ضوابط الفتوى

إن أول ما يجب توافره في الفتوى لتكون محلًّا للاعتبار اعتمادُها على الأدلةالشرعية الصحيحة المعتبرة لدى أهل العلم، وأول هذه الأدلة كتاب الله تعالى، وثانيها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز للمفتي أن يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما، ثم الاعتمادعليهما، كما لا يجوز مخالفتهما اعتمادًا على غيرهما.

  • التصنيفات: التصنيف العام - طلب العلم -

بعدُ أن بينَّا أن الفتوى هي الإخبار عن حكم الله، وأنها توقيع عن الله، لهذاكان إطلاق القول بالحل أوالحرمة من غير ضوابطَ افتراءً على الله القائل في محكمكتابه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].

ويمكننا حصر أهم ضوابطِ الفتوى فيما يلي:

الضابط الأول: أهلية المفتي:

لما كان الإفتاء إخبارًا عن حكم الله، وكانت الفتوى توقيعًا عن الله، فلا بدَّ للمتصدر للفتوى أن تتحقق فيه الأهلية الشرعية.وقد اشترط الأصوليون لتحقق هذه الأهلية شروطًا معينة، وصفاتٍ محددةً، نجملها فيما يلي:

"أن يكون مكلفًا، مسلمًا، ثقةً، مأمونًا، متنزهًا من أسباب الفسق ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد حتىوإن كان من أهل الاجتهاد، ويكون مع ذلك متيقظًا، فقيهَ النفس، سليمَ الذهن،رصينَ الفكر، صحيحَ التصرُّف والاستنباط"[1].

وقد سئل ابن المبارك فقيل له: "متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالما بالأثر،بصيرًا بالرأي"، وقيل ليحيى بن أكثم: "متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كانبصيرًا بالرأي، بصيرًا بالأثر".[2]

أما الخصال التي يجب على المفتي الاتصاف بها، فقد أجملها الإمامُ أحمدُ بنحنبل بقوله: "لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسَه للفُتيا حتى يكونَ فيه خمسُ خصالٍ:

أولها: أن تكون له نية؛ فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور، ولا علىكلامه نور.

والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.

والثالثة: أن يكون قويًّا على ما هو فيه وعلى معرفته.

والرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس.

والخامسة: معرفة الناس".[3]

الضابط الثاني: الاعتماد على الأدلة الشرعية:

إن أول ما يجب توافره في الفتوى لتكون محلًّا للاعتبار اعتمادُها على الأدلةالشرعية الصحيحة المعتبرة لدى أهل العلم، وأول هذه الأدلة كتاب الله تعالى، وثانيها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز للمفتي أن يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما، ثم الاعتمادعليهما، كما لا يجوز مخالفتهما اعتمادًا على غيرهما،والأدلة على ذلك من كتاب الله تعالى كثيرة، منهاقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَامُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن ْيَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

وقوله أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، أي لا تقولوا حتى يقول، ولاتأمروا حتى يأمر، ولا تُفتوا حتى يُفتي، ولا تقطعوا أمرًا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه. ورَوى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة".

وأما الأدلة من السنة فكثيرة، نكتفي منها بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بنسحماء عند النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث اللعان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أبصروها؛ فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خَدَلَّجَ الساقين فهو لشريك بن سحماء، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية» ، فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا ما مضىمن كتاب الله لكان لي ولها شأن»[4].

وثالث هذه الأدلة: الإجماع، وهو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين فيعصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي فيواقعة. والإجماع حجة شرعية يجب اتباعها، ولا تجوز مخالفتها، والحكم الثابت بالإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا إلى نسخه، وليس للمجتهدين فيعصر تالٍ أن يجعلوا هذه القضية موضعَ اجتهادٍ؛ فما بالك بمخالفته ببعض الأقوال،وآراء الرجال، والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقوله سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

ورابع هذه الأدلة: القياس، وهو إلحاق واقعةٍ لا نصَّ على حكمها بواقعةٍ وردَ نصٌّ بحكمها في الحكم الذي ورد به النص؛ لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم. وهو حجةٌ شرعيةٌ على الأحكام العملية عند جمهور الفقهاء، كما أنه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أوإجماع، وثبت أنها تساوي واقعة نُصَّ على حكمها في علة هذا الحكم، فإنها تقاسبها، ويُحكمُ فيها بحكمها، ويكون هذا حكمها شرعًا، ويسعُ المكلفَ اتباعُه والعملُ به[5].

والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

ويؤيد ذلك ما رواه الدارمي عن ميمون بن مهران، قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصم، نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء، فربما اجتمع إليه النفر كلُّهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به[6].

فأول ما يبدأ به كتاب الله عز وجل، ثم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء مما علم من السنة أو ثبت له برواية غيره من الصحابة، ثم بما أجمع عليه رؤوس الناس وخيارهم، وهذا غاية في التثبت.

وقد روى الدارمي آثارًا أخرى عن منهج الصحابة في القضاء والفتيا، لا يتسع المقام لذكرها، وكلُّها لا تخرج عن تحري الدليل من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم.

الضابط الثالث: التحلي بصفات الإفتاء:

بما أن وظيفة المفتي وظيفةٌ جليلةٌ، ومهمته عظيمة، كان لا بد أن تتوافر فيه الأهليةللقيام بهذه المهمة، ولا بدَّ له أن يتحلَّى بمجموعة من الصفات حتى يكون أهلًا للقيام بعمله على أكمل وجه، فمن الصفات التي لا بد أن يتحلى بها من يتصدر للإفتاء، ما رُويَ عن الإمامِ أحمد بن حنبل أنه قال: "لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

أولها: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.

والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.

والثالثة: أن يكون قويًّا على ما هو فيه وعلى معرفته.

والرابعة: الكفاية، وإلا مقته الناس.

والخامسة: معرفة الناس".[7]

الضابط الرابع: تعلق الفتوى بموضوع الاستفتاء:

إن الفتوى إذا تعلَّقت بموضوع الاستفتاء بلغت بالمستفتي حاجته، وحصلمنها على مُرادَه، فإذا خرجت عن ذلك فإنها لا تسدُّ له حاجة، ولا تحلُّ له مشكلة،ولا تنقذه من معضلة، ولم يشرع الإفتاء إلا للإجابة على التساؤلات، وحل مايَعرضُ للإنسانِ من مشكلات، غيرَ أنَّ المفتي إذا توقع من السائل استغرابًا للحكم، فله أن يمهد له بمقدمة.

حتى يسلك الحكم الشرعي إلى قلبه، فيتقبله بقبول حسن، ويدلُّ على ذلك قصةنسخ القبلة؛ فإنها لما كانت شديدةً على النفوس جدًّا وطَّأ الله سبحانه وتعالى قبلها عدة موطئات، منها: ذكر النسخ، ومنها: أنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله،ومنها: أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم، فعموم قدرته وعلمه صالحلهذا الأمر الثاني كما كان صالحًا للأول[8].

ويجوز أن تكون الفتوى أشملَ من موضوعِ الاستفتاء بحيث يجيب السائل بأكثرَ مما سأل عنه لفائدةٍ يَرى أنها تُفيد السائل؛ فقد سَأل الصحابةُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ عن ماءِ البحر، فقالوا له: ((إنَّا نركب البحر وليس معنا ما نتوضأ به، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ))[9].

فقد أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميتة البحر رغم أنهم لم يسألوا عنها؛ لما في ذلك من فائدة لهم في هذا البيان.

وقد بوَّب البخاري لذلك في صحيحه، فقال: "باب من أجاب السائل بأكثرَ مما سأل عنه" ثم ساق من الحديث ما يدلُّ على ذلك.

ويجوز العدول عن موضوع الاستفتاء إلى موضوع آخر يكون أنفعَ للسائل مما سأل عنه، أو يكون موضوع الاستفتاء لا يترتب عليه عمل، أو لكون مداركِ السائل لا تقوى على فهم ذلك الموضوع الجلل، يدلُّ على ذلك قولُ الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].

فقد سألوه عن سبب ظهور الهلال خفيًّا ثم لا يزال يتزايد فيه النور على التدريج حتى يكمل، ثم يأخذ في النقصان، فأجابهم عن حكمة ذلك من ظهور مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت أكبر عبادتهم وهو الحج.

فإن كانوا قد سألوا عن السبب، فقد أُجِيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه، وإنكانوا إنما سألوا عن حكمةِ ذلك، فقد أُجيبوا عن عين ما سألوا عنه، ولفظ سؤالهم محتمل؛ فإنهم قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقًا ثم يأخذ في الزيادة حتى يتم ثم يأخذفي النقص؟![10].

كما يجوز العدول عن موضوع السؤال أو الإمساك عن الجواب إذا ترتب على الجواب فتنة للسائل؛ فقد قال ابن عباس رضي الله عنه لرجل سأله عن تفسيرآية: وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت به، أي أنكرت هذا الحكم.

الضابط الخامس: تيسير الفتوى:

لقد فطرَ اللهُ سبحانه وتعالى الإنسانَ على حُبِّ التيسيرِ والسَّعةِ، وكراهةِ العسرِ والحرجِ، ولا شكَّ أن من خصائصِ الشريعةِ الإسلاميةِ السماحةَ واليسرَ ورفعَ الحرجِ؛ حتى ذكر العلماء أن الأدلةَ على رفعِ الحرجِ في هذه الأمةِ بلغت مبلغَ القطعِ[11].

والتيسيرُ مأخوذٌ من اليسرِ الذي هو بمعنى السهولة، والتيسيرُ: التسهيلُ والتوسعةُ والتخفيفُ، والبعد عن التصعيبِ والتضييقِ والإحراجِ والإعناتِ الذي هو مضمون كلمة التعسير.

ولقد جاءت الشريعةُ مبنيةً على التيسيرِ، ومن يتتبعْ أحكامَ الشريعةِ يجدْ ذلك جليًّا، ومن ذلك: قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، وقوله تعالى في آية الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» [12].

الضابط السادس: سلامة الفتوى من الغموض:

لما كانت الفتوى بيانًا لحكم شرعي، وتَحمِلُ في طياتها تبليغه للسائل، وجب تقديمُها بأسلوب مُبين، وكلام واضح قويم؛ فقد أمر الله تعالى نبيَّه الكريم بالبلاغِ المبين، فقال سبحانه: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] .لذا كان من وضوح الفتوى خلوُّها من المصطلحات التي يتعذَّر على المستفتي فهمُها، وسلامتُها من التردُّد في حسمِ القضيةِ المسؤول عنها.
 

فضيلةالشيخ/ ذو الكفل محمد البكري

المفتي الفيدرالي لدولة ماليزيا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]-
انظر:أدب المفتي والمستفتي، ص 86، والمجموع، 1/41.
[2]-
انظر:إعلام الموقعين، 4/199.
[3]-
انظر:إعلام الموقعين، 4/199.
[4]-
رواه الجماعة إلا مسلمًا والنسائي، انظر:منتقى الأخبار، 6/272.
[5]-
انظر: علم أصول الفقه، ص 52-54.
[6]-
الدارمي: 1/ 58.
[7]-
انظر:إعلام الموقعين، 4/199.
[8]-
انظر: إعلام الموقعين، 4/164.
[9]-
أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح،انظر: منتقى الأخبار 1/ 14.
[10]-
انظر:إعلام الموقعين، 4/ 158.
[11]-
انظر:مقاصد الشريعة الإسلامية، للطاهر بن عاشور، ص٦٣.
[12]-
أخرجه البخاري ومسلم.