للقدس أشواق
مدحت القصراوي
فالقدس وأهلها يبحثون عن لحظة صدق غابت وتنكر الناكرون لها، لكن يبحث عنها أهلها.. ألا إنها آتية {يوم ينفع الصادقين صدقُهم} .
للقدس أشواق تحث القلب إليها باضطرار ولهيب ونار..
تتملى العين شوارعها، وتعتب على المصوّر أن التفت وعاد إلى مناظرنا الممجوجة.. كيف يترك الجمال والفصاحة والتاريخ والمستقبل والخُطى الرصينة ويذهب إلى الغثاء..؟
يكون العزاء كثيرا أنه ما عاد إلا لنجهز أنفسنا للنفير إليها..
تعبر عينك تفاصيل حياتها وأعلام أشخاصها الذين تعتب عليهم الكثير، لكنك ترى من وراء تفاصيل المشهد والأفراد معنى عظيما وقولا كُلّيا، وأحداثا قادمة..
ذرات النفوس المنفلتة وغبار أمتنا المتناثر يعود فيستقيم ويعاد ترتيبه عند هذا المغناطيس الغريب..
في القدس لو أمسكت في كفك ترابها لأخبرك بأن مؤامرات الدنيا ومكر العقود الماضية هنا ينكسر ويذوب، كأن التراب يعرف المؤامرات والمَكَرات، وكأن الله تعالى خبأ فيه الطمأنينة والسكينة والإجابة.
القدس في هدوء صاخبة ولها حديث.. لو تسمعه.
ما نظرت إلى القدس مرة وشوارعها إلا عرفت أنها تشتكي من وطأة أقدام من لا يعرف قيمتها من أهلها، وتشتكي منهم: علمانيين وقوميين وبنات عاريات وأشخاص تائهين، وأنها تنتظر آتٍ يعرف قدسية القدس وصلتها ببيت الله الحرام.
عزاء القدس تعرفه في مؤمنة تدب إلى الصلاة، وشيخ طاهر مطيع، وشاب يشتري الآخرة ويحلم بالشهادة.. هم هناك يزاحمون العصاة ويخففون من وطأتهم.. ثم يفجؤك شبابها الذين تغض الطرف عنهم حينا؛ أن في قلوبهم إيمانا كالجمرات، وأنهم ما يلبثون يتوهون إلا ويعودون قذيفة فاجعة للباطل.
في القدس أصالة وتاريخ تحتضنه أصالة معاصرة، نعم يمكن أن ترى ذلك لو أحببت.
عزاء القدس تجده في شوارع غزة وهي تتلفف بالجهاد والثبات والإيمان والصبر؛ فتقترب من القدس وتطوي المكان ليكونا صنوا، هذه بقدسيتها وتلك بجهادها، فالمؤمنون يعطون قيمة لما دبوا عليه..
تعرف القدسُ عدوها وبها طمأنينة لزواله وحتف أنفه وجريان الآيات عليه وسحق الأقدار له وتقديمه عبرة للدنيا وللتاريخ؛ رغم أن خطوة يخطوها جندي صهيوني هناك وفي أرض فلسطين كلها تشعر أنه يدب فوق عِرضك ويدنس شرفك، وأنت.. تسمع وترى !
في القدس تسبقنا أحلامنا وأشواقنا.. وفي القدس يتلاطم الشرق والغرب، وتصطدم الحضارات، ليدوي صوت الارتطام وينحسر الموج ويهبط الباطل ويعتدل التاريخ..
وما زلنا ننتظر؛ تشرئب القلوب والعيون نحو القدس الشريف.. أرض الرباط والجهاد وخطو الأنبياء وصلاة محمد صلى الله عليه وسلم بهم.
يسقط الكذب والبهتان في القدس مع سقوط الكذب والبهتان في مصر والخليج والمغرب وشرق المسلمين وغربهم، فالقدس وأهلها يبحثون عن لحظة صدق غابت وتنكر الناكرون لها، لكن يبحث عنها أهلها.. ألا إنها آتية {يوم ينفع الصادقين صدقُهم} .
ترجمة قوتنا وبوصلة أحوالنا تراها هناك حيث الجهاد؛ فمكة رحيمة رحبة الصدر تصبر على المنافق والمرائي والمكاثر، لكن القدس تضيق بسرعة وتنفضهم عنها ولا تتحمل لضعفها فهناك كتب الله الملاحم وخير الجند وإليها أوى مشعل الإيمان..
في القدس مفاجآت تذهلك..
ووقع خطو الصادقين هناك لحن يدهشك..
وصلواتهم وثباتهم أنشودة وأشعار تبهرك..
هناك تظن الانكسار فيفجؤك معدن الصدق يُسر اليك خافتا: ألا تقلق فلا زال للصدق أثر وفي الخير أمل، وما زلت أنتظر يوم عودتكم وأنا على يقين أعد لهذا اليوم..