رمضان والإنسان وبوابة التغيير

نهى الإسلام عن الإسراف وجعل من رمضان فرصةً للتخفيف من ضَغْط المادة، فنجح شياطين الإنس والجن أن يجعلوا منه شهر الإسراف.

  • التصنيفات: ملفات شهر رمضان -

لعلَّه السؤال المُلِح الذي لا نفتأ نسأله لأنفسنا، ربما منذ سنوات الحملة الفرنسية على مصر:

لماذا تأخَّرنا وتقهقرنا بينما تقدَّم غيرنا؟

لماذا أخذت الحضارة الغربية بمجامع العقول والقلوب؟

لا يَنقُصنا المالُ، ولا تنقصنا الثروات الطبيعية، ولا تنقصنا العقول، فما الذي ينقصنا إذًا؟

 

حاول المستشرقون وتلاميذهم في بلادنا أن يُروِّجوا لأطروحة أن مشكلتنا تَكمُن في ثقافتنا، التي يجب استبدالها بالثقافة الغربيَّة قبل طَرْح أي آلية للتحديث.

 

قالها ضمنيًّا رفاعة الطهطاوي الشيخ المُعمَّم وإمام أول بعثة مصرية لفرنسا، وقالها صراحة قاسم أمين وطه حسين، وقالها بعدهم الكثيرون حتى فُرِضت هذه الثقافة فرضًا على شعوب كثيرة من خلال الإعلام والتعليم، بل وعبر القوانين والتشريعات، وتَمثَّلها أناسٌ كثيرون في حياتهم، ثم ماذا كانت النتيجة؟ هباء منثورًا، أخذنا نمطَ الثقافة الغربية وزينتَها وزُخْرفَها، ولم نُجاوِز تَخلُّفنا بعدُ، وأصبحنا عالة على الأمم الأخرى رغم أننا تَمثَّلنا ثقافتَها.

 ظلَّ سؤال النهضة الحائر بلا جواب في ظلِّ واقع التشرذم والخلاف والجهل، حتى استبدله الكثيرون بسؤال:

 

كيف نبقى على أي نحو كان؟

وبقي آخرون يُذكِّرهم المجدُ القديم بسؤال النهضة، يُفكِّرون وغُصَّةٌ أليمة تستشرها قلوبُهم عن إمكانية تغيير قواعد اللعبة، التي باتت تَحكُم العالم، أو حتى إعادة ترتيب أوراقها.

 

بات من المسلَّم به عند أنصار الرؤية الإسلامية أن التخلُّف والجهل والفساد هي مظاهر مُتعدِّدة لمرض عُضال، ألا وهو ابتعاد المسلمين عن دينهم بتكامله وتَوازُنه، فحدث لهم ما حدث، وليس العكس.

 

فالإسلام جاء بمعجزات كثيرة، على رأسها معجزة تَضمُّنه كافة الخطوط العريضة التي تُنظِّم الحياةَ الإنسانية حتى قيام الساعة، وهذا مالم يَحدُث في أي دين آخر، فالأديان الأخرى جاءت لفئة محدَّدة، في زمن محدد، لمواجهة مشكلات محددة.

 

وعلى الرغم من ذلك، نظر المسلمون نظرة جزئية لهذه المبادئ المتكامِلة على مستوى الفِكْر، أما على مستوى العمل، فحدَث تهاونٌ كبير جدًّا، ومَن ثَمَّ صِرْنا لما نحن فيه.

 

وإذا كان للنهضة شروط كثيرة جدًّا على المفكِّرين والمُصلِحين أن تتضافر جهودُهم حتى يضعوا شروطَها كلٌّ في مجاله في ضوء المبادئ الحاكمة للشريعة الإسلامية، ثم تنتقل لمرحلة الخطط العمليَّة التي تُنفَّذ على الأرض، ومن ثَمَّ متابعة الخطط الجزئية والتعديل عليها، إلا أن ذلك كله لا ينفي الجهد الفردي في القضية برُمَّتها، بل إن الأساس الفردي هو الأساس الذي لا يُمكِن تَجاوُزه بحال، وفي الأصل نشأت الدعوة الإسلامية كدعوة أفراد كانوا هم النواة الصُّلبة قبل الدعوة الموجَّهة للأمم والشعوب، وقبل تَشعُّب مظاهر الحضارة الإسلامية، فالفرد هو الوَحدة التي لا يمكن تَجاوُزها.

 

كل حضارة تتميَّز بإنسانها، الذي هو الصانع الحقيقي لها، والإنسان الغربي مُتوافِق مع حضارته بمادياتها وأفكارها، وفلسفتها التي تضرب بجذورها العميقة في التُّربة اليونانية، وإن لبست قشرة المسيحية في بعض الأحيان.

 

أما إنسان حضارتنا، فهو الذي يعيش كثيرًا من التناقض بين ما يعتقده وما يعيشه؛ ولأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يَعلَم البنيان النَّفسي لهذا الإنسان؛ لذلك يمنحه الفرصة تِلْو الفرصة كي يستعيد نفسه ويتَّسِق مع ذاته، ويكون ابنًا بارًّا لحضارته وأُمَّته، ومن أعظم الفرص التي تُمنَح لهذا الإنسان الفرصةُ السنوية التي يَحصُل عليها في شهر رمضان؛ كي يتطهَّر من ذنبه، ويقترب من ربه، ويصبح وَحدةً نافعة في بنية أُمَّته، وعاملاً مهمًّا من عوامل نهضتها.

 

وإذا كان الإنسان المسلم يتألَّم لحال أُمَّته، ويتمنَّى لها العودة لتكون خير أُمَّة أُخْرِجت للناس، فليس أمامه من حَلٍّ إلا أن يكون مُعبِّرًا بحق عن هذه الحضارة العظيمة، وها هو رمضان يَقترِب ليَمنحنا هذه الفرصة العظيمة، كفانا إحساسًا بالألم والإحباط والهزيمة النفسية الداخلية، تلك الهزيمة التي تجعلنا متهاونين نقرأ عن أصحاب الهِمَّة العالية، ونُعجَب بهم، دون أن يَخطُر ببالنا أن نكون مِثْلَهم، لا نقول لأنفسنا: هم رجال ونحن رجال، فلماذا لا نصنع مِثْل ما صنعوا؟!

 

كي يتحقَّق هذا على مستوى الواقع والعمل، فلا بد وأن يتحقَّق أولاً في الشعور والوِجدان، ثم في العقل والتخطيط، ثم ينتقل بعد ذلك للواقع الحي، وها هي أيام قليلة تَفصِلنا عن رمضان، فلماذا لا نتهيَّأ؟ فيها لهذا الأمر الجَلَل، فبالإضافة لنيَّة مغفرة الذُّنوب، والعِتْق من النار، ودخول الجنة، وما أعظمها من نيات يدور عليها المصير الأبدي للإنسان!

 

أقول: بالإضافة لذلك، يكون لدى كلٍّ منا نيَّة أن يصبح سفيرَ حضارته وأُمَّته، التي تَحمِل مشعل الدِّين الخاتم للبشرية، وأن يفعل جميعَ القِيَم التي جاء بها دينه.

 

 نهى الإسلام عن الإسراف وجعل من رمضان فرصةً للتخفيف من ضَغْط المادة، فنجح شياطين الإنس والجن أن يجعلوا منه شهر الإسراف.

 

 إنهم يُقنِعوننا بأن نشتري ما لا نحتاجه؛ حتى تعمل مصانعهم، وتَنفَد أموالُنا التي لم نستطع توجيهها للبحث العلمي، حتى يمكننا اللَّحاق بقاطرة العلم السريعة.

 

كثيرة هي تلك القيم التي بحاجة لإعادة التفعيل، بَدءًا من تلك الابتسامة الصدقة «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة» (صحيح ابن حبان: 529) ، مرورًا بمشروعات تنموية حقيقية تقضي على البَطالة، أو تُقلِّل منها وتُشْبِع حاجتنا للسلع المختلفة.

 

وانتهاء بأن نكون قرآنًا يمشي على الأرض في كل كلمة، وكل حركة، وكل سلوك؛ بل وفي كل نية، فلنأخذ دِيننا بقوة وبحزم وبجدية، ولنجعل من رمضان هذا العام بوابةَ التغيير.

 

الكاتبة: فاطمة عبد الرؤوف.