كتبن له كأربع ركعات من ليلة القدر

ذهب فقهاءُ الحنفيَّة إلى استحباب هذه الأربعِ ركعاتٍ بعد العشاء؛ فقد جاء في فتح القدير لابن الهمام: "وذكر فيه - أي: في الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني - ركعتين بعد العشاء، وفي غيره ذكر اﻷربع؛ فلهذا خَيَّر، إلَّا أنَّ اﻷربعَ أفضلُ، خصوصًا عند أبي حنيفة رحمه الله.

  • التصنيفات: فقه العبادات - تزكية النفس -

في كلام النبوة كنوزٌ عظيمةٌ، ومن هذه الكنوز: أجرٌ كبيرٌ على عملٍ قليلٍ.

ومن أمثلة ذلك: صلاةُ أربع ركعات بعد العشاء؛ فهي تعدلُ بمِثْلِهِنَّ من ليلة القدر، كما جاء في السنة النبوية الشريفة!

فهنيئًا لِمَن وُفِّقَ لهُنَّ، وواظب عليهِنَّ؛ فإنَّ لياليَه كلَّها تصبحُ كَلَيْلَةِ القدر في الصِّلة مع الله تعالى، والأُنْس به، والتَّلَذُّذِ بطاعته، والاستقامة عليها، فكيف بمن زاد؟

وصدق من قال:

فسائرُ أيامي لدَيْكمْ مواسمٌ ♦♦♦ وكلُّ الليالي عندكمْ ليلةُ القدْرِ



ومَن قال:

فأياميَ الأعيادُ في بابِ عِزِّكُمْ ♦♦♦ وكلُّ الليالي عندكُمْ ليلةُ القدرِ


وبيان ذلك باﻵتي:
أولًا: دلَّت السنة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم على مشروعية صلاة أربع ركعات بعد صلاة العشاء، وقد اتَّفَقَ الفقهاء على مشروعيتها.

يدلُّ على ذلك ما جاء عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَال: «بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ...» [1].

وعن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها قالت: «مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ عَلَيَّ إِلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ» [2].

وعن عبداللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى العِشَاءَ رَكَعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَوْتَرَ بِسَجْدَةٍ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدُ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ» [3].

وذهب فقهاءُ الحنفيَّة إلى استحباب هذه الأربعِ ركعاتٍ بعد العشاء؛ فقد جاء في فتح القدير لابن الهمام: "وذكر فيه - أي: في الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني - ركعتين بعد العشاء، وفي غيره ذكر اﻷربع؛ فلهذا خَيَّر، إلَّا أنَّ اﻷربعَ أفضلُ، خصوصًا عند أبي حنيفة رحمه الله.."[4].

ثم استَدَلَّ على ذلك بحديث عائشةَ المتقدِّم.

واﻷفضلُ للمسلم أنْ يصليَ أربع ركعات المسنونة، ثم يُوتِرَ بثلاثِ ركعاتٍ آخرَ الليل، فإنْ خاف ألَّا يستيقظَ، أَوْتَرَ بعدها، فتكون سبع ركعات.

وإذا اقتَصَر على صلاة ركعتين ثم ركعتين ثم ركعة الوتر، فلا بأس.
وإتيانُه بإحدى الصيغتين يُحْرِزُ اﻷجرَ المذكورَ في الحديث.

ثانيًا: ما هو فضل هذه الصلاة المسنونة؟

وَرَدَ في ذلك خمسةُ أحاديث، وهي:

1- عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صلَّى أربعَ ركعات خلف العشاء الآخرة، قرأ في الركعتين الأُولَيَيْنِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وفي الأُخْرَيَيْنِ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] و {الم * تَنْزِيلُ } [السجدة: 1، 2]؛ كُتِبْنَ له كأربعِ ركعاتٍ من ليلة القدر» [5].

لكنْ له شواهدُ، منها:
2- عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى العِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ، كَانَ كَعِدْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» [6].

3- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ كَعِدْلِهِنَّ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَأَرْبَعٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ كَعِدْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» [7].

4- عَن البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَأَنَّمَا تَهَجَّدَ بِهِنَّ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَمَنْ صَلَّاهُنَّ بَعْدَ الْعِشَاءِ كُنَّ كَمِثْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِذَا لَقِيَ المُسْلِمُ المُسْلِمَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَهُمَا صَادِقَانِ، لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُمَا»[8].

5- عن يحيى بن أبي كَثِير قال: "أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه أن يقرؤوا {الم} [السجدة: 1] السجدة، و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [الملك: 1]؛ فإنهما تَعْدِلُ كلُّ آيةٍ منهما سبعين آيةً مِن غَيْرِهما، ومن قرأهما بعد العشاء الآخِرة، كانتا له مثلهما في ليلة القدر"[9].

ملاحظة مهمة: هذه اﻷحاديث وإن كان فيها مقالٌ، فقد صَحَّتْ عن عددٍ من الصحابة والتابعين، وبيانُ ذلك في اﻵتي:
ثالثًا: الحديث قد صح موقوفًا عن جَمْعٍ مِن الصحابة؛ فقد أخرجه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن عبدالله بن عمرو قال: «من صلى أربعًا بعد العشاء، كُنَّ كقَدْرِهِنَّ مِنْ ليلة القَدْر».

وجاء أيضًا عن عائشة، وابن مسعود موقوفًا عليهم[10].

والأسانيدُ إليهم كلهم صحيحةٌ، وهي وإن كانت موقوفةً؛ فلها حُكْمُ الرَّفْع إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لا تقال بالرأي والاجتهاد.

وقد رُوِيَتْ عن عددٍ من التابعين، منهم: سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وعلْقمةُ، ومجاهِد، وعبدالرحمن بن الأَسْوَد، وكَعْبُ اﻷحبار.

رابعًا: لا بد من اﻹشارة إلى أنَّ الصلاة بعد فريضة العشاء تُعَدُّ مِن قيام الليل، وقد جاء في فضله كثيرٌ من اﻵيات القرآنية، واﻷحاديث النبوية الشريفة؛ ولهذا كان على المسلم أنْ يحرصَ على اﻹكثار من ذلك ما يشاء، وبما تَسْمَحُ به ظروفُه: خمس ركعات، أو سبعًا، أو تسعًا، أو إحدى عشرة، أو ثلاثَ عَشْرةَ ركعةً، أو أكثر..

قال القاضي عِيَاض: "ولا خلاف أنَّه ليس في ذلك حَدٌّ لا يُزَادُ عليه ولا يُنْقَصُ منه، وأنَّ صلاةَ الليل مِن الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر؛ وإنما الخلاف في فِعْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وما اختاره لنفسه".

وقال أيضًا: "فأكثرُه خمسَ عشْرةَ بركعتَي الفجر، وأقلُّه سبعٌ، وذلك بحسب ما كان يحصُل من اتِّساع الوقت أو ضِيقِه بِطُول قراءةٍ - كما جاء في حديث حذيفة وابن مسعود - أو لنومٍ، أو عذر مرضٍ، أو غيرِه، أو في بعض الأوقات عند كِبَرِ السِّنِّ، كما قالت عائشةُ: فلما أَسَنَّ صلى سَبْعَ ركعات..."[11].

خامسًا: على المسلم أنْ يكونَ نشيطًا في عبادة الله سبحانه، قال الحافظ ابن حجر: "ملازمةُ الاقتصار على الفرائض، وترْكُ التَّنَفُّل يُفْضِي إلى إيثارِ البطَالة وعدمِ النشاط إلى العبادة"[12].

ومَن فاتَهُ شيءٌ من وِرْدِهِ في الليل، فعليه أنْ يقضِيَهُ بالنهار؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عائشةَ رضي الله عنها: "..وكان - أي: النبي صلى الله عليه وسلم - إذا غلبه نومٌ أو وجعٌ عن قيامِ اللَّيلِ، صلَّى بالنهارِ ثِنْتَيْ عشْرةَ ركعةً"[13].

 

الكاتب: د. عبدالسميع الأنيس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري في صحيحه (117).
[2] رواه أبو داود في سننه (1303).
[3] رواه أحمد في "مسنده" (26/ 34).
[4] فتح القدير (1/ 441).
[5] أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (12240)، والبيهقي في سننه الكبرى (4188)، وفي سنده أبو فروة؛ واسمه يزيد بن سنان الجزري الرهاوي، مختلَف فيه، ضعَّفه الكثيرون، ولكن قال أَبُو حاتم: "محله الصدق، وكان الغالب عَلَيْهِ الغفلة، يُكتَب حديثُه، ولا يُحْتَجُّ بِهِ"، وقال البخاري: "مقارب الحديث"؛ انظر تهذيب التهذيب (11/ 336).
[6] رواه الطبراني في المعجم الكبير (13، 14 / 130)، وفي المعجم الأوسط (5/ 254) وقال العراقي: "فيه ضعف" كما في طرح التثريب (4/ 162).
[7] رواه الطبراني في المعجم الأوسط (3/ 141)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 230): "فيه يحيى بن عقبة بن أبي العيزار، وهو ضعيف جدًّا".
[8] رواه الطبراني في المعجم الأوسط (6/ 254)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 221): "فيه ناهض بن سالم الباهلي وغيره، ولم أجد مَن ذَكَرَهُم".
[9] رواه عبدالرزاق في المصنف (3/ 382) عن مَعْمَر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير، هكذا مُرْسَلًا.
[10] "المصنف" (2/ 343).
[11] وفي تفصيل ذلك ينظر كتاب: "إكمال المعلم بفوائد مسلم"؛ للقاضي عياض (3/ 82) وشرح النووي على مسلم (6/ 19).
[12] فتح الباري (9/ 106).
[13] رقم (746).