كيفية البعث يوم القيامة

عبد الله بن صالح القصير

الإيمان بالبعث والجزاء من أعظم أصول الإيمان، فإنَّ الله تعالى يجمَع بقُدرته ما تفرَّق من أجساد الأموات التي تحلَّلتْ، ثم يعيدُها كما كانت، ثم يعيدُ الأرواح إليها، ثم يشقُّ الأرضَ عنها، ثم يسوقُها إلى المحشر؛ للقضاء بينهم بالحق وجَزائهم على أعمالهم.

  • التصنيفات: التصنيف العام - الموت وما بعده - الدار الآخرة -

تعريف البعث:

 

البعث لغةً: التحريك والإثارة والنشر والإرسال.

 

واصطلاحًا: هو إخراج الناس أحياءً من قبورهم، وإرسالهم إلى موقف الحشر؛ لحِسابهم والقَضاء بينهم وجَزائهم.

 

 حِكمته ومَنزلته:

 

يجبُ الإيمان - وهو التصديق والاعتقاد الجازم - بأنَّ الله تعالى يبعَث الناس من قُبورهم أحياءً يوم القيامة، على الصفة التي جاءَتْ بها النُّصوص؛ ليجزي المحسِن بإحسانه، والمُسِيء بعمله، أو يعفو عنه.

 

والإيمان بالبعث والجزاء من أعظم أصول الإيمان، فإنَّ الله تعالى يجمَع بقُدرته ما تفرَّق من أجساد الأموات التي تحلَّلتْ، ثم يعيدُها كما كانت، ثم يعيدُ الأرواح إليها، ثم يشقُّ الأرضَ عنها، ثم يسوقُها إلى المحشر؛ للقضاء بينهم بالحق وجَزائهم على أعمالهم.

 

 من الأدلَّة على البعث:

 

ولقد أقامَ الله تعالى الحُجَجَ والبراهين على صحَّة البعْث وتحقُّق وقوعه وأبطل شُبهات مُنكِري البعث من وُجوهٍ مُتعدِّدة:

 

فمن التنزيل الحكيم:

 

1- الإخبار بوقوعه؛ كقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [القصص: 85].

 

2- الإقسام على البعث لتأكيد وقوعِه حيث أمَر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنْ يُقسِم عليه في ثلاثة مواضع من كتابه منها: قول الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7].

 

 ومن قول الرسول الكريم:

 

قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أرادَ الله بقومٍ عَذابًا أصاب العَذاب مَن كان فيهم ثم بُعِثُوا على أعمالهم» [1]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يُبعث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه»[2].

 

 وممَّا ساقَه الله تعالى من براهين على قُدرته على بعْث الأموات بعد موتهم:

 

إحياء الأرض بالمطر بعد موتها؛ كقوله تعالى:  {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9 - 11].

 

إحياء بعض الأموات في الدنيا كإحياء قتيل بني إسرائيل بعد ضَربِه بعظمٍ من بقرةٍ أُمِرُوا بذَبحها لذلك، وإحياء الذي مرَّ على قريةٍ بعد موتها، وإحياء أهل الكهف، وإحياء الطير لإبراهيم عليه السلام وتلك الأمثلة مذكورةٌ في القُرآن.

 

أنَّ الذي ابتدأ الخلق على غير مثالٍ سبَق قادرٌ على إعادته، فإنَّ الإعادة أهوَنُ من الابتداء، والكلُّ على الله هيِّن.

 

بل إنَّ الله تعالى سرَد في سِياقٍ واحدٍ عشرةَ أدلَّةٍ على البَعث في صدر سُورة الأنبياء، فدلَّت النُّصوص على أنَّ الله تعالى يُعِيد الأجسادَ نفسها فيجمع رُفاتها المتحلِّل، ويخلقها في أماكنها في القبور أو في أيِّ مكانٍ كانت حتى تعودَ كما كانتْ، فيعيد إليها أرواحها إذا تمَّ خلقها، فسبحان مَن لا يُعجزه شيء وهو على كل شيء قدير!

 

 بيان كيفيَّة البعث:

 

وفي بَيان كيفيَّة البعث جاء حديثُ أبي هريرة رضِي الله عنه الذي أخرَجَه الشيخان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين النفختين أربعون»، قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يومًا؟ قال: أبيتُ، قال: «ثم يُنزِل الله ماءً فينبتون منه كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيءٌ إلا يَبلَى إلا عظمًا واحدًا وهو عجب الذنب ـ آخر عمود الظهر ـ ومنه يُركَّب الخلق يوم القيامة» [3].

 

 فدلَّ الحديث على كيفيَّة البعث، وأنَّ أهل القبور والموتى يبقون بعد النفخة التي فيها الصَّعقة وقبل نفخة البعث أربعين، جاء في بعض الرِّوايات أنَّها أربعون سنةً، والنفختان هما:

 

الأولى: نفخة الفزَع والصَّعق، وهي التي تكونُ بها إماتة الأحياء وخَراب هذا العالم.

 

الثانية: نفخة البعث من القبور وإرسالهم إلى موقف الحشر.

 

 فإذا أراد الله بعْث الخلائق أنزَل من السماء ماءً - جاء في بعض الروايات صفته أنَّه كمَنِيِّ الرِّجال ـ فينبت أهلُ القبور من ذلك الماء، فإذا تَمَّ خلقهم نفخ في الصُّور النفخة الثانية، فطارت أرواحُهم إلى أجسادهم، وانشقَّت الأرضُ عنهم، فخرَجُوا من قُبورهم سِراعًا: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 7، 8].

 

 فأوَّل يوم القيامة النَّفخُ في الصُّور نفخة الفزع والصَّعق، ثم نفخة البعث التي تعودُ فيها الأرواح إلى الأجساد فتحيا، ثم تُحشَر الخلائقُ إلى ربِّ العِباد، والصُّور هو القَرن الذي ينفُخ فيه إسرافيل عليه السلام [4].

 

وعن أبي سعيد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ صاحب الصور قد التقَمَ الصور وحنى جبهتَه ينتَظِر متى يُؤمَر بالنَّفخ»[5].

 

وروى أحمد في مسنده أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «النافخان في السماء الثانية فيَنظُران متى يُؤمَر في الصور فينفُخا»[6].

 

قال الحافظ: وقد اشتهر أنَّ صاحب الصور إسرافيل عليه السلام.

 

وهذا يحتمل أنَّ إسرافيل رئيسهم وله أعوان.

 

وقد جاء في صحيح مسلم عن يوم الجمعة أنَّ فيه تقومُ الساعة[7].

 

وفي سنن النسائي عن أوس بن أوسٍ الثَّقفي مرفوعًا: «إنَّ أفضل أيَّامكم يوم الجمعة فيه الصَّعقة، وفيه النَّفخة الثانية» [8].

 

 عدد مرَّات النفخ في الصور:

 

والصواب أنَّ النفخ في الصور مرتان:

 

الأولى: تبدأ بالفزَع وتنتهي بالصَّعق لجميع الخلق إلا مَن شاء الله.

 

 الثانية: نفخة البعث فتُعاد الأرواح إلى الأجساد، ويقومُ الناس لربِّ العالمين، ويدلُّ على ذلك:

 

1- قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]، وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51].

 

2- وثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما في حديثه الطويل، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم يُنفَخ في الصُّور فلا يسمعه أحدٌ إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا، ثم لا يبقَى أحدٌ إلا صُعِقَ، ثم يُنزل اللهُ مطرًا كأنَّه الطلُّ أو الظل - شكَّ الراوي - فتنبت منه أجسادُ الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيامٌ ينظُرون» [9].

 

 


[1] أخرجه مسلم برقم (2882)، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.

[2] أخرجه مسلم برقم (2878)، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

[3] أخرجه البخاري برقم (4935)، ومسلم برقم (2955)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] انظر: تفسير ابن كثير (3 /46).

[5] أخرجه الإمام أحمد (3 /7)، والترمذي برقم (2431)، (3238)، وابن ماجه برقم (4273). قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الألباني في الصحيحة رقم (1079): حسن لغيره، وصححه الأرناؤوط في تحقيق شرح السنة (15 /103).

[6] أخرجه أحمد (2 /192)، عن أبي مرية أو عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الهيثمي في المجمع (10 /330): «رواه أحمد على الشك، فإنْ كان عن أبي مرية، فهو مرسل ورجاله ثقات، وإن كان عبدالله بن عمرو فهو متصل مسند، ورجاله ثقات»، وقال المنذري في الترغيب (4 /290) رقم (5200): «رواه أحمد بإسنادٍ جيد هكذا على الشك في إرساله أو اتصاله»، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند رقم (6804): إسناده ضعيف للشك بين إرساله ووصله، وأورده الألباني في الصحيحة عند تحقيقه للحديث رقم (1080)، ولم يبيِّن حاله من حيث صحته أو ضعفه.

[7]أخرجه مسلم برقم (854) (18)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[8]أخرجه أبو داود برقم (1047)، والنسائي برقم (1373) بنحوه، وابن ماجه برقم (1085) ورقم (1636) بنحوه. وصحَّحه الألباني في الصحيحة برقم (1930)، والمشكاة رقم (1361)، والتوسل (ص63)، وصحيح الجامع برقم (3895).

[9] جزء من حديث أخرجه مسلم برقم: (2940)، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.