شهر شعبان والحذر من الغفلة
نحن مقبِلون على شهر يغفُل عنه الناس، وكان الأَوْلى بهم اليَقَظة والتذكُّر والرجوع إلى الرحيم الرحمن إنَّه شهر شعبان الذي يغفُل الناس عنه بين رجَب ورمضان، الذي خصَّه الله عزَّ وجلَّ بفضيلة رفْع أعمال العِباد فيه؛ ولأجْل هذه الفضيلة كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخصُّه بالصِّيام أكثرَ مِن غيره ما خلاَ رمضان
- التصنيفات: ملفات شهر شعبان -
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
فقد: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 1-3].
وتزداد الغفلةُ ويزداد الإعراض عن الله وآياته ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله!
ونحن مقبِلون على شهر يغفُل عنه الناس، وكان الأَوْلى بهم اليَقَظة والتذكُّر والرجوع إلى الرحيم الرحمن إنَّه شهر شعبان الذي يغفُل الناس عنه بين رجَب ورمضان، الذي خصَّه الله عزَّ وجلَّ بفضيلة رفْع أعمال العِباد فيه؛ ولأجْل هذه الفضيلة كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخصُّه بالصِّيام أكثرَ مِن غيره ما خلاَ رمضان؛ فعن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسولَ الله، لم أرَك تصوم شهرًا مِن الشُّهور ما تصومُ مِن شعبان؟!
قال: «ذلك شهرٌ يغفُل الناس عنه بين رجَب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفَع فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يُرفَع عمِلي وأنا صائِم»؛ (مسند أحمد وسُنن النَّسائي، وحسَّنه الألباني).
وفي الصحيحين عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم استكملَ صِيامَ شهر قطُّ إلاَّ رَمَضان، وَما رَأَيْتُهُ في شَهْرٍ أكْثَرَ مِنه صِيَامًا في شَعْبَان»؛ (متفق عليه).
فمع الصِّيام يتأكَّد استحبابُ العبادات في هذا الشَّهْر الكريم، والإكثارُ مِن الصدقة وتِلاوة القرآن؛ فقدْ كان عمرو بن قيس الملائي رحمه الله تعالى إذا دخَل شهر شعبان أغْلَق حانوته (دكَّانه/ متجرَه)، وتفرَّغ لقِراءة القرآن في شعبان ورمضان، وكان الحسنُ بن شُهَيل رحمه الله تعالى يُكثر فيهما مِن قراءة القرآن، ويقول: "ربِّ جعلتني بين شهرين عظيمين".
• وإذا كان ترْك المحرماتِ واجبًا في كلِّ وقت، فترْكُ المحرَّمات واجبٌ مؤكَّد أكثرَ في هذا الشَّهْر أشد مِن غيرِه؛ فكما أنَّ الحسناتِ تُضاعَف في الأوقات والأماكن، فإنَّ السيِّئات تُضاعَف فيها أيضًا، فعَلَى العبدِ المسلِم أن يبادرَ إلى ترْك المحرَّمات في هذا الشَّهر؛ فإنَّ الأعمالَ تُرفَع فيه، ولعلَّه يُوافيه أجلُه، ويكون عمله فيه آخِرَ أعماله المرفوعة، فيُختَم له بالحُسْنى إن أحْسَن، وبالسُّوء إنْ أساء عافانا الله وجميع المسلمين مِن خاتمة السوء.
والعبادة في الهَرْج وكثرة غفلةِ الناس عن طاعةِ ربِّ الناس كهجرةٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم وهي دليلٌ على قوَّة إيمان العبد، بل على العبد أن يزداد تمسُّكًا كلما رأى تفريطَ الناس لا العكس كما هو مشاهَد؛ يقول الحافظ ابنُ رجب الحنبلي رحمه الله شارحًا قوله صلى الله عليه وسلم: «شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عنه»: "فيه دليلٌ على استحباب عِمارة أوقاتِ غفْلة الناس بالطاعة، وأنَّ ذلك محبوبٌ عندَ الله عزَّ وجلَّ.
وفي إحياء الوقتِ الغفول عنه بالطاعة فوائد:
منها: أنَّه يكون أخْفى، وإخفاء النوافِل وإسرارها أفضل.
ومنها: أنَّه أشقُّ على النفوس، وأفضلُ الأعمال أشقُّها على النفوس؛ وسببُ ذلك أنَّ النفوس تتأسَّى بما تشاهده مِن أحوال أبناء الجِنس، فإذا كثُرتْ يقظةُ الناس وطاعاتهم كثُر أهلُ الطاعة، لكثرةِ المقتدين بهم، فسهُلت الطاعَة، وإذا كثرتِ الغفلات وأهلها تأسَّى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين طاعاتهم، لقلَّة مَن يقتدون بهم فيها.
ومنها: أنَّ المنفرد بالطاعة بيْن أهل المعاصي والغفْلة قد يُدْفَعُ به البلاءُ عن الناس كلِّهم، فكأنه يَحميهم ويدافع عنهم".
فقد:
مَضَى رَجَبٌ وَمَا أَحْسَنْتَ فِيهِ *** وَهَذَا شَهْرُ شَعْبَانَ المُبَارَكْ
فَيَا مَنْ ضَيَّعَ الأَوْقَاتَ جَهْلاً *** بِحُرْمَتِهَا أَفِقْ وَاحْذَرْ بَوارَكْ
فَسَوْفَ تُفَارِقُ اللَّذَّاتِ قَسْرًا *** وَيُخْلِي المَوْتُ كُرْهًا مِنْكَ دَارَكْ
تَدَارَكْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الخَطَايَا *** بِتَوْبَةِ مُخْلِصٍ وَاجْعَلْ مَدَارَكْ
عَلَى طَلَبِ السَّلاَمَةِ مِنْ جَحِيمٍ *** فَخَيْرُ ذَوِي الجَرَائِمِ مَنْ تَدَارَكْ
وعليه فاحذر يا عبد الله الغفلةَ عمومًا، وفي هذا الشهر خصوصًا:
• باستحضار جلال الله تعالى، وعظمته وكبريائه، وعظم حقه علينا؛ {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]!
• ومعرفة فضل التذكر والحياة، وضرر الغفلة والموت؛ فالطاعة حياة وذكر، والمعصية غفلة وموت؛ {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]؟! فـ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ *** إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
• واستحضار حديثِ المصطفى صلى الله عليه وسلم: «العِبَادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» [1]، وما ذكَره الإمام ابنُ رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في فضل العبادة والتذكُّر في وقت غفْلة الناس، وقُلْ لنفسك: كلما ازداد الناس غفلةً وبُعدًا، ازددتُ أنا بتوفيق الله تذكُّرًا وقربًا!
• أيضًا استشعار قِصر الأمَل، وأنَّك قد لا تدرك (شعبان) آخَرَ، فكم من أناس عايشنَاهم في شعبان الماضي هم الآن تحتَ التراب والثَّرَى! والله أعلم بحالِهم؛ أيُنعَّمون بتذكُّرهم وعباداتهم وطاعاتهم لله تعالى، أم يُعذَّبون بغفلتهم وعِصيانهم له جلَّ جلاله وتقدَّستْ أسماؤه.
• قد يحول الله سبحانه عزَّ وجلَّ بيْنك وبيْن قلبك؛ فلا تستطيع أن تطيعَه أو تتذكر، فتتوه في الغَفْلة والعَمَهِ ناسيًا ربَّك، بَلْهَ نفسَك!
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 24 25]. {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]!
فتدارك واستجب، وتذكَّر واحذرِ الغفلةَ، قبل أن يُحالَ بيْنك وبين قلبِك، وقبل أن تُنْسَى ممَّن لا يغفل ولا ينام!
• اصحبِ الصَّالحين اليقظين المتذكِّرين، وكُن في كنَفِهم؛ فإنَّ الصاحب ساحِب، والمرءُ على دِين خليلِه، والمرءُ بقَرينه، وكلُّ قرين بالمقارَن يَقتدي؛ وخير صاحِب: هو الذي إذا غفلتَ ونسيتَ ذكَّرَك، وإذا ذكَرْتَ أعانك وسدَّدك!
وكلُّ صاحِب لك بعدَ هؤلاء هو لك عدوٌّ؛ {الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
فتيقَّظْ، وأيقِظْ قلبك، وكل مَن تستطيع إيقاظه، وقُمْ مِن رقدةِ الغفلة، وتِيه السَّكْرَة؛ فإنَّ اليقظة أوَّل منازل العابدين؛ يقول عنها طبيبُ القلوب شيخنا الإمام ابن القيِّم رحمه الله تعالى: "فأوَّل منازل العبودية اليَقظة، وهي انزعاجُ القلْب لروعة الانتباه مِن رقْدَة الغافلين، ولله ما أنفعَ هذه الرَّوْعة، وما أعظمَ قدْرَها وخطرَها، وما أشدَّ إعانتَها على السُّلوك! فمَن أحسَّ بها فقد أحسَّ واللهِ بالفَلاَح، وإلا فهو في سَكَراتِ الغفْلة، فإذا انتبه شمَّر لله بهمَّته إلى السَّفَر إلى منازله الأولى، وأوطانِه التي سُبِي منها.
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا *** مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا المُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تَرَى *** نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ
فأخَذ في أُهبة السَّفَر، فانتقل إلى منزلةِ العزْم، وهو العقْد الجازِم على المسير، ومفارَقة كلِّ قاطِع ومعوِّق، ومرافقة كلِّ مُعين وموصِّل، وبحسبِ كمالِ انتباهِه ويَقظتِه يكون عزمُه، وبحسبِ قوَّة عزْمه يكون استعدادُه.
فإذا استيقظ أوجبتْ له اليقظةُ الفِكرةَ، وهي تحديقُ القلْب نحو المطلوب الذي قد استعدَّ له مجملاً، ولما يَهتدِ إلى تفصيله وطريقِ الوصول إليه.
فإذا صحَّتْ فِكرته أوجبتْ له البصيرة، فهي نورٌ في القلب يُبصِر به الوعدَ والوعيد، والجَنَّة والنار، وما أعدَّ الله في هذه لأوليائه، وفي هذه لأعدائه، فأبْصر الناس وقد خرَجوا مِن قُبورهم مهطِعين لدعوةِ الحقّ، وقد نزلتْ ملائكةُ السموات فأحاطتْ بهم، وقدْ جاءَ الله، وقد نصَب كرسيَّه لفصْل القضاء، وقد نصَب الميزان، وتطايرت الصُّحُف، واجتمعتِ الخصوم، وتعلَّق كلُّ غريم بغريمه، ولاحَ الحوض وأكوابه عن كثب، وكثُر العطاش وقلَّ الوارد، ونُصِب الجسر للعبور، ولزّ الناس إليه، وقسمت الأنوار دون ظُلمته للعبور عليه، والنار يحطِم بعضُها بعضًا تحته، والمتساقطون فيها أضعافُ أضعاف الناجين.
فينفتِح في قلْبه عينٌ يرى بها ذلك، ويقوم بقلْبه شاهدٌ مِن شواهد الآخِرة، يريه الآخرة ودوامها، والدنيا وسرعة انقضائها"[2].
وصلَّى الله على محمَّد وآلة وصحْبه وسلَّم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
الكاتب: أ. رضا جمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم، وعلَّق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله تعالى عليه قائلاً: "المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضْل العبادة فيه أنَّ الناس يغفُلون عنها ويشتغلون عنها ولا يتفرَّغ لها إلا الأفراد". فكن أنت مِن الأفراد!
[2] "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/142 143).