دلائل النبوة قبل البعثة
فقد أرسل الله محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، فأنار الله بدعوته ظلمات الشرك والخرافة، وجعل الله -تعالى- لنبوته علامات ودلائل، يعرفها الذكي العاقل، ويجحدها الغبي الجاهل، فسبحان من أيقظ الناس من رقاد الغفلة بحبيبه وخليله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونور بصائرهم بدعوته ومنهجه، فله الحمد كثيراً كما ينعم كثيراً، وله الشكر جزيلاً كما ينعم جليلاً.
- التصنيفات: السيرة النبوية - التاريخ الإسلامي -
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً.. أما بعد:
فقد أرسل الله محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، فأنار الله بدعوته ظلمات الشرك والخرافة، وجعل الله -تعالى- لنبوته علامات ودلائل، يعرفها الذكي العاقل، ويجحدها الغبي الجاهل، فسبحان من أيقظ الناس من رقاد الغفلة بحبيبه وخليله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونور بصائرهم بدعوته ومنهجه، فله الحمد كثيراً كما ينعم كثيراً، وله الشكر جزيلاً كما ينعم جليلاً..
وسوف نذكر في موضوعنا هذا دلائل النبوة قبل البعثة والتي ألمحت وأشارت إلى نبوة محمد وصلاحه لقيادة العالم، تلك الدلائل والبينات التي خرقت عادات البشر، ولم تصلح إلا لمحمد، وكتب السيرة تذكر كثيراً من ذلك، منها الصحيح ومنها الضعيف المبالغ فيه، ولسوف نذكر ما صح من ذلك أو ما استفاض ذكره من غير نكير، حتى تثق به النفوس. وبالله التوفيق.
من دلائل النبوة قبل البعثة:
أولاً: خروج نور عند ولادته صلى الله عليه وسلم:
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني عبد الله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين» وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نوراً أضاءت له قصور الشام(1).
وقد وردت روايات تفيد بأن قصر كسرى ارتجف عند مولد الرسول، وسقطت منه أربع عشرة شرفاً، وخمدت نار فارس، وغاضت بحيرة ساوة.. ولكن لم يصح من ذلك شيء، والله أعلم.
ثانياً: البركة العامة في بيت مرضعته: حليمة السعدية ومالها:
كان من عادة قريش أن يطلبوا لأبنائهم مرضعات من البادية لتقوى أجسادهم وتتربى على حياة البادية، وكانوا يبعدونهم عن مكة لكونها -في ذلك الزمان- تمثل المدنية المترفة التي تُخرِّج أبناءً مترفين غير قادرين على تحمل المشاق والحروب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن عاش في البادية وأرضعته حليمة السعدية، وكان قد حدث لها ولزوجها من النعم الكثيرة أثناء مكث محمد بن عبد الله معهما، ولسوف نذكر القصة كاملة كما روتها حليمة السعدية نفسها..
قال ابن إسحاق: كانت حليمة تُحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرُّضعاء. قالت: وذلك في سنة شهباء- أي عديمة المطر- لم تبق لنا شيئًا، قالت: فخرجت على أتان- أي حمارة- لي قمراء، ومعنا شارف -هي الناقة المسنة- لنا، والله ما تَبِضّ ُبقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك، فلقد أذَمَّتْ بالركب حتى شق ذلك عليهم، ضعفًا وعجفًا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها: إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله، إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه وأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة، قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبت أنا أتاني، وحملته عليها معي، فو الله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك! أرْبِعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها شأنًا، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح عليَّ حين قدمنا به معنا شباعًا لُبَّنـًا -أي كثيرة اللبن-، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعًا لبنًا. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جفرًا. قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا(2).
ثالثاً: شق صدره عليه الصلاة والسلام:
لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرضعته حليمة السعدية أراد الله عز وجل أن يطهر قلبه من حظ الشيطان، روى مسلم عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه -أي جمعه وضم بعضه إلى بعض- ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره، وهي مرضعته- فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو مُنْتَقِعُ اللون -أي متغير اللون- قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره!)(3).
وقد حصل له ذلك مرة ثانية وهو ابن عشر سنين، روى الإمام أحمد وابن عساكر عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن أبا هريرة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما أول ما رأيت في أمر النبوة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لفي الصحراء ابن عشر سنين وأشهر وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ قال: نعم، فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأحدهما هامساً، فقال أحدهما للآخر: أضجعه، فأضجعاني بلا قسر ولا هصر، وقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أدخل يشبه الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى، فقال: اغدُ واسْلَم. فرجعت بها أغدو رِقَّة على الصغير، ورحمة على الكبير»(4).
وتكررت هذه الحاثة بعد بعثته، وعمره صلى الله عليه وسلم فوق الخمسين، كما روى ذلك مسلم وأحمد وغيرهما.
رابعاً: عبد المطلب يستسقي برسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن جَلْهُمَة بن عُرْفُطَة قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهَلُمَّ فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام، كأنه شمس دُجُنَّة، تجلت عنه سحابة قَتْمَاء، حوله أُغَيْلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأضبعه الغلام، وما في السماء قَزَعَة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغْدَوْدَق، وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي، وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال:
وأبيضَ يُستسقى الغَمَام بوجهه *** ثِمالُ اليتامى عِصْمَةٌ للأرامـل
وفي ذلك تقول رقيقة بنت صيفي وهي لدة عبد المطلب:
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا *** وقد فقدنا الحيا واجلوَّذ المطر
فجاد بالماء جَونيٌّ له سبل *** دان فعاشت به الأمصار والشجر
سيل من الله بالميمون طائره *** وخير من بُشرت يوماً به مضر
مبارك الأمر يستسقى الغمام به *** ما في الأنام له عِدل ولا خطر(5)
شرح بعض كلمات الأبيات: (شيبة الحمد) لقب عبد المطلب، (اجلوَّذ) ذهب وانقطع، (جوني) السحاب.
خامساً: بحيرى الراهب واستدلاله على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتى عشرة سنة ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام، حتى وصل إلى بُصْرَى، وهي معدودة من الشام، وقَصَبَة لحُورَان، وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان. وكان في هذا البلد راهب عرف بَبحِيرَى، واسمه –فيما يقال-: جرجيس، فلما نزل الركب خرج إليهم، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك، فجعل يتخلّلهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أبو طالب وأشياخ قريش: وما علمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، ثم أكرمهم بالضيافة، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام؛ خوفًا عليه من الروم واليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة(6).
فهذه بعض الدلائل التي سبقت مبعثه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر أهل السير أموراً أخرى ضعف أكثرها المحدثون، وتساهل في روايتها آخرون، جرياً على التوسع في رواية أخبار السيرة لعدم تعلقها بالأحكام والشرائع، ولكن في ما ذكر كفاية وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. وقد كانت هناك دلائل وأمارات أخرى تمهد لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثل: خلقه العظيم، وصدقه وأمانته التي انفرد بها عن شباب زمانه، وتركه شرك الجاهلية وفحشها وفسقها، فلم يركع ولم يخضع إلا لله تعالى قبل البعثة وبعدها، وكذا انعزاله قومه وترك آلهتهم والتعبد في غار حراء حيث الخلوة والأنس بالرب الكريم، قبل أن يوحى إليه –بأبي هو وأمي وصلى الله عليه وملائكته والمؤمنون إلى يوم الدين-.
نسأل الله أن يُلحقنا برسوله الكريم في جنات النعيم، ونعوذ بالله من الخذلان والتغيير والتبديل، اللهم ارحمنا واعف عنا وثبتنا حتى نلقاك، اللهم إنا نبرأ إليك من حولنا وقوتنا ومن الشيطان ومن النفس الأمارة بالسوء، اللهم أنقذنا من ظلمات الفتن العاصفة بنا، وأدخلنا الجنة دارك دار السلام، اللهم إنا نعوذ بك من الهلاك والنار، يا رحيم، يا كريم، يا غفور، يا لطيف.. أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين..
وصلى الله على محمد رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.. والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه أحمد (17150)، والطبراني في الكبير (18/ 252)، والحاكم (3566) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد والطبراني والبزار وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبان. مجمع الزوائد (8/163). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1545) واستثنى من التصحيح آخر عبارة (وكذلك أمهات..). ومن المحدثين من ضعف القصة.. لكنك ترى المحدثين أمثال الحاكم والذهبي والهيثمي والألباني يصححون ذلك. والله أعلم.
(2) هذه القصة أخرجها أصحاب كتب السير، وهي مشهورة، وقد ثبت أجزاء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم كشق الصدر واسترضاعه في بني سعد وغير ذلك.. وقد أورد تلك القصة البيهقي في دلائل النبوة (1/133-135). وقال البيهقي: وقد روى محمد بن زكريا الغلابي بإسناده عن ابن عباس عن حليمة هذه القصة بزيادات كثيرة وهي لي مسموعة، إلا أن محمد بن زكريا هذا متهم بالوضع، فالاقتصار على ما هو معروف عند أهل المغازي أولى، والله أعلم.
(3) رواه مسلم (162).
(4) المسند (21261) و تاريخ دمشق (3/ 463).
(5) القصة ذكرها البيهقي في دلائل النبوة مطولة (2/17)، والذهبي في السير (26/54).
(6) رواه الترمذي (3620)، والحاكم (4229) وصححه الألباني.