حيوية المجتمع المسلم في "التطوع"

لقد جعل الإسلام النفعَ للناس والمجتمع ميزانَ الخيرية؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أنفعهم للناس»..

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله -

من المفاهيم التي تحاول المدنيَّة الحديثة أن تسوقها مفهومُ "التطوع" و"ثقافة التطوع"، بينما لا يدهش المسلم أبدًا لهذا المفهوم؛ فهو أصيل في موروثه العبادي والأخلاقي والثقافي منذ قدوم الإسلام بالخير والرحمة للعالمين. فالتطوع في أبسط تعريفاته هو بذل الجهد الإنساني، بصورة فردية أو جماعية، بما يعود بالنفع على المجتمع، دون تكليف محدد، ويقوم بصفة أساسية على الرغبة والدافع الذاتي، سواء كان هذا الدافع شعوريًّا أو لا شعوريًّا.

 

ولا يهدف المتطوِّع تحقيق مقابل مادي أو ربح خاص؛ بل اكتساب شعور الانتماء إلى المجتمع، وتحمُّل بعض المسؤوليات التي تُسهِم في تلبية احتياجات اجتماعية، أو اقتصادية، أو ثقافية ملحَّة، أو خدمة، ومعالجة قضية من القضايا التي يعانيها المجتمع، سواء كانت من القضايا الكلية؛ كدعم الحقوق، أو تأصيل الحريات، أو حفظ الحاجات الأساسية للإنسان (الدين والنفس والعقل والمال والنسل)، أو كانت من القضايا الجزئية والتي تصب ولاشك في التخفيف من معاناة أفراد المجتمع.

 

وقد فعَّل الإسلامُ التطوعَ على المستوى النظري والتطبيقي أيَّما تفعيل، فقد جعل مفهوم التطوع مقرونًا بالإيمان، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قولُ لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان»؛ (رواه البخاري ومسلم) . فجعل إماطة الأذى عن الطريق أدنى شعبة من الإيمان، لا يَليق بالمؤمن إلا أن يتحلَّى بها، وهو نوع راقٍ من التطوع يساهم في تجميل الطرق، وكف الشرور والأضرار عن الناس فيها.

 

وفتحَ أبوابَ التطوع على مصاريعها حينما جعلها صدقاتٍ يومية في حق كل مسلم ومسلمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سُلامَى من الناس عليه صدقةٌ كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة»؛ (رواه البخاري ومسلم)، وقد خرج هذا الحديث من روايات عديدة ذكَرتْ أنواعًا مختلفة من التطوع؛ مثل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإعانة الضعيف، وإغاثة المستغيث اللهفان، وإسماع الأصم، وهداية الأعمى، والتبيين للمستبين (المستفهم)،

وهنا نقف مع ملاحظتين:

الأولى: كمية التطوع: فعدد الصدقات اليومية التي رغب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المسلمَ إليها بعدد سلاميات جسمه، وهي عظامه ومفاصله، وقد بلغت 360 سلامى. والثانية: كيفيته: بأن عدَّد أنواع الصدقات والتطوع؛ ليشمل كافة حاجات الناس، ليشمل كل تطوعٍ يخدم الناس، ويخفف عنهم، ويرقي من شأنهم، ويحسن من أوضاعهم.

 

لقد جعل الإسلام النفعَ للناس والمجتمع ميزانَ الخيرية؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أنفعهم للناس»؛ بل جعل من أسباب تواصل الأجر بعد الممات الصدقةَ الجارية، وهي بذل مالي (تطوع مالي)، ووقفه لصالح منفعة أو مصلحة من مصالح المسلمين؛ كتأمين طلب العلم، وعلاج المرضى، وتوفير الحاجات الضرورية كالماء، ومن هنا نرى تباري الموسرين من المسلمين - في شتى العصور - في إنشاء الأسبلة والبارمستانات (المستشفيات)، ودور العلم والمكتبات، ورعاية الطلاب؛ التماسًا لاستمرار الأجر بعد الممات، كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبع يجري للعبد أجرُهنَّ وهو في قبره بعد موته: مَن علَّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته»؛ (حسنه الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع" برقم: 3596).

 

لقد جعل الإسلام المشي في حاجات الناس من أجلِّ الأعمال، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يُسلِمه، مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه بها كربة من كُرَب يوم القيامة، ومَن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة»؛ (رواه البخاري ومسلم).

 

ومن هنا كان العمل التطوعي بالاشتراك في الجمعيات الخيرية والأهلية، والسعي في مصالح الناس يعكس حيويةَ المجتمع المسلم، ويكون في ذاته دافعًا للتنمية الشاملة في الأمة على المستوى السياسي والاقتصادي، والاجتماعي والثقافي، فضلاً عن أنه يعكس الشعور بالانتماء، والشعور بالمسؤولية التي تدفع الأفراد إلى المشاركة والمبادرة بإيجابية وطواعية، دون انتظار الأجر إلا من الله العلي القدير.

الكاتب: أحمد مخيمر.