سنن الله في التغيير المستفادة من سورة الكهف (3)

لقد جرت سنة الله في خلقه إن كانت أعداد الأمم قليلة أن ينتقم من الأمم المكذبة بعذابٍ مستأصلِ , وإن كانت الأمم كثيرة كأمة بني إسرائيل وأمة نبينا صلى الله عليه وسلم فسنة الله جارية إذاً رفع كلمة الله على الأرض بالجهاد في سبيل الله مع مدافعة أعداء الله وأعدائهم ومناجزتهم.

  • التصنيفات: التصنيف العام - قضايا إسلامية معاصرة -

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله

اعلم أن الصفات المشار إليها في المقالات السابقة لها نماذج من الأمم نهضوا بها كأمة بني إسرائيل وكأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم.إذ هاتان الأمتان هما أكثر الأمم على الإطلاق.

ولقد جرت سنة الله في خلقه إن كانت أعداد الأمم قليلة أن ينتقم من الأمم المكذبة بعذابٍ مستأصلِ , وإن كانت الأمم كثيرة كأمة بني إسرائيل وأمة نبينا صلى الله عليه وسلم فسنة الله جارية إذاً رفع كلمة الله على الأرض بالجهاد في سبيل الله مع مدافعة أعداء الله وأعدائهم ومناجزتهم.

وهذا كما ترى فيه نعمة ورحمة للمبتليين من هاتين الأمتين الكبيرتين من العذاب المستأصل.

فمن جاوز الامتحان منهما فقد فاز برضوان الله ورحمته في الدنيا والآخرة ومن أخفقت منهما كبني إسرائيل فقد لحقها عقاب من الله كما عاقب الله بني إسرائيل بالتيه مثلاً حين قعدت من قتال العمالقة فقالوا {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]

ثم كذلك ابتلى الله أمة بني إسرائيل بالصيد فصادوا فعاقب الله الذين اصطادوا والذين لم ينكروا عليهم بمسخهم قردة وخنازير كما ابتلى الله أمة محمد بالصيد في الحرم فلم يصطادوا فأجزل الله لهم الأجر والمثوبة.والنعمة في الدنيا والآخرة.
ولكن لا يعني أن أمة بني إسرائيل لم يكن لهم كلهم صفات إيجابية بل كان منهم أمة مقتصدة صالحة كما قال تعالى
{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] وقال تعالى {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [113- 114] وقال تعالى {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل {عِمران: 199]

فليس المقصودون في هذا العقاب من قبل الله بالقلة الصالحة بل بالغالبية العظمى الذين عارضوا أحكام الله والذين لم يقوموا بالتغيير الواجب كما يحبه الله ويرضاه. كما جرت سنة الله في خلقه إذا أوفع الله عقابة عِلى عِباده أن يعم الصالح والطالح.

ولكن قد تقوم القلة الصالحة بالواجب الذي تقاعست منه الغالبية فيفوزون بمعية الله وبنصره وبتأييده فينصرهم الله بما أحبوا من تغيير الباطل السائد بين الناس لينهضوا بالأمة الضعيفة المستضعفة ماديا ومعنويا.

بل مثل هذه الفئة الصالحة القليلة هي التي نهضت ببني إسرائيل بعدما تقاسعت الغالبية العظمى عن الجهاد الذي كتب عليهم.

فانطلقت الفئة القليلة لتجاهد في سبيل الله حين رسبت الغالبية العظمى من بني إسرائيل في بداية الأمر في العمل بفريضة كبيرة من فرائض الله ألا وهو الجهاد في سبيل الله فتولوا وأعرضوا إلا قليلا منهم وإن كان مع هذا الذي حصل منهم فرض الله عِليهم الجهاد في سبيل الله بناءاً على طلبهم بأن يبعث الله لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله محرضين أنفسهم أنهم أُخرجوا من ديارهم وأموالهم ولكنهم للأسف تولوا واختفوا عِن الساحة..

ثم ثانيا: ابتلى طالوت بالفئة القليلة المجاهدة بنهرٍ فشربوا منه إلا قليلاً منهم تحلَّوا بالصبر والجهاد في سبيل الله، ولكنهم لما توجهوا نحو قتال الأعداء الأشداء قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوه وإنما الذين ثبتوا في المعركة كانوا هم الفئة القليلة المجاهدة الصابرة المتيقنة بوعد الله الحق فكانوا قليلا من قليل من قليل فنصرهم الله بهذا العدد الضئيل بما كانوا بعبادة وإخلاصٍ تامٍ بإذن ربهم سبحانه وبصفات أخرى متاكملة المشار إليها في مواضع في هذا الموضوع.

وهكذا لقد أكرم الله أمة محمد بأن وصفهم الله بالخيرية لما قاموا بواجب الأمر بالمعووف والنهي عن المنكر بالجهاد في سبيل اللهكما قال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]


وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: " تأتون بهم تقادونهم بالسلاسل ثم تدخلوهم الجنة ".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الاستقامة: " وخير ما يؤمر به المعروف وينهى به عن المنكر الجهاد في سبيل الله ".

قلت: وخير دليل على ذلك سيرةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- التي عاشها في فترة مكة، فإنه لم يتجاوز المؤمنون في هذه الفترة - التي هي أطولُ من فترة مكثه بأبي هو وأمي - في المدينة مجردَ مئاتٍ.

ولَمَّا أسَّس دولتَه في المدينة وحكَم وعدل وأحسن، وجمع الفرقاء المتناحرين، وجاهد في الله حقَّ جهاده، وأعزه اللهُ ببدر، وأكرمه - تحولت الأعدادُ إلى آلاف في فترة وجيزة جدًّا، فضلاً عن السنوات التي أعقبها اللهُ بعد ذلك، فجعلهم اللهُ في أوج العزة والسيادة في جزيرة العرب، حتى وصلت أعداد المسلمين إلى عشرات الآلاف من المسلمين المجاهدين المنتصرين.

فكيف ظنك بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تربَّوا أمام ناظري خير خلق الله حينما أرادوا تغيير ما تبقى من العالم بعد ما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ناهضين بالعالم بعقيدتهم الرفيعة وبأخلاقهم السامية وبمعاملاتهم العالية الحسنة.

بل لم تمر دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف قرن هو وأصحابه - بأبي هو وأمي - حتى قضوا على أكبر دولتين في عصرهم وهما روم وفرس حضارةً وتقدماً وملكاً وسيادةً ونفوذاً في عالم عصرهم حتى سيق تيجانهم تحت أقدام خلفاء المسلمين والحمد الذي بنعمته تتم الصالحات.

والسر من وراء ذلك – بالطبع- هو الاتصاف بالصفات العظمة من اليقين والتوكل على الله والتقوى والصبر وسائر محاسن الأخلاق والعمل بالواجبات والترك عن المحرمات والزهد عن الدنيا ومحبة للدار الآخرة وجنة الرحمن ورضوانه.

بينما كانوا في تاريخهم قبل الرسالة لا يعبأ بهم العالم ولا يزنونهم بشيء بل ليس لهم ذكر يذكر بهم ويؤرخ لهم وإنما كانوا يشركون بالله كغيرهم من الناس ويأكلون الميتة والدم والخنزير ويشربون الخمور ويتزوجون المحارم ونساء آباءهم وكان تشيع فيهم الزنا والسرقة والنهب والظلم وقطع الطريق وغير ذلك.

فصار أولئك الناس بعد تخرجهم من مدرسة خير خلق الله صلى الله عليه وسلم يتورعون من أن يأكل مع أقرب أقاربهم كأب وأم وعم وعمة وخال وخالة ومع أصدقائهم فأباح الله لهم ذلك في سورة نور بعدما كانوا في سابق أمرهم ينهبون الأموال بأي طريقة تتفق لهم.

وهكذا صار دأبهم أن يتورعوا من النظر إلى الحرام ويغضوا أبصارهم وبتعففوا بعدما كان عندهم الزنا وسائر الفواحش عندهم أمرا عادياً.

إذن لما تغيَّروا تغيراَ جذرياَ استطاعوا بحول الله وقوته وبفضل الله ونعمته أن يغيروا من حولهم من العالم المتردي إلى الهاوية في عصرهم.وقد بحثت أسرار نجاحهم الباهر – بحمد الله ومنته - في بحث مستقل أسميته " الجيل المثالي وأسرار نجاحهوهكذا سينصر الله الفئة القليلة الخلص في كل زمان إلى قيام الساعة.

حدثنا سعيد بن منصور وأبو الربيع العتكي وقتيبة بن سعيد قالوا حدثنا حماد وهو ابن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك وليس في حديث قتيبة وهم كذلك» . (رواه مسلم رحمه الله) .

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .


دروس وعبر في هذه القصة:-

أولا: الفئة القليلة المتكاملة بالصفات الخيرة خير من جمع غفير لا يتحركون إلى الخير ليغيروا الواقع السيء أو إن تحركوا تجدهم ليس لهم صفات يرضى عنه الله ورسوله لينصرهم.

ثانيا: جعل الله من سنن التغير للمصلحين الجهاد في سبيل الله وهو الخير والبركة خصوصاً إذا كان موافقا للكتاب والسنة.

ثالثا: الابتلاء من سنن الله في خلقه ولا ينجح ويجاوز محنه إلا الصابرون المتيقنون لوعود الله المتقون من ربهم الواقفون على حدود الله الممتثلون لأوامر ربهم المتوكلون عليه المستعينون به والواثقون به المعتمدون عليه.

رابعا: العلم والإيمان لابد أن يقرن بهما عمل لينتج من ذلك الثمار المرجوة.

خامسا: لا بركة في الجبن بل هو خيبة وخسران عظيم ولذلك أخلف بنو إسرائيل وعودهم الأكيدة وهي إن بُعث لهم ملِكا فإنهم يقاتلون معه وأنهم يدافعون وأبناءهم وديارهم وأموالهم.

وهكذا فعل كثير من هذه الأمة في كل العصور وقد قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله كما قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77].

فالجبان الذي يبخل بنفسه وماله ويتهرب من الجهاد لينجوا من الجراحات أو القتل وليستمتع في الحياة في الحقيقة تصوره خاطئ لكون أعداءه لا يسمحون له ذلك أبدا إن لم يستسلم لهم وينبطح لهم ويعيش بحياة ذليلة تحت قهرهم وأوامرهم كما هو الواقع المشاهد في هذا العصر لمن فعل مثل ذلك.

والله أعلم.

الكاتب: أبو عبد الله عبد الفتاح المقدشي