لكل مقام حال ومقال
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار لكل مقام ما يلائمه، بل ولكل مخاطب ما يناسبه، فيوصي الشيخ الكبير بذكر الله تعالى ويوصي الشاب القوي بالجهاد في سبيل الله، ويأتيه الأعرابي وهو غضب ثائر فيخاطبه بما يلين قلبه ويهذب خلقه..
- التصنيفات: التصنيف العام - تربية النفس - تزكية النفس -
من المسلمات عند كل ذي بصيرة اختيار التعبير المناسب للمقام، وهذا الذي علمنا له نبينا صلى الله عليه وسلم، فدعاء دخول المسجد يتناسب مع عظمة المكان وقداسته، ودعاء دخول الخلاء يناسب وذلك الموضع، ولا يستقيم إبدال دعاء هذا المقام بدعاء ذاك.
وبذات القدر فإن لكل مقام حال ينبغي للعاقل أن يكون عليه فحال المعزي يختلف تماماً عن حال المهنيء.
وفي هذا المعني يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير» [1].
فهاهم أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم يشيعون جنازة بحضور النبي صلي الله عليه وسلم ويخيم السكون والوقار علي الموكب فالمقام مقام تفكر واتعاظ واعتبار.
وفي مقام الجهاد يجوز التبختر في المشية ولا يجوز في غيره ولما كان يوم أحد أقبل أبو دجانة يتبختر في مشيته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه يتبختر: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن»[2]، فيحق لكل مسلم أن يظهر العزة والشموخ والتعالي في ذلك المقام الذي يعترك فيه الحق مع الباطل.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار لكل مقام ما يلائمه، بل ولكل مخاطب ما يناسبه، فيوصي الشيخ الكبير بذكر الله تعالى ويوصي الشاب القوي بالجهاد في سبيل الله، ويأتيه الأعرابي وهو غضب ثائر فيخاطبه بما يلين قلبه ويهذب خلقه، بل وكان عليه الصلاة والسلام يخاطب كل قوم بلهجتهم التي بها يتكلمون ولما سأله بعض الأعراب بلهجتهم الخاصة فقالوا له: «هل من أم بر أم صيام في أم سفر" أجابهم قائلاً: "ليس من أم بر أم صيام في أم سفر» [3].
ولم يكن حاله صلى الله عليه وسلم كحال الكثيرين ممن لا يفرق بين خطابه الموجه لوالده والموجه لأحد زملائه، أو أولئك الذين يلينون بين يدي أصدقائهم ويجفون على أزواجهم وأهلهم.
أن مما يدعو للعجب حال أولئك الذين يعشقون اليسير عكس التيار، فإن بعض الناس تجده في المناسبة المفرحة كالزواج مثلاً عابس الوجه واجماً يسير ببطء ويديم النظر في الأرض كأنه يبحث عن شيء ضائع، مما يثير دهشة الآخرين بل وقلقهم وحيرتهم ويبعث في النفوس إيحاء بأن خطباً جسيماً ألمّ ومصيبة عظيمة حلت.
وتجد هذا الشخص الكئيب في المناسبات السارة فرحاً مسروراً مستبشراً في مواقف محزنة، قد أكثر من حركته وتعالت ضحكاته ووزع الابتسامات يمينناً ويساراً ولا يزال يثرثر حتى تقول: "ليته سكت".
وكم تجد من هذا الصنف في المقبرة وأنتم تودعون أخاً عزيزًا فما يراك هذا الثرثار حتى يقبل نحوك مندفعاً اندفاع السهم ويسلم عليك سلاماً حاراً ويأخذك بين أحضانه ثم لا ينسى أن يختم ثرثرته قائلاً: (فرصة سعيدة!).
أما عن اضطراب القول عند هذا الصنف فحدث ولا حرج، فكم يدخل عليك أحدهم يعودك في وعكة ألمت بك فيسرد لك قائمة طويلة بأسماء من وافتهم المنية لماّ أصابهم هذا الداء الذي أصابك، ثم يعرج بعد ذلك معبراً عن إشفاقه الشديد لتدهور صحتك واحمرار عينيك وجفاف شفتيك، كما لا ينسى وهو يغادر أن يقول لأهلك إذا حصل أمر الله فأخبرونا.
ومن هذا الصنف ذلك القارئ الذي طلب منه أن يقرأ آياً من الذكر الحكيم قبل عقد الزواج فلم يجد لهذا المقام إلا قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230].
إن ديننا دين يدعو إلى مراعاة شعور الآخرين ولقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يختار لكل مقام ما يناسبه من الأقوال والتصرفات فما أحرانا أن نهتدي به في سمته ونبرز للناس هديه الاجتماعي كما نبرز هديه في اللباس والأكل والشرب ونحوه.
الكاتب: مروان محمد أبو بكر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه أبو داود وصححه الألباني.
[2] المعجم الكبير، (6508)، 7/ 104.
[3] شرح معاني الآثار،(2971)، 2/ 63.