دور العلم في بناء ماليزيا
راغب السرجاني
تُمثل ماليزيا -بحق- حالة فريدة ومتميزة بين الدول الإسلامية، ليس فقط بسبب نجاحها بامتياز في عملية التنمية والنهضة، وبالتالي بلوغها مرتبة متقدمة بين الأمم الصاعدة، وإنما أيضا بسبب براعتها في التعامل مع كل المعضلات والتحديات التي واجهتها.
- التصنيفات: الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة - الإسلام والعلم -
تُمثل ماليزيا -بحق- حالة فريدة ومتميزة بين الدول الإسلامية، ليس فقط بسبب نجاحها بامتياز في عملية التنمية والنهضة، وبالتالي بلوغها مرتبة متقدمة بين الأمم الصاعدة، وإنما أيضا بسبب براعتها في التعامل مع كل المعضلات والتحديات التي واجهتها.
وبداية؛ فإن ماليزيا الشقيقة تقع في قلب جنوب شرق آسيا، وتبلغ مساحتها 330.343 ألف كم2، وعاصمتها مدينة كوالالمبور، ويبلغ عدد سكان ماليزيا 24.385.858 مليون نسمة (عام 2006)، يمثل المسلمون نسبة 60% تقريبًا منهم[1]، وتعتبر ماليزيا هي يابان العالم الإسلامي.. لماذا؟
لقد وصلت ماليزيا إلى المرتبة الثامنة عشرة على مستوى العالم اقتصاديا، وبنظرة سريعة إلى الأرقام التي حققتها دولة ماليزيا على العديد من الأصعدة، ومن واقع التقارير والدراسات العالمية المُعتمدة، نستطيع أن نرى وبوضوح المكانة التي استطاعت الشقيقة المسلمة -والتي تعتز بانتمائها إلى الأمة الإسلامية- أن تحفرها لنفسها بين دول العالم المتقدم.
فالناتج القومي لماليزيا 308.8 مليار دولار، ومعدل النمو السنوي للناتج القومي 5.5 ٪ (تقديرات 2006)، ووصلت قيمة صادراتها إلى 147.1 بليون (ألف مليون) دولار (تقديرات 2005) وتصل نسبة الصادرات المصنعة 79 % من إجمالي الصادرات، بينما الصادرات المصنعة عالية التقنية والتكنولوجيا تمثل 58 % من إجمالي الصادرات المصنعة الماليزية، بما يوضح التقدم الملموس في الصناعات التي تحتوي على تقنية عالية، مثل الكومبيوتر ووسائل الاتصال.
وإذا نظرنا -مثلاً- إلى دولة متقدمة مثل ألمانيا، نجد أن صادراتها الصناعية تمثل 84 % من إجمالي صادراتها، بينما تمثل الصادرات عالية التقنية 17% من إجمالي الصادرات المصنعة.. بينما في مصر تمثل الصادرات المصنعة عالية التقنية نسبة 1 % فقط من إجمالي الصادرات الصناعية.
وتبلغ نسبة البطالة في ماليزيا 3.6 % (تقديرات 2005)، بينما هي في فرنسا -مثلاً- 4.3 % وفي ألمانيا 5 % مما يوضح لنا مقدار الندية مع الدول الصناعية الكبرى.
أمّا عن قضية العلم ومكافحة الأمية، فقد جاء في نفس المصدر السابق أن 88.7 % من عدد السكان فوق سن الخامسة عشر عامًا يستطيع القراءة والكتابة، وقد وضح التقرير أن هذه النسبة كانت 80% في عام 1990م، مما يوضح استمرار وتواصل الجهود للقضاء على هذه الظاهرة تمامًا.
ولعل من اللافت للنظر أن الإناث ما بين سن 15-24 عامًا تصل نسبة معرفتهن للقراءة والكتابة إلى 97.3 % ولا يخفي أن هذا هو سن الزواج وتكوين الأسرة، وبالتأكيد ستكون الأم المتعلمة أحرص على تعليم أبنائها.
أما نسبة ما تنفقه ماليزيا على التعليم، فإنه يعادل 28% من إجمالي نفقاتها الحكومية، كما جاء أيضًا في تقرير التنمية لعام 2006، في حين أن ما تنفقه إسرائيل على التعليم 13.7% من إجمالي نفقاتها الحكومية.
كما أنَّه من كل ألف شخص في ماليزيا يوجد 397 من مستخدمي الإنترنت.. كما يوجد 299 باحث لكل مليون نسمة[2].
ولا نريد أن نستفيض في هذه النقطة -رغم أهميتها- أكثر من ذلك، بل نجد أنه من المهم جدًا أن نجيب على سؤال مُلِحٍّ، وهو:
كيف استطاعت دولة مثل ماليزيا أن تحقق هذا التقدم..؟! وماهو دور العلم في هذا النجاح المذهل؟
وسؤالنا هذا ليس القصد منه التقليل من شأن ماليزيا، بقدر ما هو مبعث إعجاب ودهشة، وشعور بالامتنان والفخر نوعا ما، وخاصة وأنها دولة ذات إمكانيات محدودة.. فلا تملك -مثلاً- احتياطياتٍ نفطيةً هائلة، مثل السعودية والعراق، ولا تمتلك طاقات بشرية ضخمة، مثل إندونيسيا، وكذلك فهي لا تمتلك 30 مليون فدان صالحة للزراعة مثل السودان الشقيق، وفضلاً عن ذلك، فمساحتها ليست شاسعة مثل دولة الجزائر التي تقترب من 2.5 مليون كم2[3]!! بل وعلى العكس من ذلك!!
فقد اجتمعت في دولة ماليزيا عدة عوامل، يكفي أي عامل منهم ليكون حجة للتكاسل والقعود عن العمل، فضلا عن التنافس مع الدول المتقدمة ومضارعتها.
لقد طرق الاستعمار أبواب ماليزيا منذ القرن السادس عشر، بدءًا بالاستعمار البرتغالي، ثم الهولندي، وأخيرًا الاستعمار البريطاني، الذي بدأ في منتصف القرن السابع عشر، وبالتحديد في عام 1665م، واستمر الاحتلال البريطاني جاثما على ماليزيا، يستنزفها بدون انقطاع، ولمدة تقترب من ثلاثة قرون.. فعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية وقعت ماليزيا تحت الاحتلال الياباني خلال عام 1941م وحتى استسلمت اليابان في شهر سبتمبر 1945م، ثم عادت بعدها الإدارة البريطانية لحكم ماليزيا مرة أخرى، حتى حصلت على كامل استقلالها في عام 1957م، وأُعلن قيام دولة ماليزيا في 16 مارس 1963م[4].
وبالإضافة إلى ما عانته من مرارة الاستعمار، فقد واجهت ماليزيا مشكلة خطيرة، وهي التنوع، بل والاختلاف بين عناصر تركيبتها العرقية والدينية.
فنجد أن التركيبة العرقية مقسمة ما بين 58 % من عدد السكان لهم أصول تعود إلى منطقة الملايو، و27 % تعود أصولهم إلى الصين، و8 % أصول هندية، 7 % لهم أصول مختلفة أخرى.
ولهذه التركيبة العرقية أثر واضح في التركيبة الدينية لماليزيا، حيث نجد أن المسلمين يمثلون 60 % من عدد السكان، ومعظمهم من الملاويين السكان الأصليين، ويأتي بعدهم البوذيون بنسبة 19 % ومعظمهم من الصينيين، ثم النصارى بنسبة 9 %، والهندوس 6 %، والباقي ديانات أخرى، مثل الكونفوشسية والسيخية[5].
أي خليط هذا..؟!
وبجانب هذه المصاعب فقد خرجت ماليزيا إلى العالم بعد حصولها على الاستقلال وهي تعاني من جروح غائرة في جسدها الوليد، المتمثل في دولة صغيرة تتكون من اتحاد 13 ولاية، وكان أكبر جراح الدولة الوليدة هو جرح الفقر الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان قرابة نصف الشعب الماليزي يعاني الفقر المدقع، ولم تكن هناك صناعات تكاد تذكر أو تشتهر بها ماليزيا في ذلك الوقت، بل كان أبرز أنشطتها يتركز على تصدير المطاط، ويليه في التصدير معدن القصدير، مع القليل من المواد النفطية، وكان يحترف بعض سكان ماليزيا مهنة الصيد، ويعمل بعضهم بالزراعة، مع تدني رهيب في مستوى التعليم..!!
وتلك شيمة البلاد التي تعرضت للاحتلال، والذي كان -ولا زال- من طبيعة عمله أن يحرص ليل نهار على نشر الجهل والتخلف؛ حتى يضمن استقراره، وسهولة قيادة فريسته.. وذلك هو المشهد -إن لم يكن هناك ما هو أسوأ منه- حين حصول دولة ماليزيا على الاستقلال..!!
ومن فور الحصول على الاستقلال أعطت الدولة اهتمامها الأول بقضية التعليم كهدف لا غنى عنه لتحقيق النهضة، وذلك لأنها تدرك أن التعليم هو الذي يكفل تنمية وصقل الموارد البشرية للدولة، ولذا حرصت الإدارة الماليزية منذ استقلال البلاد في 1957م على تقديم خدمات التعليم الأساسي -لمدة إحدى عشرة سنة- مجانًا, كما أولت الحكومة عناية كبيرة بتأسيس معاهد خاصة لتدريب المعلمين وتأهيلهم على المستوى القومي.
ولقد ركزت الحكومة في مطلع الستينات على هدف واضح، وهو إحلال الوردات، بمعنى التصنيع المحلي للسلع التي يتم استيرادها من الخارج، وبالفعل تكونت نواة صناعية، عبارة عن صناعات صغيرة كصناعة الأغذية، ثم تطور الأمر لصناعة مواد البناء والطباعة والبلاستيك والكيميائيات، وساندت الدولة هذه الخطوة الناجحة بإصدار قانون تشجيع الاستثمار في سنة 1968م؛ لجذب الاستثمارات الأجنبية بهدف زيادة القاعدة الصناعية، وبالفعل حدث توسع في إنتاج زيت النخيل والخشب والمطاط والكاكاو، كما شهد القطاع النفطي تطورًا كبيرًا؛ مما وضع ماليزيا على خارطة الدول المصدرة للبترول والغاز.
وفي مطلع السبعينات شجعت الحكومة دخول الاستثمارات الأجنبية في مجال الإلكترونيات وصناعة النسيج، وذلك بتوفير العمالة الماليزية وتقديم حوافز ضريبية مغرية، وإصدار تراخيص منتجات أجنبية، وإنشاء مناطق تجارة حرة، كما بدأت الحكومة تستضيف الشركات الكبرى متعددة الجنسيات لتشغيل خطوط إنتاجية في ماليزيا، فشهدت هذه المرحلة الانتقال من سياسة إحلال الواردات إلى سياسة التصنيع الموجه إلى التصدير.
ومن ثم أصبحت الأرض الماليزية ممهدة وجاهزة للانطلاق واللحاق بركب الدول المتقدمة، لا ينقصها إلا قائد ماهر طموح يقودها ويحسن إدارتها وتوجيهها.. وكان هذا الرجل هو مهاتير محمد، صانع المعجزة الماليزية، فكيف فعلها؟!
بدأ ظهور الدكتور مهاتير محمد في الحياة السياسية في عام 1970م، وذلك عندما ألف كتابا بعنوان "معضلة الملايو"، انتقد فيه بشدة شعب الملايو واتهمه بالكسل، والرضا بأن تظل بلاده دولة زراعية متخلفة دون محاولة تطويرها، وكان في ذلك الوقت عضوًا في الحزب الحاكم والذي يحمل اسم منظمة الملايو القومية المتحدة، وقرر الحزب منع الكتاب من التداول نظرا للآراء العنيفة التي تضمنها، وأصبح مهاتير محمد في نظر قادة الحزب مجرد شاب متمرد لابد أن تحظر مؤلفاته!!
غير أن مهاتير سرعان ما أقنع قادة الحزب بقدراته، مما يدل على حنكته السياسية؛ فهو لم يغضب ويترك الحزب، وبالفعل صعد نجمه في الحياة السياسية بسرعة، حتى تولى رئاسة وزراء بلاده في عام1981م، وأتيحت له الفرصة كاملة ليحوِّل أفكاره إلى واقع عملي[6].
لم يكن مهاتير محمد مجرد رجل سياسة، بل كان أيضا مفكر له كتبه ومؤلفاته، وكان صاحب رؤية لما ينبغي أن تكون عليه بلاده، ولقد استفاد مهاتير من كل ما حققته ماليزيا منذ الاستقلال من نجاحات واستثمرها وجعلها قاعدة لانطلاقته، ولم يرد الدكتور مهاتير أن يكون انطلاقه عشوائيًا، بل بدأ يبحث في تجارب الدول الأخرى وخاصة الآسيوية، حيث سُميت سياسته بالاتجاه شرقًا، واستقر اختياره على المعجزة اليابانية فجعلها أمامه قدوة ومثلاً أعلى.. وقد كان توجه مهاتير محمد ناحية اليابان مستلهمًا من تجربة نجاحها ملحوظ بشكل كبير، وقد صرح بذلك في العديد من المناسبات[7].
اختارت ماليزيا اليابان التي تحتل مكانة عالمية وإقليمية على كافة المستويات وخاصة التصنيعية، حيث تجاوز حجم إجمالي الناتج المحلي الياباني عدة مرات إجمالي الناتج المحلي لدول شرق أسيا مجتمعة، بما فيها الصين خلال فترة الثمانينات، وكانت اليابان من الأسباب الجوهرية التي ساهمت في يقظة وتوعية الشعب الآسيوي مما أطلق عليه "وهم التفوق الأوربي".
وتعتقد ماليزيا أن الإستراتيجية التي انتهجتها اليابان في إنتاج سلع جيدة بأسعار زهيدة ساهمت بشكل كبير في تحقيق تفوقها على المنتجات الأوربية والأميركية ذات الأسعار المرتفعة، وبالتالي نجحت في السيطرة على أسواق آسيا وأفريقيا، بالإضافة إلى إتباع سياسة منهجية في التصنيع، وإيجاد قيادات تتمتع بمستوى علمي فائق، وتتميز بالتطور والإبداع، وعلى المستوى المعنوي نجد في اليابان الالتزام الأخلاقي والمهني بقيم العمل الآسيوية، مما يستتبعه التفاني والجدية في الأداء المهني[8].
لقد استلم مهاتير محمد السلطة بعد مرور أكثر من عقدين على الاستقلال، وفي هذه الفترة تم قطع خطوات هامة في طريق الإصلاح والبناء؛ مما وفر له قاعدة تصلح للارتكاز عليها، وباختياره لليابان كنموذج تنموي تكشَّف أمامه الطريق نحو المستقبل، وجاء دوره المفصلي في تاريخ ماليزيا، وهو كيفية إدارته للدولة، والقفز بها إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى.
ولعل أبرز ما يميز المرحلة المهاتيرية تلك الطفرة الاقتصادية اللافتة، حيث أصبحت فيها ماليزيا دولة صناعية متقدمة، يساهم قطاعي الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي عهده بلغت نسبة صادراتها من السلع المصنعة 85% من إجمالي صادراتها، وأنتجت 80% من السيارات التي تسير في طرقاتها، وأصبحت من أنجح البلدان في جنوب آسيا، بل وفي العالم الإسلامي بأكمله، فكيف فعل هذا[9]؟!
إذا نظرنا لهذه المرحلة نظرة تحليلية متعمقة نجد أن الدكتور مهاتير محمد انطلق في عدة محاور وفي وقت واحد، ولكنه قام بالتركيز على ثلاثة محاور بصفة خاصة، وهي:
محور التعليم، ويوازيه محور التصنيع، ويأتي في خدمتهما المحور الاجتماعي.
وكان اهتمامه بالتعليم منذ مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية؛ فجعل هذه المرحلة جزءًا من النظام الاتحادي للتعليم، واشترط أن تكون جميع دور الرياض وما قبل المدرسة مسجلة لدى وزارة التربية، وتلتزم بمنهج تعليمي مقرر من الوزارة.
كما تم إضافة مواد تُنمي المعاني الوطنية، وتغرس روح الانتماء للتعليم الابتدائي.. أي في السنة السادسة من عمر الطفل.
ومن بداية المرحلة الثانوية تصبح العملية التعليمية شاملة، فبجانب العلوم والآداب تدرَّس مواد خاصة بالمجالات المهنية والفنية، والتي تتيح للطلاب فرصة تنمية وصقل مهاراتهم.
وإلى جانب ذلك كان إنشاء الكثير من معاهد التدريب المهني، التي تستوعب طلاب المدارس الثانوية وتؤهلهم لدخول سوق العمل في مجال الهندسة الميكانيكية والكهربائية وتقنية البلاستيك، وكان من أشهر هذه المعاهد معهد التدريب الصناعي الماليزي، والذي ترعاه وزارة الموارد البشرية، وقد أصبح له تسعة فروع في مختلف الولايات الماليزية.
وقد واكب هذا الاهتمام بالتعليم دخول ماليزيا مرحلة التصنيع الثقيل، كما في صناعات الأسمنت والحديد والصلب، بل وتصنيع السيارة الماليزية الوطنية (بريتون)، ثم التوسع في صناعة النسيج وصناعة الإلكترونيات، والتي صارت تساهم بثلثي القيمة المضافة للقطاع الصناعي، وتستوعب 40% من العمالة.
وكانت التسعينيات من القرن الماضي مرحلة نضج الثمرة، حيث وُضعت ماليزيا في قائمة الدول المتقدمة.
ففي مجال التعليم[10]، وتوافقًا مع ثورة عصر التقنية، قامت الحكومة الماليزية في عام 1996م بوضع خطة تقنية شاملة، من أهم أهدافها إدخال الحاسب الآلي والارتباط بشبكة الإنترنت في كل مدرسة.. بل في كل فصل دراسي!!
وبالفعل بلغت نسبة المدارس المربوطة بشبكة الإنترنت في ديسمبر 1999م أكثر من 90%، وبلغت هذه النسبة في الفصول الدراسية 45%، كما أنشأت الحكومة الماليزية العديد مما يعرف بالمدارس الذكية التي تتوفر فيها مواد دراسية تساعد الطلاب على تطوير مهاراتهم واستيعاب التقنية الجديدة، وذلك من خلال مواد متخصصة عن أنظمة التصنيع المتطورة وشبكات الاتصال، ونظم استخدام الطاقة التي لا تحدث تلوثًا بالبيئة.
كما تُنَفّذ عملية التدريس والتعليم في هذه المدارس وفقًا لحاجات الطلاب وقدراتهم ومستوياتهم الدراسية المختلفة، ويتم اختيار مدير المدرسة من القيادات التربوية البارزة، ويساعده فريق من الأساتذة ممن لديهم قدرات مهنية ممتازة، كما تتيح مشاركة الطلاب في اختيار البرامج الدراسية، بجانب حرص هذه المدارس على التنويع والتطوير في أساليب التدريس، مثل الرحلات العلمية والأيام الترفيهية.
لقد حددت الدولة أولوياتها بدقة، فإذا نظرنا إلى إجمالي ما أنفقته الحكومة الماليزية على التعليم في عام 1996م على سبيل المثال نجده 2.9 مليار دولار، بنسبة 21.7% من إجمالي حجم الإنفاق الحكومي، وازداد هذا المبلغ إلى 3.7 مليار دولار عام 2000م بما يعادل نسبة 23.8% من إجمالي النفقات الحكومية.
وكان إنفاق هذه المبالغ على بناء مدارس جديدة، وخاصة المدرس الفنية، وإنشاء معامل للعلوم والكمبيوتر، ومنح قروض لمواصلة التعليم العالى داخل وخارج البلاد.. وبالإضافة إلى الدعم والتسهيلات الكبيرة التي تقدمها الدولة، فإن إلزامية التعليم أصبحت من الأمور التي لا جدال فيها، وأصبح القانون الماليزي يعاقب الآباء الذين لا يرسلون أبناءهم إلى المدارس!!
كل ذلك بجانب الحرص على الانفتاح، والاستفادة من النظم التعليمية المتطورة في الدول المتقدمة.. وفي هذا السياق تم إنشاء أكثر من 400 معهد وكلية جامعية خاصة، تقدم دراسات وبرامج توأمة مع جامعات في الخارج، كما أتاحت الفرصة للطلاب الماليزيين لمواصلة دراستهم في الجامعات الأجنبية[11].
إلا أن ما يستحق التسجيل ويدعو إلى الإعجاب، تلك الفكرة الجديدة التي قامت بها الحكومة الماليزية، عندما عملت على تقوية العلاقة بين مراكز البحوث والجامعات وبين القطاع الخاص.. بمعنى فتح المجال لاستخدام أنشطة البحث الجامعية لأغراض تجارية!!
وقد كان لتلك الفكرة أعظم الأثر على الجميع؛ فلم تعد الحكومة الآن مطالبة بدعم كل الأنشطة البحثية بمفردها، بل شاركتها في ذلك المصانع والمؤسسات المالية والاقتصادية، كل حسب حاجته.. وفي ذات الوقت لا تكاد تجد مركز أبحاث يشكو من قلة الدعم الحكومي.. وهذا بالإضافة إلى أن الدولة استطاعت أن توجه ما كان يمكن أن يصرف على هذه الأنشطة إلى مصارف أخرى مهمة.
ومن جرَّاء ذلك امتلكت المصانع الماليزية القدرة على التطوير، بل والابتكار والمنافسة، وإثبات وجودها في الأسواق المحلية والعالمية.
ولم تنس الحكومة المرأة الماليزية، والتي حصلت على نصيبها من التعليم كالرجل تمامًا، بل تقدم الحكومة قروضًا بدون فوائد لتمكين الآباء من إرسال بناتهم إلى المدارس وتوفير مستلزمات المدرسة، وتعطى الفقراء مساعدات مجانية لهذا الغرض.
وبالتوازي مع الاهتمام بالتعليم، فقد دخلت ماليزيا في التسعينات مرحلة صناعية مهمة، وذلك حين شجعت الصناعات ذات التقنية العالية وأولتها عناية خاصة، وقد كان ذلك بعد أن توافر لديها جيل جديد من العمالة الماهرة المتعلمة، والمدربة بأحدث الوسائل، فأصبح في مقدورها إثبات وجودها، بل والمنافسة على الصدارة.
ومن أبلغ ما يبين نجاح الأداء الاقتصادي لماليزيا في الفترة المهاتيرية، ذلك التوسع الذي حدث في استثمارات القطاع الصناعي، حيث أنشئ أكثر من 15 ألف مشروع صناعي، بإجمالى رأس مال وصل إلى 220 مليار دولار، وقد شكلت المشروعات الأجنبية حوالي 54% من هذه المشاريع، بما يوضح مدى الاطمئنان الذي يحمله المستثمر الأجنبي لماليزيا من ناحية الأمان، وبالتأكيد ضمان الربحية العالية، بينما مثلت المشروعات المحلية 46% من هذه المشاريع.
وقد كان لهذه المشروعات عظيم الأثر والنفع على الشعب الماليزي؛ حيث وفرت مليوني وظيفة للمواطن الماليزي، إلى جانب الفائدة الكبرى المتمثلة في نقل التقنية الحديثة وتطوير مهارات العمالة الماليزية.
وقد بلغ عدد الشركات الأجنبية التي تستثمر أموالها في ماليزيا حوالي 5 آلاف شركة، تساعدهم الدولة الماليزية بتنفيذ سياسة الصداقة مع رجال الأعمال والمستثمرين، والتي يقصد بها تسهيل الإجراءات المكتبية والإدارية، وزيادة الحوافز الاستثمارية، إضافة إلى وضوح القوانين وسهولة الإجراءات[12].
كما تبنَّت ماليزيا العديد من مشروعات التقنية الحديثة بصورة ملفتة للنظر، كان آخرها إطلاق ثالث قمر صناعي لها في عام 2004 مخصصًا للقارة الأفريقية في مرحلته الأولى، ثم يمتد إلى القارة الأوربية والشرق الأوسط، ويحمل اسم "اس. ام. سات" وهي التجربة الأولى التي تنفذها دولة آسيوية.
أيضًا تحققت في فترة ولايته طفرة ملحوظة في مشروعات الاتصالات والمعلومات التي كانت تحظى باهتمام ودعم حكومته كعنصر هام من عناصر خطته التنموية، وكان يسميه "الاقتصاد المعرفي" وبالفعل أصبحت ماليزيا محطة إقليمية وعالمية في مجال صناعة الاتصالات والمعلومات والإنترنت.
كما أقامت ماليزيا مدينة ذكية خاصة بالتكنولوجيا خارج العاصمة كوالالمبور، حيث ترتبط هذه المدينة بشبكة اتصالات ذكية تخدم العاصمة المستقبلة لماليزيا، وتضم أضخم الشركات التكنولوجية في العالم وتسمى هذه المدينة «بوتراجايا»[13].
وبعد هذا السرد السريع والموجز لتجربة النهضة الماليزية، والتي يحق لأي مسلم أن يفخر بها، وبعد أن بينّا قدر المعوقات التي واجهتها وكيف تغلبت عليها، بالعلم والعمل، يتضح للجميع بما لا يدع مجالاً للشك أن العلم كان دائمًا هو العامل المشترك الذي أخذت به أي دولة استطاعت تحقيق النجاح.
[1] كتاب الحقائق الدولي لعام 2007م.
[2] تقرير التنمية البشرية لعام 2006م، الرابطhttp://hdr.undp.org/.../cty_ds_MYS....
[3] كتاب الحقائق الدولي الأميركي لعام 2007م.
[4] د. رأفت غنيمي الشيخ، تاريخ آسيا الحديث والمعاصر، مرجع سبق ذكره،161-167.
[5] كتاب الحقائق الأميركي.
[6] موقع بي بي سي، مهاتير محمد: من شاب متمرد إلى بطل قومي، الرابطhttp://news.bbc.co.u...000/3238603.stm
[7] ماجدة علي صالح: عظماء آسيا في القرن العشرين ص132،122 بتصرف.
[8] عبد الرحيم عبد الواحد: مهاتير محمد عاقل في زمن الجنون ص84-86.
[9] موقع بي بي سي، مهاتير محمد: من شاب متمرد إلى بطل قومي.
10] دراسة د. محمد شريف بشير، منشورة على موقع اسلام أون لاين، بعنوان استثمار في البشر في ماليزيا، الرابط:www.islamonline.net/arabic/economics/2002/05/article11.shtml
[11] دراسة د. محمد شريف بشير، موقع إسلام أون لاين.
[12] موقع إسلام أون لاين: ماليزيا... اليابان قدوتنا، الرابطwww.islamonline.net/arabic/economics/2003/07/article07b.shtml
[13] عبد الرحيم عبد الواحد: مهاتير محمد عاقل في زمن الجنون، ص470.