هل تنجح تركيا في تجربة النظام الرئاسي؟

أظهرت خارطة النتائج أن المدن الكبرى صوتت ضد توسيع صلاحيات الرئيس ففي مدينة اسطنبول التي تعتبر إحدى أكبر معاقل أنصار أوردغان رفضت الأغلبية التعديلات الدستورية حيث صوتت 51.3 في المئة من سكانها ضد التعديلات فيما أيدها 48.7 منهم، وهي نفس النسبة تقريبا في مدينة أنقرة العاصمة السياسية لتركيا إذ عارضها 51.1 في المئة، بينما وافق عليها 48.9 في المئة.

  • التصنيفات: السياسة الشرعية - قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -

حسمت صناديق الاقتراع في استفتاء 16 إبريل 2017  انتقال تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، بغض النظر عن ضئالة الفارق الانتخابي بين المصوتين بـ”نعم” والمصوتين بـ”لا” (51.3%  لـ”نعم”مقابل 48.6% لـ”لا”)، ذلك بأن الفرق دائما ينسى مع الأيام ويبقى المعروف هو أن الفوز حصل على كل حال، كما أن قلة الفارق لا تنقص السلطة شيئا في الأعراف الديمقراطية بل تكون أحيانا دليلا على شرف المنافسة وشراستها وحرية التعبير عن الرأي. لكن كل ذلك لا يمنع من محاولة قراءة ما بين الأرقام.

 

أظهرت خارطة النتائج أن المدن الكبرى  صوتت ضد توسيع صلاحيات الرئيس ففي مدينة اسطنبول التي تعتبر إحدى أكبر معاقل أنصار أوردغان رفضت الأغلبية التعديلات الدستورية حيث صوتت 51.3 في المئة من سكانها ضد التعديلات فيما أيدها 48.7 منهم، وهي نفس النسبة تقريبا في مدينة أنقرة العاصمة السياسية لتركيا إذ عارضها 51.1 في المئة، بينما وافق عليها 48.9 في المئة.

 

أما في مدينة إزمير السياحية البارزة فقد وصل معدل الرافضين لتعديل الدستور إلى 68.8 في المئة، ولم يصوت لصالح أردوغان سوى 31.2 في المئة، وكانت نسبة الرفض أكبر في ديار بكر معقل الأكراد، وفي المقابل حصد التصويت بنعم معدلات مرتفعة في مناطق أخرى من البلاد، مثل مدينة إرزوروم التي بلغ فيها المؤيدون لإصلاحات أردوغان 74.5 في المئة، كما وصلت نسبة المصوتين بـ”نعم” في مدينة كوموش خانة، شمالي البلاد، إلى 81.7 في المئة، فما هي الدلالات السياسية لهذه الخريطة الانتخابية المفاجئة؟

 

إن تراجع مؤيدي التعديلات في مدينتي اسطنبول وأنقرة يدل بشكل واضح على النفس التركي النخبوي الرافض لتوسيع صلاحيات الرئيس رغم دعم سياساته الأخرى وتأييد استمراره في السلطة، كما يدل من ناحية أخرى على أن الإسلاميين الأتراك أنفسهم لم يكونوا على قلب رجل واحد تجاه هذه التعديلات.

 

من الوجيه جدا أن يختلف الأتراك بمختلف أطيافهم حول التعديلات الدستورية التي ألغت كون تركيا نظاما برلمانيا كان يتيح ديمقراطية حيوية وتشاركية بشكل كبير بغض النظر عن الملاحظات التي كانت عليه، والتي من أبرزها إعاقة أي مسار سياسي أو اقتصادي نظرا لتداخل السلطات والصلاحيات وتوزعها، ولعل أكبر ظهر لذلك هو معدل التغييرات الحكومية التي مرت بها منذ استقلالها حتى اليوم، حيث عرفت تركيا 65 حكومة منذ تأسيس الجمهورية قبل 93 عامًا، مما يجعل متوسط عمر الحكومة 17 شهرًا فقط، وهي صفحة عدم الاستقرار التي تنادي الحكومة والرئيس بطيها من البلاد بعد إقرار النظام الرئاسي.

 

المعارضون للتعديلات الدستورية يرون أن النظام الرئاسي بصلاحياته الواسعة التي يمنحها للرئيس هو بوابة مشرعة إلى الاستبداد وحكم الفرد، فمنذ اليوم سيصبح رئيس الجمهورية رئيسا لمجلس الوزراء وللمجلس الأعلى للقضاء وغير ذلك، ولن يكون بحاجلة إلى وقت طويل من المشاورات والرفض والقبول في أي قرار كبير يريد اتخاذه.

 

وكان حزب الشعب الجمهوري قال أيام موافقة البرلمان على مقترح التعديلات وإجراء الاستفتاء إن النظام الرئاسي في صيغته المقرة من البرلمان يجمّع صلاحيات واسعة في يد شخص واحد هو الرئيس، مثل إعلان حالة الطوارئ وإبرام الاتفاقات الدولية وإصدار مراسيم تشريعية.

 

ويقول إن ذلك يمهد الطريق لما أسماها “الدكتاتورية الديمقراطية”، أي التفرد بالقرار والتغول على باقي المؤسسات، وبالتالي فهو يرى الحل في ترسيخ النظام البرلماني ومعالجة ثغراته الحالية، وإعادة الرئيس إلى منصبه الفخري وصلاحياته الرمزية.

 

ينتقد الشعب الجمهوري منح الرئيس حق تعيين ما يقارب نصف أعضاء كل من المحكمة الدستورية ومحكمة النقض ومجلس الدولة والهيئة العليا للقضاة، وهو ما اعتبره تسييساً للقضاء وتدخلاً في عمله، كما ينتقد صعوبة محاسبة الرئيس بسبب هذه التعييناتِ ونسبةِ النواب المطلوبين لفتح التحقيق معه ثم محاكمته، وهي نصف أعضاء البرلمان ثم ثلثاه على التوالي.

 

ومما يأخذه المعارضون على مشروع النظام الرئاسي ما يعتبرونه إضعافاً لعمل البرلمان، بحيث لم يشترط حصول الحكومة على ثقة البرلمان، ولا يعطي الأخير حق سحب الثقة منها أو من أي من الوزراء، فضلاً عن أن متابعته لعمل الوزراء تأتي عن طريق الأسئلة المكتوبة وليس الاستجواب  الشفهي.

 

تصريح الاتحاد الأوروبي بعد حسم نتائج الاستفتاء لصالح التعديلات كان واضحا فيه القلق والأسف، فقد قال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر ووزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني والمفوض الأوروبي لشؤون التوسيع يوهانس هان في بيان مشترك: “انطلاقا من النتيجة المتقاربة للاستفتاء والتداعيات البعيدة المدى للتعديلات الدستورية، ندعو السلطات التركية إلى السعي لأوسع توافق وطني ممكن في تطبيق هذه التعديلات”، فهل إشارة الاتحاد الأوروبي للنتيجة المتقاربة هي طعن أخلاقي وسياسي في نتائج الاستفتاء وعدم اعتراف ضمني بها، مما يفتح الباب على احتمالات دعم معسكر الرافضين سياسيا من أجل زيادة نسبة التوتر في داخل تركيا؟

 

المؤكد أن إقرار التعديلات الدستورية التركية الجديدة سينعكس على علاقة تركيا بالوضع الإقليمي والدولي، وسيمكنها أكثر من اتخاذ قرارات أكثر جرأة والتحالف مع من تراه محققا المصلحة التركية في السياق الإقليمي والدولي، كما أنها سيكون لها تداعيات داخلية كبيرة سواء على مستوى الانسجام في الحكومات القادمة والرشاقة في تنفيذ المشاريع التنموية للدولة، كما ينذر بحيوية وراديكالية أكبر في الأحزاب المعارضة التي ستجد نفسها غير معنية بشكل دستوري بتشكيل الحكومات أو إقالتها.

 

فهل سيستمر أوردغان في الحرص على التوافق مع الأطياف السياسية التركية أم أنه سيستغل صلاحياته إلى أبعد حد؟ هذا ما ستكشفه الأيام القابلة وهذا أيضا ما سيعطي مؤشر مواصلة الاستقرار والتنمية التركية أو الدخول في دوامة المحاولات الانقلابية والتأزيم السياسي، فأعداء المشروع الأردغاني التركي كثيرون داخليا وإقليميا ودوليا، كما أن أنصاره وحلفاءه كذلك.