التقنية المشتركة بين الطوائف الفكرية

على أية حال.. يبدوا لي شخصياً أن "تجزئة الوحي" هو المنهج الفكري الذي قاد الطوائف الفكرية المعاصرة إلى مخالفتها لأهل السنة والجماعة في فهم الإسلام.. وقد امتحن الله وابتلى "أهل العلم" هل يسعون في مكافحة حركات "تجزئة الوحي".. أم يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه سبحانه للناس في الكتاب؟!

  • التصنيفات: الملل والنحل والفرق والمذاهب - مذاهب باطلة - مذاهب فكرية معاصرة -

كنت مرة أتأمل الطوائف الفكرية المعاصرة المخالفة لأهل السنة والجماعة، وأحاول أن أستكشف هل يمكن الوصول إلى تعيين "تقنية ذهنية مشتركة" تسببت في خلق الفارق بين كل هذه الطوائف الفكرية وبين أهل السنة؟

 

بمعنى محاولة لاستخلاص "كلي" إن وجد طبعاً يتيح لنا الفهم بشكل أفضل الفارق الجوهري في عملية تشكيل المعرفة بين الطوائف الفكرية وأهل السنة.. فحين نتصفح الجزئيات يمكن أن نصل غالباً إلى كليات دفينة فيها الكثير من الطرافة العلمية..

 

حسناً.. ما هي أولاً "النحل الفكرية" المخالفة لأهل السنة والجماعة في نمط فهم الإسلام؟ يمكن القول بشئ من التجوز طبعاً أن الطوائف الفكرية المخالفة لأهل السنة والجماعة اليوم هم أربع طوائف: (العلمانيون، الليبراليون، التنويريون، الاصلاحيون).

 

وقد لاحظت وربما غيري لاحظ غير ذلك أن هذه الطوائف الأربع يجمعها قاسم مشترك فكري واحد، أو آلية فكرية مشتركة؛ هي التي تسببت في مفارقتها لأهل السنة في نمط فهم الإسلام..

يمكن أن نسمي هذه الميكانيزم العقلي الذي تشتغل بواسطته كل هذه الطوائف الفكرية الأربع: "تجزئة الوحي".

 

لماذا أرى أن هذا الجهاز التفسيري (أعني: تجزئة الوحي) هو الذي سيساعدنا بشكل ناجع على فهم هذه الطوائف الفكرية الأربع؟ الحقيقة أنني أن وجدت هذا المنظار التأويلي (أعني: تجزئة الوحي) يزودني بإجابة منطقية وعقلانية تفسر لي أغلب قسمات تلك التيارات..

 

خذ فقط بعض الأمثلة..

فالطائفة الأولى "العلمانيون" (أعني طبعاً العلمانية المنتسبة للإسلام، وليس العلمانية اللادينية) تجدهم يحفلون كثيراً بنصوص "ابتناء العلوم المدنية على الاجتهاد البشري"، ولذلك أتحدى كائناً من كان أن يأتي بعلماني عربي لا يحفظ عن ظهر قلب حديث التأبير "أنتم أعلم بأمر دنياكم".. لكنهم ينفرون من نصوص تحكيم الشريعة في الأمور المنصوصة..

 

فتجده أخذ بعض الشريعة وترك بعضها، ونتيجة لكونه أخذ بعض الشريعة يصنع لنفسه راحة ضمير بأنه ولله الحمد منتسب للإسلام، وأنه ليست المشكلة في الإسلام وإنما في الإسلاميين الرجعيين!

 

والطائفة الثانية "الليبراليون" تجدهم يحفلون كثيراً بأي نصوص شرعية تتحدث عن الحريات العامة، ومشاركة المرأة في المجتمع.. لكنهم يتبرمون بأي نصوص قرآنية أو نبوية تأمر بالنهي عن المنكر، أو معاقبة المخالف للشريعة، أو أي نص قرآني في إقصاء المخالف..

 

وتجدهم حين يبثون تباريحهم بين بعضهم.. يقولون لأنفسهم نحن معجبون جداً بالإسلام، والإسلام دين حضاري، لكن المشكلة في الإسلامويين الإقصائيين!

 

والطائفة الثالثة "التنويريون" تجدهم يتغنون كثيراً بنصوص العمران المادي للدنيا واستفادة النبي مما عند الأمم الأخرى، ولا تجد تنويرياً إلا وهو يبدأ حديثه ويختمه بآية "واستعمركم فيها ".. لكنهم يتضايقون من نصوص تعظيم التوحيد (توحيد الشعائر وتوحيد التشريع) وأنه أعظم المطالب الإلهية، ونصوص "وسيلية العلوم المدنية" وأنها وسيلة لإظهار الهدى ودين الحق على الدين كله فتحمد بقدر ما أدت لغايتها، ونصوص التزهيد في الدنيا بالنسبة للآخرة..

فإذا تحدثوا عن الإسلام قالوا: الإسلام دين الحضارة، ولا مشكلة فيه، وإنما المشكلة في العقلية السلفية المتحجرة!

 

والطائفة الرابعة هم "الإصلاحيون" والحق يقال أنهم أشرف وأرفع الطوائف السابقة وأقربهم إلى الإسلام وهؤلاء الإصلاحيين يصاب أحدهم بلذة اصطلام صوفي حين تتلى عليه آيتي الشورى، وآيات مقاومة موسى لاستبداد فرعون، وإنكار شعيب على قومه مظالم الأموال، وكل الإصلاحيين ينقلبون محدّثين نيسابوريين يروون لك حديث "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأنكر عليه فقتله "..

 

لكنهم ينفرون نفوراً شديداً من النصوص المعظمة للعقيدة، والفروع الفقهية، ويرون فيها تشتيتاً للتركيز على القضايا الحيوية للمجتمع، وتتنغص سعادتهم كلياً إذا سمعوا آية: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59]، ويتهكمون ببجاحة مدهشة ضد أحاديث "البخاري ومسلم" في تحريم الخروج المسلح، ووجوب الطاعة بالمعروف.

 

فانظر.. كيف أن العلمانيين اختزلوا الإسلام في حرية الاجتهاد المدني، والليبراليين اختزلوا الإسلام في الحريات العامة، والتنويريين اختزلوا الإسلام في قضايا الحضارة والعلوم المدنية، والإصلاحيين اختزلوا الإسلام في الإنكار السياسي.

 

فهؤلاء كلهم تجد غالب ما يثبتونه ويريدونه أنه من الإسلام فعلاً، فالمشكلة ليست فيما يطلبون، وإنما المشكلة فيما ينفون من تشريعات الإسلام!

 

وأهل السنة والجماعة لهم منهج مغاير وهو "استيعاب الوحي" أي استيعاب خلاصة توازنات النصوص، فتجدهم أخذوا بقاعدة ابتناء العلوم المدنية على الاجتهاد البشري، لكن وازنوها بقاعدة تحكيم الشريعة في المنصوص.

 

وأخذوا بقاعدة الحريات العامة، لكنهم وازنوها بقاعدة الإنكار والاحتساب.

وأخذوا بقاعدة دور المرأة في الحياة العامة، لكنهم وازنوها بقاعدة التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين.

وأخذوا بقاعدة وجوب السعي لامتلاك الحضارة والمدنية، لكنهم وازنوها بقاعدة أولوية التوحيد والفرائض، وقاعدة التزهيد في الدنيا مقابل الآخرة.

وأخذوا بقاعدة الإنكار السياسي العلني، لكنهم وازنوها بقاعدة تحريم الخروج المسلح، ووجوب الطاعة بـ"المعروف".

 

كلما تأملت الفرق بين تقنية "تجزئة الوحي".. ومنهج "استيعاب الوحي" تكشف لي من جديد اختراق هذا الفارق لأدق تفاصيل الفروق بين الطوائف الفكرية وبين أهل السنة..

 

كم هو طريف.. حين تذكرت أن هذا التقنية (تجزئة الوحي) لا تقدم إجابة على سؤال "الطوائف الفكرية المعاصرة" فقط، بل حتى "الطوائف العقدية التراثية" ستجد أن هذا التقنية هي حجر الرحى في بنائها المعرفي:

 

فالمخالفون لأهل السنة في باب الصفات الإلهية مثلاً، تجد فيهم "المعطلة" (المعتزلة والأشاعرة والماتريدية) وتجد جوهر إشكالهم هو أنهم أخذوا بنصوص التنزيه وتركوا نصوص الإثبات، و"المجسمة" أخذوا بنصوص الإثبات وتركوا نصوص التنزيه.. لكن "أهل السنة" أخذوا بكلا المعطيين الشرعيين انعكاساً لمبدئهم في "استيعاب الوحي".

 

والمخالفون لأهل السنة في باب القدر، تجد فيهم "القدرية" (=النفاة) وهؤلاء أخذوا بنصوص الاختيار والإرادة البشرية وتركوا نصوص الإرادة الإلهية، وفيهم "الجبرية" وهؤلاء أخذوا بنصوص الإرادة الإلهية وتركوا نصوص الإرادة البشرية.. ولكن أهل السنة أخذوا بكلا المعطيين الشرعيين.

 

وهكذا بقية أبواب العقيدة والتصورات في ذات الله والغيبيات، وفي استخلاص كلي رائع للإمام ابن تيمية حدد فيه هذه المعالم.. ففي العقيدة الواسطية الشهيرة لما ذكر نصوص القرآن، ثم نصوص السنة، في إثبات الصفات؛ عقّب عليها بتلخيص مكثف رائع لموقف أهل السنة والجماعة في "خمسة أبواب عقدية" يعتمد هذا التخليص على مرتكز ضمني وهو الفرق بين "تجزئة الوحي" و "استيعاب الوحي".. يقول ابوالعباس ابن تيمية في الموضع المشار إليه: (بل أهل السنة هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم، فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة. وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم. وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم. وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية. وفي أصحاب رسول الله بين الرافضة والخوارج).

 

لو حاولت أن تفهم سر هذا التوسط في هذه الأبواب العقدية الخمسة، و ما الذي أملى على بقية الفرق مساراتها العقدية، لاكتشفت أنك تعود إلى قضية الفارق بين "تجزئة واستيعاب الوحي".

 

المهم.. نعود إلى طوائفنا الفكرية المعاصرة (العلمانيون والليبراليون والتنويريون والاصلاحيون).. ثمة ملاحظة لاحظتها فيهم جميعاً.. وهي ظاهرة "الإيمان المشروط".. فهم مؤمنون بالإسلام، ومؤمنون بالوحي، بل بعضهم سيندهش لو شككت في إيمانه! لكنهم كلهم تقريباً يؤمنون بالنص القرآني أو النبوي الذي ينسجم فقط مع منظومتهم الفكرية (الآيديولوجية).. ويتسلطون بالمكابرة التأويلية على كل نص يهدد هرم أولوياتهم الفكرية..

 

الواحد منهم إذا ناقشته وذكرت نصاً ينسجم مع ما يريد تراه متهللاً مستبشراً يستزيدك، فإذا ذكرت نصاً إلهياً لا ينسجم مع منظومته تغير ذلك التعامل، أي إزراء بالله سبحانه وتعالى أن يجعل المخلوق حكم خالقه رهن هواه ومنظومته الفكرية؟!

سبحان الله.. ألهذه الدرجة يضمر تعظيم الله في القلوب؟!

 

أليس هذا "الإيمان المشروط" يشبه حال ذلك الفريق الذي حكى الله سبحانه نمط تعاملهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ*وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [سورة النور: 4849].

 

أليس هذا "الإيمان المشروط" يشبه أيضاً حال تلك الطائفة التي حكى الله مقالتها: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41].

 

ما فرق هذه الحال عن تلك الحال؟! 

تجزئة الوحي.. ليست ظاهرة جديدة بتاتاً.. وإنما هي ظاهرة كشف الوحي لنا عنها مبكراً، حين قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلا} [النساء:150].

 

على أية حال.. يبدوا لي شخصياً أن "تجزئة الوحي" هو المنهج الفكري الذي قاد الطوائف الفكرية المعاصرة إلى مخالفتها لأهل السنة والجماعة في فهم الإسلام.. وقد امتحن الله وابتلى "أهل العلم" هل يسعون في مكافحة حركات "تجزئة الوحي".. أم يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه سبحانه للناس في الكتاب؟!

 والله أعلم

تاليف: أبو عمر.