جولة في قافية الحياة
أحمد بن عبد المحسن العساف
- التصنيفات: التصنيف العام - الشعر والأدب -
كنت في زيارة خاطفة لمكتبة شهيرة، فوقعت عيني على نسخة أخيرة من كتاب يحكي سيرة ذاتية، فقلبته حتى وقعت عيني على واقعة مهمة، واشتريته لجمال أسلوبه، وأهمية صاحب السيرة، ولهذه الواقعة المهمة، وقرأته في الحل والحرم، وأنهيته في موسم شريف، ومكان مبارك، ومع صحبة ميمونة.
عنوان الكتاب: قافية الحياة: سيرة ذاتية، تأليف الأديب الكبير عبد الله بن إدريس، صدرت طبعته الأولى عام 1434=2013م، ويقع في (374) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من مقدمة، وتعريف بالمؤلف، ثم عشرة أقسام، وعلى غلاف الكتاب صورة وقورة للمؤلف جمع الله له الأجر والمعافاة.
كتب نجل المؤلف إدريس العبد الله مقدمة السيرة بتكليف من أشقائه، وجعل عنوان مقدمته معبراً: عبد الله بن إدريس فيما لم تروه، ومن أقرب للوالد من أبنائه وأهل بيته؟! ولذا أشار الأستاذ إدريس إلى شيء من خصال والده وأخلاقه، ولا ينبئك مثل خبير، مع براءة الابن من طغيان الإعجاب بأبيه؛ حيث أنه شخصية عامة معروفة، وبالتالي فمن المنطقي أن من عرفه يعرف بعض هذه الخصال.
فهو أب عطوف رؤوف، يتصاغر لبنيه في طفولتهم، ويحرص على إمتاعهم ومؤانستهم، ومن سماته البارزة العدل مع الأبناء؛ فلا يخص أحدهم بأعطية دون الباقين ولو كانت سراً وأيَّا كان المسوغ. كما أنه يمتاز بالنزاهة المالية في مناصبه الحكومية، والتورع الديني، هذا التورع الذي جعله مثاراً لمزاح رفقاء سفره وتعليقاتهم الساخرة، وما أجمل الورع مهما كان رأي الآخرين فيه.
وهو رفيق دونما ضعف، محافظ بغير صلف، متفتح بيد أنه بعيد عن التهاون والتفريط، وكان لا يتدخل في خيارات أولاده، ويحرص على غرس المودة بينهم، ولذلك فأولاده أشقاء وأصدقاء-أدام الله ودادهم وصفوهم- وقد امتن الله عليه بزوجة كريمة موافقة؛ أعانته على تأدية رسالته الخاصة والعامة، ولم تكن من المتذمرات جلابات النكد، كتب الله أجر هذه الزوجة المنيرة الفاضلة.
عنوان القسم الأول: النشأة والمشوار الدراسي، حيث ولد المؤلف في حرمة بسدير عام 1347-وهي ذاتها سنة السبلة-، وهو السادس بين إخوانه، وحظي بدعاء من أمه قبل أن تحمل به، وملخص دعوتها أن يرزقها الله ولداً يكون له صيت بين الناس. وحين كبر قليلاً دخل الكتّاب والمدرسة، ثم أتم حفظ القرآن، وكان يقرأ بعض المواعظ على جماعة المسجد بين العشاءين، ولجديته في التعليم طلب شيخ حرمه عثمان بن سليمان من والد عبد الله تفريغه للعلم والدراسة، وألا يشغله بالفلاحة وعمل المزارع.
ولم ينس المؤلف بلدته حين انتقل للرياض بعد سنوات، بل كان سبباً في افتتاح مدرسة حكومية فيها، ومعيناً في إنشاء مكتبة عامة حافلة بالكتب المنتقاة بعناية من مصر، وناشطاً في إحياء ناد أدبي في حرمة يعتني بالمواهب الشابة، ويبرزها، ويعينها على الإبداع، وما أعظم بركة من ينفع موطنه، وأهل بلدته.
ومع أن والده توفي عام 1361 إلا أن المؤلف لايزال يشعر بألم الوفاة والفراق، حيث أنه كان مع والده في بلدة من ضواحي الرياض، ثم عاد لحرمة ليشارك أهله فرحة عيد الأضحى، وخلال هذه الفترة مات والده وحيداً مما جعل ألم الحادثة شديداً على قلب صاحبنا، وكلما سلك طريق القصيم للتنقل بين الرياض وسدير ذهاباً وإياباً سلم على والده إيماءً باليد، ودعاءً باللسان، وحزناً في الجنان، وأظن أن أولاده البررة سيكررون ذات الفعل مع جدهم كلما عبروا هذا الطريق.
وبعد وفاة والده بثلاث سنوات، استأذن المؤلف والدته وإخوانه للتفرغ لطلب العلم، والسفر إلى الرياض للدراسة على يد عالمها الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وهو ما كان بعد أن أمضى فترة في حلقة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم، وكان عدد الدارسين في حلقات الشيخ محمد مئة وخمسون طالباً، تؤمن لهم الكتب، والسكن للقادمين من خارج الرياض-يسمونهم (جُنّب) أي ليسوا من أهل الرياض-، وكان لطلاب السكن سهرات ومسامرات، وما أطيب السمر بفوائد ليس منها محرم أو خادش.
وفي عام 1368، وبعد أن قضى عدة أعوام في الدراسة على يد مفتي الديار، عين ابن إدريس معلماً بعد أن أبدى اعتذاراً صلباً عن العمل في القضاء، ومكث في التدريس أقل من سنتين ليلتحق بعدها في المعهد العلمي عام 1370، وبعد المعهد درس في كلية العلوم الشرعية حديثة الافتتاح-الشريعة لاحقاً-، ثم زاد معارفه بنهم من خلال الكتب والمجلات المتوافرة، وزيارة مكتبة الأمير مساعد بن عبد الرحمن التي كانت مفتوحة للعامة، وتحوي كتباً كثيرة، وهذه من فضائل مساعد الذي تولى وزارة المالية في حقبة لاحقة، وفي هذه الفترة كان للأمير عبد الله بن عبدالرحمن مكتبة عامرة كما قرأت في كتب أخرى، وربما أنها لم تكن متاحة للناس كما فعل أخوه.
ودرس في المعهد والكلية على يد علماء أجلاء، ومعلمين متبحرين، من أمثال المشايخ الشنقيطي، وابن باز، وعبد الرزاق عفيفي، وحمد الجاسر، وغيرهم. ومن طرائف هذه المرحلة نشوب معركة كلامية بين طالب ومعلم مصري، حيث تفاخر الطالب بقصور الناصرية التي لا مثيل لها في مصر، وكان رد الأستاذ: حمامات قصر عابدين أحسن من ناصريتكم! ومن زملاء الدراسة أسماء بارزة كالمشايخ راشد بن خنين وحمود العقلا وزيد الفياض ومحمد الأشقر، وعبد الله بن غديان، وغيرهم.
وبسبب زيارة نهرو للرياض عام 1374 فصل الشيخ حمد الجاسر من رئاسة نادي المعهد والكليات لأنه كتب مقالة ترحيبية عنوانها: مرحباً برسول السلام! وأسندت رئاسته للمؤلف، وبسبب موقف فيه شد وتصادم مع الأستاذ الأديب عبد الله بن خميس عام 1376، فصل ابن إدريس من الكلية لأنه أتهم بتزعم إضراب ومظاهرة طلابية! وكتب المؤلف قصيدة عنوانها في زورقي، وكان الملك سعود يتابع الحدث وهو في زيارة رسمية لإيطاليا، وبعد الفصل التحق المؤلف بوظيفة في وزارة المعارف، بيد أن قرار فصله ألغي حين أيقن الشيخ ابن إبراهيم أنه قرار خاطئ، وما أكبر الرجل حين يرجع عن خطأه ويصلح نتائجه.
المشوار الوظيفي هو عنوان القسم الثاني، وتحدث فيه عن عمله مفتشاً فنياً على المعاهد العلمية بعد تخرجه من كلية الشريعة عام 1376، وتمكن بواسطة التفتيش من زيارة عدة مناطق من المملكة، والتعرف إلى رجالاتها، فالتقى بالعبودي، وشيبة الحمد، وابن سبيل، والقرعاوي، والحكمي.
ومن طرائف الرحلات أن الشيخ القرعاوي استقبلهم بسيارته الونيت، واشترى ظبياً من رجل عابر ليكون عشاءً لهم، لكنهم تمنعوا، فنزل الشيخ على رغبتهم المتصنعة، ولم يجادلهم حفاظاً على وقته ووقتهم، وبذلك خسروا طعم الظبي وإن ظفروا بحلاوة الموز الصغير. وقد لفتت نظر أديبنا الألفاظ المتنوعة في منطقة جازان، والتي يعد بعضها محرجاً في نجد لاتفاق اللفظ واختلاف المعنى، كما نأى بنفسه عن الاقتران بزوجة أخرى، وقلَّ أن تجد رجلاً لا يرغب في أخرى، وقليل منهم فاعله، ولا يعدم المرء عذراً جميلاً يحتمي به، وكم في النفس من حاجات لا تنقصها الفطنة بل الإقدام!
وذكر الأديب ابن إدريس كيف حصل على بيت بعد مشقة وجهد جهيد، وإن قضية السكن لمؤرقة للشباب قبل الزواج وبعده، ولذلك فلا مناص من حلول عاجلة حاسمة لها، فإذا تزوج الشاب، وعمل، وسكن، زادت علاقته بالمكان وأهله، وقل منه النفور والصدود، ولم يجد أحد عليه مدخلاً ليستثير غضبه.
ثم تحدث عن فكرة المجلس الأعلى لرعاية العلوم والفنون والآداب، وكيف وئدت الفكرة قبل أن تظهر للعيان، وكان المتهم بالوأد الوزير الخويطر، ولكنه بريء من ذلك. ثم تحدث أديبنا عن تنقلاته الوظيفية حتى عاد إلى جامعة الإمام التي تولى إدارتها بلديه الشيخ د. عبد الله التركي، وفي الجامعة تعاون مع مديرها لإقامة احتفالية ثقافية إسلامية كبرى بمناسبة قرب القرن الهجري الجديد، بيد أن الاحتفال أجهض بعد أن مضوا فيه أشواطاً، ولم يذكر ابن إدريس من قضى على هذه الأفكار!
القسم الثالث عنوانه: المشوار الصحفي، وهو مشوار مشرف جداً، فعمل الرجل في إنشاء مؤسسة الدعوة، وتحريرها بإبداع مما يذكر له، ومقالاته وأشعاره ليس فيها إلا جميل اللفظ، وسامي المعنى، حتى لو خالفه أحد في رأي، وهي منّة من الله على المثقف حين يهب انتاجه الحياة الطويلة، مع المهابة والكرامة، وقليل من معشر الكتاب من تجتمع له.
وكان من أهدافه حين قبل العمل في مؤسسة الدعوة نفي الانتماء للناصرية عن نفسه، والتبرؤ من تهمة معاداة الدولة، وما ابتلي المثقفون بشيء أكثر من هذه التهم التي تكال لهم جزافاً من كتبة التقارير المغرضة أو العمياء، فضلاً عما يفوه به المرتزقة والطبول البشرية، وأعان الله مثقفي آل إدريس على ما لقوه وما يلقونه من أذى المتسلقين، حتى همَّ كاتب جميل من نسل المؤلف أن يكسر قلمه! فيا لله والعقلاء من يوقف هذا البلاء؟!
وصدر العدد الأول من الدعوة في العاشر من المحرم عام 1385، وكتب الملك فيصل كلمة مختصرة لها نشرت في مفتتح العدد الثالث، مما جعل الدعوة وابن إدريس محل الغيرة من زملاء المهنة ولا يلامون. وكانت المجلة متنوعة عصرية من منطلقات إسلامية، ويبدو أنها ولدت شبه مكتملة، ولذا لم يدم شبابها ونضوجها! وكان يعمل فيها أحد عشر رجلاً يجتمعون في غرفة واحدة، وممن عمل مع الدعوة في بداياتها الإعلامي سليمان العيسى الذي اختص فيما بعد بتلاوة الأوامر الملكية، والكاتبان عبد الرحمن السماري، وخيرية السقاف.
كما حظيت الدعوة بثناء خاص من أول وزير للإعلام وهو الشيخ جميل الحجيلان، وكان الثناء خلال اجتماعه برؤساء التحرير، مما أحفظ بعضهم، وظل يطارد الوزير إلى مكتبه محتجاً على هذا الإطراء، والعزاء لقراء صحيفة هذه طريقة تفكير رئيس تحريرها! ولابن إدريس مواقف خلال عمله الإعلامي مع مسؤولين في الإعلام، والديوان الملكي، ومع الملك حسين في الأردن، وخبرها مفصل في الكتاب.
بيد أن أطرف موقف كان من طبخة نشرتها المجلة، وقالت المعلمة الطباخة في نهاية الوصفة: ثم صبي على الطبق قليلاً من الكونياك! ولأن المؤلف معافى من المسكرات، وهو أقرب للتراث منه لغيره كغالب القراء، فقد ظن بعد أن عرف هذه الورطة أن الواقعة ستمر خاصة أنه كان مجازاً وقتها، لكن الأمر تعاظم حتى بلغ مجلس الوزراء، الذي قرر معاقبة رئيس التحرير بدفع غرامة قدرها ألف ريال، ثم رفعت عنه لما اتضح أنه كان مسافراً حينها.
وكان للدعوة صولات في حرب اليمن، ومآسي المسلمين، وساهمت في إقصاء مسؤول كويتي عن منصبه في وزارة الإعلام؛ لأنه أذاع أغنية تعبث بآيات من القرآن العزيز. هذا، فضلاً عن إثارة قضايا المرأة، تلك القضايا التي كان يجب حمل أمانة الحديث عنها، وعدم تركها لأصحاب الانحرافات الفكرية أو السلوكية، وهو مالم يكن مع عظيم الأسف.
ثم انتقل ابن إدريس إلى القسم الرابع بعنوان: كتابي" شعراء نجد المعاصرون"، ولكل كاتب إنتاج قريب إلى نفسه، ولعل هذا الكتاب قد ساهم في التعريف بالمؤلف في بلدان عدة، وكان جسراً بينه وبين أدباء ومثقفين في أنحاء متفرقة من العالم، وهو مما يحمد للمؤلف حين نهض لهذا العمل المغفول عنه، وشرع فيه منذ عام 1378، واستبعد منه أشعار المدح والهجاء؛ وحسناً فعل.
وصرم الأديب عامين في الجمع والدراسة، وحين فرغ منه زار أمير الرياض حينذاك-الملك سلمان- وطلب منه الكتابة للملك سعود؛ لتحمل تكلفة طباعة الكتاب، فوافق الملك سعود بشرط فحص الكتاب، وهو مالم يعجب المؤلف؛ لأن قلم الرقيب أحد من شفرة الحلاق، وقرر طباعته على حسابه الخاص، والكتب-طباعة وشراء- ترهق المثقفين مالياً؛ خاصة الشرفاء منهم.
وطبع من الكتاب خمسة آلاف نسخة، ووزع في مصر والمغرب العربي والشام، واشترى الديوان الملكي وجامعة الملك سعود مئات النسخ منه، وأهدى المؤلف نسخاً منه لكبار مثقفي العربية وكتابها كشاكر والعقاد والزيات والزركلي ومندور وطه حسين، ومحمود حسن إسماعيل، ولأحمد سعيد الإعلامي المعادي للمملكة فيما بعد، وكتب بعض هؤلاء عن هذا الكتاب، الذي صادف تلهفاً في نفوس القراء نحو الأدب النجدي المشهور قديماً بشعراء فحول، ومفاتن خلدتها القوافي، كما كتبت عنه بنت الشاطئ، ونازك الملائكة، ومجلة الجندي، وغيرها، وحظي بثناء العقاد، وأمين عام الجامعة العربية، ووزير المواصلات السعودي حينذاك.
رئاستي للنادي الأدبي بالرياض هو عنوان القسم الخامس، وأهم معلومة فيه هي أن فكرة إحياء سوق عكاظ طرحها الأمير فيصل بن فهد عام 1395 على مجموعة من الأدباء والمثقفين، الذين أبدوا تخوفهم من الإجهاز على الفكرة لحساسيتها حينذاك، ويبدو أن الفكرة تأجلت ولم تمت، حيث أحيي سوق عكاظ بعد ثلاثين عاماً تقريباً من ذلك الاجتماع، وليست المشكلة في السوق بقدر ما هي في محتواه وطريقة إدارته التي لا تختلف عن جل الأنشطة الثقافية والإعلامية التي تعاني من إقصاء فاقع، ومكارثية مخجلة.
وبدلاً من عكاظ اقترح الأستاذ عزيز ضياء إنشاء أندية أدبية، فوافق الأمير من فوره، ورأى أن يتقدم أديبان من كل منطقة على أن يكونا الأكبر سنّاً، وبذلك تكونت ستة أندية خلال وقت واحد في الرياض، ومكة، والمدينة، وجدة، والطائف، وجازان، وكان الجاسر وابن خميس هما من قدما طلباً لافتتاح نادي الرياض الأدبي، وتولى ابن خميس رئاسته، فعبد الرحمن بن عقيل، ثم آلت الرئاسة للمؤلف في منتصف رجب عام 1401.
ونهض ابن إدريس بالنادي على ضعف موارده المالية، وسعى لتوسيع مقره حتى حصل على أرض كبيرة في شمال الرياض، وأقام أمسية نادرة حاشدة جمعت بين الشعر الفصيح (عبد الرحمن العشماوي)، والشعر الشعبي (خالد الفيصل). وسبق غيره في عقد أمسيات دعيت إليها النساء بعد تجهيز مكان خاص لهن، وأقام النادي فعاليات متعددة مع الحرص على ثقافة البلد، وليت أن الأندية الأدبية تبدع دون أن تبعد عن العرف الذي لا يضيع بين الله والناس.
عصا التسيار عنوان معبر للقسم السادس، وفيه تحدث المؤلف عن أسفاره، وإذا كان البعض ينظر للسفر على أنه متعة وترفيه، فهو عند المثقفين كذلك مع غنيمة المعارف واللقيا، وزيارة المكتبات والمتاحف، والآثار والأماكن الشعبية. وقد سرد ابن إدريس رحلاته منذ أن خرج من حرمة للرياض مروراً بالحج وأعظم بها من رحلة تستطعم ولا تنسى مهما صاحبها من مشاق، ثم زيارته لمصر التي كانت أحاديث الناس عنها حينذاك أشبه بالخيال، وواهاً لمصر وما حل بها من بعد يوليو البعيد أو القريب.وتحدث عن زيارته للبنان والشام، والجزائر والعراق والمغرب، وبريطانيا وإيران، وأمريكا وفرنسا، حتى عاد مرة
أخرى إلى عرار نجد، وبراري حرمة، وربيع مرابعه الأولى وفياضها. وفي بعض هذه الرحلات رافقه ابن عمه وابن شقيق زوجته الأستاذ المهذب عبد الله بن زامل الدريس الذي أصبح بحكم القرب والرفقة صديقاً للعائلة، علما أن أبا نايف من الكفاءات الوطنية المرموقة، وتولى وكالة وزارة الصحة للمختبرات، واختير عضواً في مجلس الشورى، وتفرغ أخيراً، ولعلنا أن نرى له سيرة ذاتية قريبة.
ومن طرائف رحلاته أنه أضطر لصوم رمضان مرتين خارج البلاد، وفي يوم رمضاني خارج البلاد، التهم الأيسكريم وهو صائم ناسياً، وزار تنزانيا عام 1399 بأمر من الملك فيصل كما قال -مع أنه في عهد الملك خالد- لتفقد أحوال المسلمين، وقد أعجب بطبيعتها الخلابة، وحماه الله من أكلة البشر وإن كان دليله واحداً منهم! وتفطن شاعرنا إلى حيلة مسؤول عراقي إبان حضوره مهرجان المربد، فلم يقع في حبال الساسة أو شراك المخابرات، وأخلق بذي الثقافة ألا يكون درويشاً أو جسراً، وألا يمنح ثقته وتزكيته بسهولة ولكل طالب.
الفصل السابع يحمل عنواناً من كلمة واحدة هي الأزمنة، وفيها أسهب في ذكريات العيد، والأضاحي، وموسم التمر، وموسم الجراد، ونفحات رمضان، وصلاة القيام، وملابس الأعياد، والأكلات الجماعية، وفيها ذكريات آسرة من أيام الزمن الجميل، ومواقف طريفة ومخيفة كما في نجاته من الذئاب بعد أن كاد الحمار يذهب به إليها غنيمة باردة، بيد أن الطفل حينذاك كان أحكم من أن يقوده حمار نحو وادٍ غاص بالسباع المفترسة!
وخصص ثامن الفصول للوفاء عن هؤلاء والذاكرة، وبدأ بأمه ولا غرو فهي أحق الناس بحسن الصحبة، وسرد بعض مواقفه مع والدته التي كانت حليمة تجاهه وتجاه جرأته، ثم وقف عند ذكريات أبيه الذي كان محتسباً وراقياً وطالب علم وإماماً، ثم تحدث عن لقائه الوحيد بالملك عبد العزيز وهو دون العشرين من عمره، وكان لقاء مهيباً، ثم روى ذكريات كثيرة مع الملك فيصل، وصحبته في السفر والمؤتمرات، وتلطف الفيصل مع الإعلاميين.
ومن المواقف النادرة أنه دعي لإلقاء قصيدة أمام الملك فيصل بمناسبة احتفال أهل الرياض بمبايعته، وحين اقترب من مقدم الحفل تفاجأ بقيام رجل آخر معه يحمل نفس اسمه ليلقي القصيدة، وعبثاً حاول صاحبنا إقناعه بأنه هو المقصود، وبعد فضل الله، ثم بحكمة الشاعرين المتشابهين اسماً، مع تعاون مقدم الحفل، ألقى المؤلف قصيدته المرتبة مسبقاً، وألقى الرجل الثاني قصيدته، وأتصور أن هذا الموقف لو حدث مثله الآن لكانت عواقبه وخيمة.
كما تناول المؤلف علاقته بالملك فهد، والملك عبد الله الذي كرمه في الجنادرية ومنحه وساماً عالياً، والشيخ حمد الجاسر، ورفيق الحريري، وقسطنطين زريق، والشيخ صالح الحصين، وعبد الله القصيمي الذي قاطعه المؤلف بسبب أفكاره الجانحة، وذكر أنه كان يستمع للقرآن في ختام حياته، وعبد الله العثيمين، وعبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وعبد الكريم الجهيمان، وبهجة الأثري وليس (بهجت)، ثم ذكر بعض رفقاء دربه من غير المشهورين، وهذا من الوفاء النبيل.
وجعل الخاتمة بعنوان عندما تضاءلت نفسي، وروى فيه مفاجأة أسرته آل إدريس له بالتكريم مكذبين المثلين المشهورين: زامر الحي لا يطرب، وأزهد الناس في عالم أهله، ومتجاوزين عقدة الاحتفاء بالنابهين ولكن بعد رحيلهم-أمد الله عمر الشيخ على عافية وطاعة-، وكان الاحتفاء برعاية الملك سلمان حين كان أميراً للرياض، وبحضور نائبه الأمير سطام رحمة الله على الأموات المذكورين، وحفظ الأحياء على خير.
وفي نهاية الخاتمة وضع أبياتاً من قصيدته الشهيرة الموجهة لزوجه الفاضلة بعنوان: أأرحل قبلك أم ترحلين، وإذا كان الشيخ عبد الرحمن السعدي قد كتب تفسيره للقرآن، ورفع بذلك عن أهل نجد تهمة إهمال علم التفسير، فإن الشيخ عبد الله بن إدريس قد قضى بهذه القصيدة على فرية خلو الرجل النجدي من الرومانسية والعشق، وذلك من خلال الشعر الذي أبدع النجديون القدماء به تغزلاً وعشقاً.
وآخر عنوان لوريقات مختصرة جداً وفيها لباب بعنوان حصاد التجربة، فمن حصادها مركزية الإيمان وأهميته في حياة الإنسان، وأهمية النظر للدار الآخرة باعتبارها الباقية، وأن منجزات الإنسان وأعماله أهم من عدد سنوات عمره، ولا يبقى من الحياة إلا العمل الطيب. ثم ينصح المرء بأن يعيش لحظته، ويبتعد عن الحسد الذي يحرق قلب صاحبه.
وقد خلت السيرة من أي صور تذكارية، وفي مواضع منها أغلاط طباعية لعلها تصحح في الطبعات القادمة، وفيها خطأ نحوي واحد يستكثر مثله على أديبنا الكبير، وكنت أتمنى لو أسهب في سرد خبراته التربوية التي نجم عنها ثمار يانعة، ولو أنه ذكر لنا رؤاه في الحياة الاجتماعية والعلاقة الزوجية، كما أن الثقافة المحلية تنتظر منه نظرة متوازنة لواقعنا الإعلامي والثقافي وهو الخبير المجرب.
وآمل أن تدرك هذه المقترحات مع غيرها إذا أمكن، فما أحوج البلاد إلى آراء ناضجة صادقة من كبارها الذين لا يشك أحد في صدق نصحهم وعمق تجربتهم، وليت أن كل من يدون سيرته الذاتية، أن يعرج على جوانب من الرأي، ولا يكتفي برواية التاريخ مع أهميته، فمع الرواية ما أحوجنا إلى الدراية البصيرة.