في ظلال رمضان.. (17) من (30)
مدحت القصراوي
اليقين أساس العمل، وإن استقر التصور التام انطلق العمل بلا مشقة بل انطلق لازما للتصور التام الذي يملأ القلب فيعيش الغيب الذي يفرض نفسه على القلب، وهذه علامة الصلاح.. أتم الله علينا وعليك هداه الكريم..
- التصنيفات: الزهد والرقائق - التقوى وحب الله - تربية النفس - تزكية النفس - ملفات شهر رمضان -
نجاسات قد تذهب بأصل اليقين، تخاف من الذنوب أن تضعف اليقين؟
بل اخش ما هو أشد وأعظم وهو زوال اليقين وانتفاء التصديق.. فكم ممن يشك أو يكذب، لا لافتقاد الدليل بل لكثرة الذنوب، فهذا الذي تليت عليه آيات الله تعالى فقال في شأنها أنها خرافات القدماء واختراعاهم{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17] فقال الله تعالى له، ولهذا النمط البشري: ليس الأمر كما تزعم فليس القرآن أساطير الأولين، بل حُجبْتَ عن رؤيته؛ فقد تراكمت على قلبك الذنوب فحجبت عنك الخير وأفسدت ما فيك من الفطرة فكذبت بالحق وخسرت.. وتكذيبك له لا يعني أنه كما قلت، فالحق في مكانه، لكن الخلل في قلبك.. قال تعالى{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين: 13-14]، يقول ابن كثير (أي: ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا أن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّيْن الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا؛ ولهذا قال تعالى:{كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} والرين يعتري قلوبَ الكافرين، والغيم للأبرار، والغين للمقربين).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صُقِل قلبه، فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (مسند أحمد: 15/98).
وانظر الى ما قاله ابن القيم رحمه الله أن كتاب الله تعالى لا يمسه في السماء الا المطهرون، وهم الملائكة، فلا يناله شيطان، وهذا في مسّ الكتاب نفسه، وجعل تعالى حكم مس المؤمن للكتاب على طهارة، إما وجوبا وإما ندبا، من باب الإشارة أو قياس الأوْلى، فيقول رحمه الله: فإن كان هذا في مس الأيدي للمصاحف، فمن باب أولى أنه لا تمس معانيه الشريفة الا القلب طاهر من دنس الذنوب ونجاساتها.. ولهذا لا يشبع المطيعون من كلام الله، ولا يشبع منه العلماء، فتتفتح لهم معانيه، ويقرأ الآية فيفهمها كما لو أنه لم يسمعها من قبل، ويفهم منها ما لم يكن يعلم، رغم أنه يقرؤها مئات المرات.
بل ويباشر القلب من اليقين ورؤية الحق، فيراه حقائق بين يديه ويذوق هذه الحقائق ويراها بقلبه، لتصبح وحدها دليلا لا يستطيع دفعه عن قلبه، فلا يطلب الدليل من خارج، بل يجد الدليل في قلبه حقائقَ يعيشها ويذوقها ويجد علمها في نفسه ضروريا واضطراريا، وهو من أعلى أنواع العلوم واليقين.. فيا خسارة من يخسر هذا الخير بعوائق الذنوب وأدرانها.
أرأيت؟ إنها التوبة، فورا وبلا مهل، ودوما وكل يوم، لا تدع من الذنوب ما يعلق بقلبك، فإنه محل شريف، خلق لأشرف معرفة وعلم وأشرف قصد ومحبة، فلا تنجسه بل طهره ليستقبل الهدى، ولا تضعفه عن السير الى ربه.
ليست الذنوب في الشأن الخاص فقط، بل الذنوب المتعلقة بالشأن العام والتقصير في خدمة الأمة، والتأثير السلبي على الغير، وخذلان الحق في أي موطن وتعليم الغير سوءا، والأثر السيء لكلمة أو موقف أو عمل، إيجابا أو سلبا.. توبة من ذنب تذكره أو تنساه، تقر به أو تجادل في شأنه أو تنكره، جادا أو هازلا، عالما أو جاهلا، استخفيت به أو أعلنته.. قد يكون ذنبا في المسجد في تنافس لغير الله، أو مجادلة ظالمة أو استعلاء أو رياء أو جحدا لحق، دق أو جلّ.
قد يكون وأنت تهتف لنصرة الحق فيدخل في القلب أن يكون لنفسك نصيب، فردا أو طائفة أو جماعة أو شيخا أو لافتة!.
قد يكون الذنب تقصيرا أو تركا لمأمور أو فعلا لمحظور.. وقد يكون مبالغة في أمر لم تؤمر به على هذا الوجه.. قد يكون غفلة أو نسيان أو سوء ترتيب اهتمام، قد تتزاحم الحقوق والواجبات فتقصر وتنشغل بأمر عن أمر.. أرأيت.. ما أحوجك.. ثم لو استوفيت!! وهذا لا يكون، لكن تنزلا.. فحق الله تعالى أعظم أن يستوفيه بشر على وجه المقابلة، فالتقصير لازم والتوبة لازمة.
هل أطلت عليك؟هل كررت عليك أمر اليقين؟
نعم، لكن لا تملّ، فاليقين أساس العمل، وإن استقر التصور التام انطلق العمل بلا مشقة بل انطلق لازما للتصور التام الذي يملأ القلب فيعيش الغيب الذي يفرض نفسه على القلب، وهذه علامة الصلاح.. أتم الله علينا وعليك هداه الكريم..