نعم المصلى (19) الأرض المقدسة في حياة موسى عليه السلام
أيمن الشعبان
لشدة تعلق بموسى بتلك الأرض المباركة وحبه لها، تمنى أن يدفن بأطرافها لأن من قارب الشيء أخذه حكمه، فسأل الله أن يُدْنِيَهُ مِن الأرضِ المُقَدَّسةِ رميةً بحجرٍ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكُم قبرَهُ، إلى جانبِ الطَّريقِ، عندَ الكَثيبِ الأحمَر»، وهذا إعجاز لموسى عليه السلام وكذلك معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم بمعرفة مكان قبره.
- التصنيفات: التصنيف العام - قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
فهذه سلسلة حلقات مختصرة للتعريف بمكانة " المسجد الأقصى" من خلال القرآن والسنة الصحيحة، وارتباطه العقدي الإيماني التاريخي، بالوحي ورسالة التوحيد ودعوة الأنبياء، وإحياء تلك الحقائق في نفوس المسلمين، سميتها " نِعمَ المُصَلَّى " أسوة بحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، الذي أطلق عليه هذه التسمية الجميلة.
الحلقات ستكون بطرح سؤال في كل حلقة، ثم نجيب عليه لتكون أرسخ وأثبت وأحفظ وأوعى، من حيث المعلومة والفهم وديمومة الأُثر.
س19/ ما هو ارتباط موسى عليه السلام بفلسطين؟
موسى عليه السلام أعظم أنبياء بني إسرائيل، وأفضل الخلق بعد نبينا عليه الصلاة والسلام وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وقصته أعظم قصص الأنبياء المذكورين في القرآن وأكبر من غيرها والأكثر تكرارا وتفصيلا.
تكررت قصة موسى قرابة ثلاثين مرة في أربعة وثلاثين سورة، وذكر موسى في القرآن ستا وثلاثين ومائة مرة، فكان أكثر الأنبياء ذكرا حتى قال بعضهم: كاد موسى أن يذهب بالقرآن.
ولمعرفة ارتباط موسى القوي وتعلقه المتين بالأرض المقدسة، لابد من تصور مراحل حياته المحورية منذ الولادة حتى الوفاة ويمكن تقسيمها إلى أربع مراحل:
الأولى: منذ الولادة حتى الخروج من مصر بعد قتله القبطي.
الثانية: في مدين وزواجه بابنة الرجل الصالح وعمل عنده عشر سنين.
الثالثة: عودته إلى مصر مع أهله وتكليمه وبعثته وتكليفه بالرسالة في طريق العودة بالأرض المقدسة.
الرابعة: بعد نجاتهم وإغراق فرعون وجنوده ورحلتهم باتجاه الأرض المقدسة.
بداية ارتباط موسى بالأرض المباركة فلسطين، كانت مع بداية تكليم الله له وبعثته وتكليفه بالرسالة، في طريق عودته من مدين إلى مصر، {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى . إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى . فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى . إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى . وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [1].
الوادي المقدس في البقعة المباركة من الشجرة في الأرض المقدسة فلسطين، بداية التكليم والتكليف ومعجزة العصا واليد والوحي ونبوة هارون معه، لتكون منطلقا لموسى عليه السلام في مرحلة مهمة وصعبة وشاقة، في دعوة فرعون وإقامة الحجج والبراهين عليه.
بعد سنوات من الدعوة والصبر والمجاهدة في مصر؛ خرج موسى مع بنو إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة فأتبعهم فرعون وجنوده، فحصلت معجزة انفلاق البحر فلقتين، فعبر موسى ومن معه وأغرق الله فرعون ومن معه، لتبدأ مرحلة جديدة ومهمة كان هدف موسى فيها دخول الأرض المقدسة وتحقيق العبودية فيها.
سار موسى ومن معه من بني إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة بعد خلاصهم من فرعون، وحصلت العديد من المواقف والمعجزات وتكليم موسى وإنزال التوراة، وفي كل مرة يأبى قومه إلا العناد والاستكبار والكفر وعدم الخضوع والاتزام بأوامر الله عز وجل.
وفي طريقهم مروا بصحراء قاحلة فطلبوا من موسى الماء والطعام والظل، فحصلت عدة معجزات للكليم موسى عليه السلام، خروج الماء من الحجارة، ووقايتهم من حر الشمس بتظليل السحاب لهم، وإنزال المن والسلوى.
لقي موسى من قومه ما لقي وصبر على تعنتهم وعنادهم، حتى أوحى الله إليه دخول الأرض المقدسة وأمر قومه بالجهاد في سبيل الله لفتحها، بعد أن ذكّرهم بالنعم الدينية والدنيوية، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ . يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[2].
موسى مشتاق لدخول الأرض المقدسة والتعبد فيها، لمعرفته مكانتها وفضلها، وكان فيها عمالقة جبارين وثنيين ولم يطلب منهم إلا دخول الباب وسينصرهم الله، إلا أن قومه خذلوه {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [3].
لم يكن من موسى بعد كل تلك المواقف وهذا الخذلان إلا أن يدعو عليهم لأول مرة، وهذا فيه إشارة لحزنه وأسفه من عدم دخول الأرض المقدسة، فعاقبهم الله وحرمهم منها بالتيه أربعين سنة.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [4].
مات هارون عليه السلام في التيه، وجاء ملك الموت إلى موسى بعده بثلاث سنوات ليقبض روحه، إلا أنه صكه ورجع الملك إلى ربه فأخبره بأنك يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال الله له: ارجع إليه وليضع يده على ظهر ثور وله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة، قال موسى: ثم ماذا؟ قال الملك: الملك، قال: الآن.
لكن لشدة تعلق بموسى بتلك الأرض المباركة وحبه لها، تمنى أن يدفن بأطرافها لأن من قارب الشيء أخذه حكمه، فسأل الله أن يُدْنِيَهُ مِن الأرضِ المُقَدَّسةِ رميةً بحجرٍ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكُم قبرَهُ، إلى جانبِ الطَّريقِ، عندَ الكَثيبِ الأحمَر»[5]، وهذا إعجاز لموسى عليه السلام وكذلك معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم بمعرفة مكان قبره.
بذلك تكون قصة موسى من البعثة إلى الوفاة، مرتبطة بشكل كبير بتلك الأرض المقدسة المباركة، وهذا يعكس حقيقة العلاقة وشدة الاهتمام، ولم يكن ذلك ليحصل إلا بوحي من الله ومقصد شرعي واعتقاد راسخ من كليم الله موسى عليه السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (طه:9-13).
[2] (المائدة:20-21).
[3] (المائدة:24).
[4] (المائدة:25-26).
[5] متفق عليه.