نعم المصلى (11) مجتمع مثالي في بيت المقدس
أيمن الشعبان
بعد هجرة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام وزوجه سارة إلى فلسطين، بدأ حياة جديدة لدعوة الناس إلى التوحيد لتكوين مجتمع مثالي صالح قائم على أساس العبودية لله سبحانه وتعالى، في تلك الأرض المباركة.
- التصنيفات: التصنيف العام - قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
فهذه سلسلة حلقات مختصرة للتعريف بمكانة " المسجد الأقصى" من خلال القرآن والسنة الصحيحة، وارتباطه العقدي الإيماني التاريخي، بالوحي ورسالة التوحيد ودعوة الأنبياء، وإحياء تلك الحقائق في نفوس المسلمين، سميتها " نِعمَ المُصَلَّى " أسوة بحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، الذي أطلق عليه هذه التسمية الجميلة.
الحلقات ستكون بطرح سؤال في كل حلقة، ثم نجيب عليه لتكون أرسخ وأثبت وأحفظ وأوعى، من حيث المعلومة والفهم وديمومة الأُثر.
س11/ ما طبيعة المجتمع الذي أسسه إبراهيم عليه السلام في فلسطين؟
من خلال الإجابة على هذا السؤال، سيتضح لدينا طبيعة المجتمع الذي اهتم الأنبياء على تثبيته وتحقيقه في تلك الأرض المباركة، وهذا يعكس الأهمية العقدية الدينية والعناية الربانية، لهذا المجتمع لديمومة القداسة والبركة التي ارتضاها الله عز وجل لتلك البقعة.
بعد هجرة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام وزوجه سارة إلى فلسطين، بدأ حياة جديدة لدعوة الناس إلى التوحيد لتكوين مجتمع مثالي صالح قائم على أساس العبودية لله سبحانه وتعالى، في تلك الأرض المباركة.
قال سبحانه عن إبراهيم {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[1]، والمعنى: إني مهاجر عن دار قومي إلى حيث أعبد ربي إنه هو العزيز الحكيم[2]، بذلك يكون إبراهيم عليه السلام قد حدد الهدف من وجوده في فلسطين.
إبراهيم عليه السلام تقدم به العمر وليس له ذرية، وهو حريص على استمرارية وديمومة تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى في تلك الأرض، فدعا ربه عز وجل بأن يهب له من الصالحين ليكونوا نواة ذلك المجتمع الموحد.
قال تعالى {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}[3]، فلم يأت بعده نبي إلا من ذريته، ولا نزل كتاب إلا على ذريته، حتى ختموا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.
وهذا من أعظم المناقب والمفاخر، أن تكون مواد الهداية والرحمة والسعادة والفلاح في ذريَّته، وعلى أيديهم اهتدى المهتدون، وآمن المؤمنون، وصلح الصالحون.[4]
جمع الله في بيت المقدس لإبراهيم عليه السلام خيري الدنيا والآخرة، فرزقه المرأة الصالحة فائقة الجمال هي سارة، والرزق الواسع، والذرية الصالحة، وهذه جماع الخير والسعادة في الدنيا.
هنالك رابط كبير وعلاقة متينة بين مكة وبيت المقدس في عهد إبراهيم، تشير لأهمية البقعتين وقداسة المكانين، إذ كان إبراهيم يتنقل بين مكة وبيت المقدس بعد أن ترك هاجر وإسماعيل في مكة، وسارة في فلسطين.
من خصائص وصفات المجتمع المثالي الذي أسسه إبراهيم عليه السلام في بيت المقدس، قال تعالى {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ}[5]، أي تكرما وزيادة وتفضلا ومنة، بعد إسماعيل عليه السلام، جعل إبراهيم وولديه صالحين.
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى أسس وعناصر وقواعد بناء المجتمع القوي المتماسك الذي يطمح للثبات والديمومة وتحقيق العبودية، قال سبحانه {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[6].
حققوا الصلاح في المجتمع المقدسي بأنفسهم، وكانوا قدوات لغيرهم، بذلك جمعوا في تلك الأرض المباركة بين العلم والعمل.. التنظير والتطبيق.. التعليم والقدوة العملية، وربط الناس بالله سبحانه وتعالى لا بأفراد أو جماعات أو أحزاب.
{وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ} أي وأنزلنا عليهم أن يفعلوا الخيرات وهي الأعمال الصالحات من فعل الطاعات وترك المحرّمات. وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة، وذلك من أعظم النعم على الأب إبراهيم عليه السلام.[7]
المجتمع المثالي في الأرض المباركة، قائم على: الصلاح والإصلاح، والقدوات الحسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهداية الناس لأقوم السبل وأوضح الطرق، والمسارعة بفعل الخيرات، وتحقيق أعلى درجات العبودية لله سبحانه، من خلال أداء حقه الأعظم ركن الصلاة، وحقوق الناس ركن الزكاة.
وصف الله سبحانه وتعالى تلك الصفوة من الأنبياء في بيت المقدس بصفات مهمة، ليبين لنا أن هذه الخصائص متى ما تحققت تحققت العبودية لله سبحانه تعالى على وجه الأرض عموما، وفي بيت المقدس خصوصا، وربنا سبحانه يقول {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [8]، قَالَ بَعْضُهُمْ: {أَنَّ الْأَرْضَ} يعني: أرض بيت المقدس {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} وهو كذلك كان، لم يزل بها عباد اللَّه الصالحون إلى يوم القيامة.[9]
قال تعالى عن حال وأوصاف أصفياءه من الأنبياء في فلسطين {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ. إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}[10].
فحققوا العبودية لله سبحانه وتعالى التي هي أعلى المقامات، والقوة والعلم والبصيرة، فالحق الذي لا قوة تحميه يضيع، وخصهم الله بخصيصة عظيمة بأن جعل ذكرى الدار الآخرة في قلوبهم، والعمل لها صفوة وقتهم، والإخلاص والمراقبة لله وصفهم الدائم، وجعلناهم ذكرى الدار يتذكر بأحوالهم المتذكر، ويعتبر بهم المعتبر، ويذكرون بأحسن الذكر.[11]
فهنالك علاقة مطردة ينبغي أن تعيها الأمة مرتبطة بتلك الأرض المقدسة وتحقيق العبودية؛ فكلما رفعت الأمة راية العبودية لله وعملت على تحقيقها، حافظت على مقدساتها ولم تفرط بها، وأولى الأماكن التي ينبغي غرس معاني العبودية فيها تلك المقدسات، وعليه لابد من العمل الجاد لتخليصها وتحريرها من براثن الغاصبين لتحقيق مرضاة الله عز وجل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (العنكبوت:26).
[2] فتح القدير (4/230).
[3] (العنكبوت:27).
[4] تفسير السعدي ص629.
[5] (الأنبياء:72).
[6] (الأنبياء:73).
[7] التفسير المنير (17/89).
[8] (الأنبياء:105).
[9] تفسير الماتريدي (7/383).
[10] (ص:45-47).
[11] تفسير السعدي ص714.