة، ودينًا واحدًا، ودعوةً ربانية واحدة، شُغِل المسلمون عن هذه القضايا الرئيسة لهوان في النفوس، وغزْو المجرمين في الأرض، واستحرَّ القتل بالمسلمين، واستهانوا بدمائهم، وزاد ابتعادُهم عن دين الله، وزاد ابتلاء الله وعقابه، فشغلوا بصراع الانتخابات والبرلمانات وما تثيره من أحقاد وصراع، وشغلوا بتنافس الدنيا وطلب زخرفها وزينتها.
على ماذا يختلف المسلمون أو يقاتل بعضهم بعضًا؟! أعلى تحرير فلسطين وإلقاء إسرائيل في البحر؟! لقد انكشف الواقع وبانَ عجزُ المفاوضات وعجز المقاومة عن تحقيق ذلك، وأخذت المقاومة تقترب من طلب السلام ورجائه، ولو أن ضجيج الشعارات سيظل يدوِّي زمنًا حتى ينتهي دوره، وكلٌّ يجاهد لينال جزءًا من الكعكة، وأخشى ألاّ تبقى كعكة ولا جزءٌ منها.
ولقد بان أن أعداء الله يمسكون بالخيوط كلها، ويحرِّكون الأحداث على قدَر من الله غالب، وقضاء نافذ، وحكمة بالغة!
إنه ابتلاء من الله وتمحيص للمؤمنين وغير المؤمنين، حتى تكون الحُجَّة يوم القيامة لهم أو عليهم.
ولكننا اليوم في واقعنا نرى مظاهر الوهن والضعف والذلَّة، وذهاب مهابتنا من قلوب أعدائنا، وامتداد الخلافات بين المسلمين، وامتداد الصراع والقتل!
فعن ثوبان رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «يُوشِك أن تَداعى عليكم الأمم كما تداعى الأَكَلة على قصعتها»، فقال قائلٌ: أَوَمِن قلَّة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهَن»، قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حبُّ «الدنيا وكراهية الموت»؛ (رواه أبو داود) [4].
ومن خلال هذا الوهَن، تجمَّع على المسلمين بلاءٌ بعد بلاء، ومازالت المصائبُ تمتدُّ وتتوالى، كل ذلك بما كسبت أيدينا، ومازال بعضنا يقتل بعضًا، ومازالت جريمة القتل ممتدَّة فينا، سواء بأيدينا نحن المسلمين أو بأيدي أعداء الله الذين استباحوا ديار المسلمين.
وأخيرًا:
لو نظر المسلمون في واقعهم وواقع أعدائهم، لوجدوا أن الخلل الكبير فينا، خلل التمزُّق والهوان الذي أورثنا الهزائم في تاريخٍ غير قصير، وجعلنا نستخفُّ بدماء بعضنا بعضًا، وسهَّل فينا الاستهانة بجريمة القتل، وكنَّا أمة ممتدة في الأرض برسالتها الإسلام، يهابنا أعداء الله، فتغيَّر الحال بما كسبته أيدينا حتى صرنا على ما نحن عليه.
وكان اليهود كما كنا نسميهم شُذَّاذ الآفاق لا يملكون شيئًا إلا المكْر والتخطيط والسعي المنهجي، وكنَّا نحن في أرض فلسطين نملكها بفضل من الله ونعمة فما رعينا حقَّ النِّعمة، فأخذ اليهود يتقدَّمون شيئًا فشيئًا حتى ملكوا فلسطين، وخسرنا نحن فلسطين.
رفع اليهود شعارًا واحدًا، ونحن شعاراتٍ متعددةً، وكان اليهود بالرغم من اختلاف أحزابهم صفًّا واحدًا بالنسبة لمطامعهم، وكنا نحن صفوفًا ممزَّقة، فأخذتنا الهزائم ونحن نعلن مع كل هزيمةٍ: (انتصرنا، انتصرنا) دون حياء! وتقدَّم اليهود حتى ملكوا فلسطين، وصرنا نحن نساوِمهم أن يمنحونا قطعة صغيرة نقيم عليها دولة مسخًا لتظل خاضعة لهم ولأعوانهم، وظلَّ اليهودُ يردِّدون حقَّهم في فلسطين بناء على ما حرَّفوه من التوراة وكذبوا به على الله ورسوله، ولكن ظلَّ لهم شعارٌ واحد ودعوة واحدة، ونحن نجعل من فلسطين كلَّ حين قضيةً بشعار جديد! فيومًا هي قضية فلسطينية أُقنعت الشعوب المسلمة بذلك، وحينًا آخر هي قضية عربية، أمَّا الإسلام وحكمه فيها فأخذ يغيب عن التصريحات والبيانات السياسية والتوجيه العام.
ونحن تراجعنا بشعاراتنا ومواقفنا واليهود يتقدَّمون خطوة خطوة، وأصبحوا الآن يطالبون بجرأةٍ وتحدٍّ بالاعتراف بدولتهم على أنها دولة يهودية، يغيب صوت الإسلام عند حمَلة قضية فلسطين من المسلمين، ويعلو صوت (اليهودية) عند اليهود، ومن خلال ذلك يَقتُل المسلمون بعضهم بعضًا، ويقتل الفلسطينيون بعضهم بعضًا في صراع محمومٍ وتنافس على الدنيا مكشوف، وتبقى جريمة القتل بغير حق أسوأ جريمة تُرتَكبُ على الأرض، تفسد حياة الإنسان، وتملأ الأرض ظلمًا وجورًا ما دامت لا تخضع لشرع الله.
إن مخالفةَ شرع الله في أيِّ ميدان من ميادين الحياة إفسادٌ واسع لحياة الإنسان، ونشرٌ للفتنة والظلم، سواء أشَعر الإنسان فورًا بذلك أم شعر بعد حين.
الكاتب: د. عدنان علي رضا النحوي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] "صحيح الترمذي"، كتاب الفتن، 34/14/2175.
[2] "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (رقم: 7643).
[3] "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (رقم:764).
[4] أبو داود: 31/5/4297، "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (رقم: 8035).