مذكرات مرابطة (20)

هنادي حلواني

سلسلة مقالات بقلم المناضلة الفلسطينية هنادي الحلواني، من مرابطات المسجد الأقصى، وقد أسمتها (مذكرات مرابطة).

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية - قضايا إسلامية -

من تحقيق لتحقيق آخر:

وصلتُ مركز القشلة وأنا لا أكادُ أسمع شيئاً غير كلامهم البذيء وشتائمهم التي أغرقوني بها وهم يضربونني طوال الطريق، لأقابل بعاصفةٍ جديدة من الشتم والتجريح والسخرية، وكلامٍ لا تتصور عقولكم مدى فظاعته ودناءته.

بقيتُ محتجزةً لساعاتٍ وسط هذه الضوضاء قبل بدء التحقيق، طلبتُ منهم أن أصلي الظهر فنلتُ قسطاً وافراً من السخرية والشتائم قبل أن تمر ساعتين من الزمن فيسمحوا لي بالصلاة في ركنٍ ضيّق.

اتجهتُ للقبلة فوجدتُ علم الكيان منصوباً بالزاوية، نظرتُ للضابط وأنا أطلب منه مكاناً آخر للصلاة وحين رفض، صلّيت عكس القبلة جاعلةً علمهم المشؤوم خلف ظهري، وبدأت بالصلاة أصلي بلا توقف.

لم تعجب المحقق قبلتي الجديدة، فبدأ يقول وأنا في الصلاة "مش عاجبها علم إسرائيل؟ طيب هي وين عايشة؟ مش بإسرائيل" واستمرّ يرمي كلاماً مشحوناً بالاستفزاز حتى فرغت من صلاتي والتفتّ إليه وأنا أقول: "أنا عايشة ببلدي، بفلسطين"

استمرّ بمحاولات استفزازي وهو يستنكر أنني لم أصلي أمام العلم ويدّعي أنني آخذ الخدمات من دولتهم لذا عليّ تقبل فكرة الصلاة أمام علمهم، علماً أنهم قطعوا عني وعن أبنائي خدمات التأمين الصحي، وأنا أسد عليه كل منفذٍ وأردّ له الكلمة بأقوى منها.

وبدأ باتهامي بالتخريب وإثارة الشغب في حين أنزل الله عليّ صبراً وقوة وألهمني ردوداً على اتهاماته تسدّ عليه الطريق الأعوج الذي يحاول المرور به لتجريمي، اتهمني أنني أقود مسيرةً غير مرخصة، فأشرت للفيديو الذي أمامه وأنا أقول: "أعداد النساء كما تراها لا تتجاوز الخمسة عشر ، وأي مسيرة بهذا العدد لا تحتاج ترخيصاً" فسكت .

ثم أشار للافتات الملونة التي ترفعها النساء وهو يسألني عنها، حدقت بالفيديو فوجدته مصوراً أمام محلٍ يبيع الملابس، وتترتب الستر الملونة على مدخل المحل بنفس ألوان اللافتات التي نرفعها، فأجبته: هاد "بلايز" ملونة اشتريناها من المحل ورافعينها مبسوطين فيها، نظر إلي باستهجان وهو يقول: هاي بلايز؟ فأجبته أن هذا ما أراه وأن نظري لا يساعدني لأرى شيئاً آخر .

انتهى التحقيق، ولكنّ كيدهم لم ينتهي!
أصبحوا يفتّشون لنا عن ثغراتٍ أخرى يجرّموننا بها ويحاكموننا عليها، حتى جاء يومٌ من الأيام التي اجتمعنا فيها كعادتنا باب حطة في حضور الأم الحنون "سحر النتشة" التي اعتادت على إعداد الشاي الساخن والمشروبات الدافئة للنساء في هذا الطقس البارد.

اقتربت مني وهي تطلب مني الابتعاد، وتوصيني بالحذر لأن نظرات جنود الاحتلال المتربصة لم تكن تريح أياً منّا، ومع إلحاحها ابتعدتُ فعلاً، وبقيتُ أراقب الوضع من بعيد حيث أراهم ولا يرونني.

وما هي إلا لحظاتٍ حتى اقتربت مجموعة من الجنود المدججين بالسلاح، وقاموا باعتقالها واقتيادها لمركز التحقيق في وسط صدمةٍ بالغة عظيمة أصبتُ بها، هل كانت تتوقع أنها هي المعنيّةُ بتربصهم وهي ترجوني أن أبتعد؟ هل ابتعدتُ لأتركها تعتقل وأنا لستُ بقربها ولا أستطيع حتى أن أهمس لها بكلمةٍ تثبتها؟ كان موقفاً عصيباً فعلاً حتى أنني تمنيتُ ألف مرةٍ لو كنتُ مكانها!

ثم عرفتُ أنها معتقلة على خلفية منشوراتها على الفيسبوك، وأصررتُ أن أكون قربها في محكمتها التي ستعقد في اليوم التالي، ولكنني لم أستطع الدخول لأن الاحتلال يمنع دخول أحدٍ لقاعة المحكمة سوى الأقارب من الدرجة الأولى، تم تمديد اعتقالها، وعدتُ للبيت وقلبي يعتصرُ ألماً ويدعو لها بالصبر والثبات.

وصلتني رسالة في صباح يومٍ تالٍ لهذا اليوم من ابنتها تخبرني أن الجنود هاجموا المنزل وعاثوا فيه فساداً، وتذكرني بمحاكمة أمها التي ستعقد بعد ساعات.

انطلقتُ للمحكمة وتحايلت عليهم بشتى الوسائل، وراوغت أشد المراوغة حتى أستطيع الوصول للقاعة التي تحوي عرفة المحاكمة، واستأذنتُ بناتها بالسماح لي بحضور المحاكمة فلم يعترضن.

وما هي إلا لحظاتٌ وأنا أجهز نفسي لدخول القاعة حتى حاصرني مجموعةٌ من مخابرات الاحتلال وبخبروني "أنتِ موقوفة"، حاولتُ المراوغة ولكنهم اقتادوني جراً لمركز التحقيق الذي يبعد عن قاعة المحكمة مسيرة ثلاث دقائق، وما انفكوا يضربوني ويشتموني بأبشع الشتائم طوال الطريق.

يتبع....