هذا مجزأة بن ثور

فما أطيب الكلام، وما أجمل المقال، وما ألذ الحديث؛ عن صحب النبي المختار، الخيرة الأبرار، قُوَامُ الليل، وصوامُ النهار، لاسيما الأبطال الفاتحين، والأفذاذ المجاهدين، وعباقرة الدنيا والدين، الذين ضحوا بدمائهم وأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ومن أجل الله، ولإعلاء كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ولعلنا أن نستقي دروساً عدة من سيرة الصحابي الجليل مجزأة بن ثور بن كعب بن سدوس السدوسي.

  • التصنيفات: التاريخ والقصص - التاريخ الإسلامي - سير الصحابة -

الحمد لله رب العالمين، ولاعدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أما بعد:

 

فما أطيب الكلام، وما أجمل المقال، وما ألذ الحديث؛ عن صحب النبي المختار، الخيرة الأبرار، قُوَامُ الليل، وصوامُ النهار، لاسيما الأبطال الفاتحين، والأفذاذ المجاهدين، وعباقرة الدنيا والدين، الذين ضحوا بدمائهم وأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ومن أجل الله، ولإعلاء كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ولعلنا أن نستقي دروساً عدة من سيرة الصحابي الجليل مجزأة بن ثور بن كعب بن سدوس السدوسي.

 

بداية القصة:

أصدر الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمره إلى جيش المسلمين بقيادة أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - بالتوجه إلى الأهواز لتتبع الهرمزان، والقضاء عليه، وتحرير مدينة "تُسْتر" الفارسية، وقد جاء في الأمر الذي وجهه الخليفة لأبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن يصحب معه الفارس الباسل مجزأة بن ثور السدوسي.

 

صدع أبو موسى - رضي الله عنه - بالأمر، فجهز جيشه، وانطلق إلى مدينة تستر التي انحاز إليها الهرمزان، حيث كانت هذه المدينة أكثر مدن فارس جمالاً، وأبهاها طبيعة، وأقواها تحصُّناً، وعسكرت جيوش المسلمين حول خندق تستر، وظلت ثمانية عشر شهراً لا تستطيع اجتيازه، وخاضت مع جيوش الفرس خلال تلك المدة ثمانين معركة.

 

وأظهر مجزأة بن ثور - رضي الله عنه - في هذه الحروب شجاعة نادرة أذهلت العقول، فقد تمكَّن من قتل مائة فارس مبارزة، فأصبح اسمه يثير الرعب في نفوس الفرس، ويبعث النخوة والعزة في صدور المسلمين، ثم انتقل المسلمون بعد هذا الصبر الطويل من حال سيئة إلى أخرى أشد سوءاً؛ فقد أخذ الفرس يمطرونهم من أعالي الأبراج بسهامهم الصائبة، وجعلوا يدلُّون من فوق الأسوار سلاسل من الحديد في نهاية كل سلسلة كلاليب متوهجة من شدة ما حميت بالنار، فإذا أراد أحد جنود المسلمين تسلق السور أو الاقتراب منه أنشبوها فيه فيحترق جسده، ويتساقط لحمه، وبينما كان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - يتأمل سور تستر العظيم يائساً من اقتحامه سقط أمامه سهم قُذف نحوه من فوق السور، فنظر فيه فإذا فيه رسالة تقول: "لقد وثقت بكم معشر المسلمين، وإني أستأمنكم على نفسي ومالي، ولكم عليَّ أن أدلَّكم على منفذ تنفذون منه إلى المدينة".

 

فكتب أبو موسى أماناً لصاحب السهم وقذفه إليه، فلما قرأ كتاب أبي موسى تسلل إلى المسلمين في الليل، وقال لأبي موسى - رضي الله عنه -: "لقد آثرتُ عدلكم على ظلم الهرمزان فقد عدا علينا وقتل ونهب، وعزمت أن أساعدكم في الوصول إلى داخل المدينة، فأعطني إنساناً قوياً عاقلاً يتقن السباحة حتى أرشده إلى الطريق"، فقال مجزأة: "اجعلني ذلك الرجل أيها الأمير"، فقبل أبو موسى - رضي الله عنه -.

 

الأسد في المعركة:

ومضى مجزأة بن ثور - رضي الله عنه - تحت جنح الظلام مع ذلك الرجل الفارسي فأدخله في نفق تحت الأرض يصل بين النهر والمدينة، وعاد مجزأة بن ثور - رضي الله عنه - بعد أن تعرف على الطريق، وكان أبو موسى - رضي الله عنه - قد أعدَّ ثلاثمائة فارس من أشجع جنود المسلمين، وأقدرهم على السباحة، وجعل التكبير علامة على دعوة جند المسلمين لاقتحام المدينة، ومضى بهم تحت جنح الظلام.

 

ظل مجزأة بن ثور وجنده البواسل وقتاً طويلاً يصارعون عقبات الطريق، ولما بلغوا المنفذ المؤدي إلى المدينة وجد مجزأة أن الطريق لم يُبق له من أصحابه سوى ثمانين رجلاً، وما إن وصلوا أرض المدينة حتى جردوا سيوفهم، وانقضوا على حماة الحصن فأغمدوها في صدورهم، ثم فتحوا الأبواب وهم يكبرون، وتدفق المسلمون على المدينة عند الفجر، ودارت بينهم وبين أعداء الله معركة حامية الوطيس قلما شهد تاريخ الحروب مثلها.

 

وفيما كانت المعركة قائمة أبصر مجزأة بن ثور - رضي الله عنه - الهرمزان في ساحتها فقصده؛ وتبارز مجزأة والهرمزان بسيفيهما، فضرب كل منهما صاحبه ضربة قاضية، فارتد سيف مجزأة وأصاب سيف الهرمزان، فخرَّ البطل الباسل صريعاً على أرض المعركة، وعينه قريرة بما حقق الله على يديه، وواصل جند المسلمين القتال حتى كتب الله لهم النصر، ووقع الهرمزان أسيراً، وانطلق المسلمون إلى المدينة يحملون بشائر النصر للفاروق عمر، ويعزونه باستشهاد الصحابي الفارس مجزأة بن ثور السدوسي - رضي الله عنه - في عام 20هـ.

 

وارتفعت روح مجزأة بن ثور إلى الفردوس الأعلى - بإذن الله - لتسكن في قناديل جوف طير خضر معلقةً تحت عرش الرحمن؛ تسرح من الجنة حيث شاءت، وتأوي حيث شاءت، وكتبت له الشهادة - بإذن الله تعالى -، وتحقق له ما تمنى، وبلغ ما أراد، فرحمه الله ورضي عنه، وأسكنه فسيح جناته، وألحقنا به شهداء في سبيله، والحمد لله أولاً وآخراً.