شروط المفتي

الفتوى من الأمور الخطيرة والتي لها منزلة عظيمة في الدين، والمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان، نسأل الله العون والصفح عن الزلل، والمفتي مُوَقِّع عن الله تعالى، قال ابن المنكدر: العالم موقع بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.

  • التصنيفات: التصنيف العام - طلب العلم -

ذكَر العلماء شروطًا لا بد أن تتوفر فيمن يتصدى للإفتاء، منها:

أولًا: المعرفة الجيدة باللغة العربية وقواعدها؛ فإن شريعةَ المصطفى صلى الله عليه وسلم مُتَلَقَّاها ومُسْتَقَاهَا الكتاب والسنَّة، وآثار الصحابة ووقائعهم، وأقضيتهم في الأحكام، وكلها بأفصحِ اللغات، وأشرف العبارات؛ فلا بد مِن الارتواء باللغة العربية؛ فهي الذريعةُ لمداركِ الشريعة.

ثانيًا: ما يتعلَّقُ بأحكام الشريعة مِن آيات الكتاب، والإحاطة بناسخها ومنسوخها، عامِّها وخاصِّها، وتفسير مجملاتها؛ فإن مرجعَ الشرع وقُطْبَه الكتابُ العزيز.

ثالثًا: معرفة السنن؛ فهي القاعدةُ الكبرى؛ فإن معظمَ أصول التكاليف متلقًّى مِن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وفنون أحواله، ومعظم آي الكتاب لا يستقلُّ دون بيان الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن الاعتمادُ على السُّنن إلا بالتبحُّر في معرفة الرجال، والعلم بالصحيح من الأخبار والسقيم منها، وأسباب الجرح والتعديل، وما عليه التعويلُ في صفات الإثبات مِن الرواة، والثقات، والمسنَد والمرسَل.

رابعًا: معرفة مذاهب المتقدِّمين من الفقهاء؛ حتى لا تتعارض فتواه مع ما تقدم من إجماعٍ مِن قِبَل هؤلاء الفقهاء.

خامسًا: الإحاطة بطرق القياس، ومراتب الأدلة.

سادسًا: الورَع والتقوى؛ لأن الفاسقَ لا يوثَق بأقواله، ولا يعتمد في شيء مِن أحواله.

ولصعوبة تلك الشروط وشدَّتها، ينبغي على كل مَن يستسيغ أمر الفتوى أن يفكِّرَ ألف مرة قبل أن يُقدِمَ على هذا الصنيع؛ فإنه ليس أمرًا عاديًّا كما يتخيلُ البعض، ولا تنفع فيه المعرفةُ السطحية ببعض أمور الدين؛ إذ لا بدَّ فيه مِن التمييز بين القشر واللُّباب.

الخلاصة :

الفتوى من الأمور الخطيرة والتي لها منزلة عظيمة في الدين، والمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان، نسأل الله العون والصفح عن الزلل، والمفتي مُوَقِّع عن الله تعالى، قال ابن المنكدر: العالم موقع بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.

والذي يجب على الناظر في الفتاوى أن يختاره هو ما شهد له الكتاب والسنة والإجماع، وكان جاريًا على قياس أهل العلم، وإن كان ثمة تعارض فإنه لا يأخذ إلا بالراجح في المسألة وهو الأقوى دليلًا والأسلم تعليلًا.

وليس المفتي بالخيار يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء، وقد قال الإمام النووي رحمه الله: "ليس للمفتي والعامل في مسألة القولين أن يعمل بما شاء منهما بغير نظر، بل عليه العمل بأرجحهما" اهـ.

وبذلك تعلم أن أخذ العلماء بأيسر الفتاوى في الأمور التي تخص الفرد كحلق اللحية، وعمليات التجميل، وتطويل الثوب، والنمص...، وأخذهم بالشدة في نحو كشف وجه المرأة، وفي الربا، والغناء وغير ذلك...، دون النظر إلى ما هو راجح أو مرجوح من ذلك، هو –في الحقيقة- زلل كبير وشطط، لا يحق لمن ينتمي إلى الإسلام أن يراه صوابًا.

هذا، وليعلم أن لاختلاف العلماء أسبابًا لا يمكن تجاهلها أو رفعها ولا يتصور ذلك إلا من ليس له معرفة بتلك الأسباب وهي ليس فيها طعن في الشرع ولا انتقاص منه، كما أن موضوع الجرح والتعديل ليس بما تصورته من البساطة والسهولة، فهو موضوع يُعْنَى بالرجال الناقلين لحديث النبي صلى الله عليه وسلم والآثار والأخبار، والنظر في شرائط قبولهم، وأسباب ردهم...

ولا يخفى ما لهذه الأمور من الصعوبة والخطورة، وهو علم قد تخصص فيه رجال كثيرون من علماء الأمة، فَنَقَّحُوهُ وَمَحَّصُوهُ وَبَيَّنُوا الزائف منه عن الصحيح.

وليس أمرًا عشوائيًّا يأخذ منه الفرد كيفما شاء، ويجب على المسلم أن يعلم أن شرع الله تعالى ليس ألعوبة يلعب بها كل من هب ودب ويتكلم فيها من شاء بما شاء، وإنما يجب أن يقتصر الكلام في الشرع على أهل العلم المختصين ومن تكلم فيه من غيرهم فيخشى عليه أن يكون ممن يقولون على الله بغير علم وذلك ذنب شنيع وإثم عظيم.

ومن أصول الخطاب الإسلامي إعلاء قيمة التقارب الإنساني من خلال مبادئ تقوم على الإحسان في القول والمجادلة بالحسنى لإعطاء فرصة لحوار بَنَّاء بين قوى المجتمع على نحو يُمَكِّن للسلم العام والعدالة الاجتماعية كأساس لبناء الدولة.

إعلان مبدأ اللين في القول والرد بالتي هي أحسن كإطار للعيش المشترك دلت عليه نصوص القرآن والسنة، قال تعالى: {وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ} [فصلت:34].

تهدف الآية الكريمة إلى إعلاء قيمة التقارب الإنساني عن طريق الإحسان إلى من أساء، فربما قاده الإحسان إليه إلى تحوّل قلبه من الضغينة إلى الصفاء، ومن الجفاء إلى الحنوّ، حتى يصير كأنه قريب لمن أحسن إليه.

وفي الصحيح عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»، بل إن القرآن الكريم جعل اللين في القول والفعل، أحد مقومات رسالة الإسلام وسمة من السمات الشخصية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ} [آل عمران:159].

فقد كشفت الآية أن من صفات القادة وأصحاب الرسالات أن يدركوا أن الرحمة في الخطاب تؤلف وأن الغلظة في القول تفرق، وبطبيعة الحال فإن بناء العيش المشترك إنما يقوم على التآلف والتعارف لا على التقاطُع والتناكُر، وهو ما يحتاج إلى فن تطييب النفوس عن طريق اللين في القول، والتشاور في القواسم المشتركة، نبذًا للتفرق، واعتصامًا بوحدة الدولة، وتفعيلًا للأخوة الإنسانية، إعمالًا لقوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ} [الحجرات: 13].

وعلى نفس النهج، أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحماية أيضًا، وجعلها ميثاقًا واضحًا في آخر عهده بالدنيا في يوم الحج الأكبر، حيث قال في الصحيح: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ، فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».

فقول الرسول: «أيها الناس» يؤكد أن الخطاب للناس جميعًا وأن الحماية للنفس، والمال، والعِرض في منهج الإسلام، مقررة لكل الناس، وردًّا لوحدة الأصل والنشأة، قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ} [النساء:1].

فآية بهذا التأصيل لوحدة النشأة، تحمل خطابًا شرعيًّا لبني آدم جميعًا على اختلاف عقائدهم، وأصنافهم، وصفاتهم، وألوانهم، ولغاتهم، أن يتقوا الله الخالق، فيصلوا الرحم الإنسانية ولا يقطعوها.

ذلك أن جميع الناس لهم شرف النسب إلى آدم وحواء، فالأخوة الإنسانية حاضرة في هذه الآية الكريمةبقوة.

قال ابن عباس في معنى الآية: "اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به"، واتقوا الأرحام الإنسانية أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها.

وفي الختام: لا يسعني إلا أن أتوجه إلى الله تبارك وتعالى أن تكون هذه الوريقات علمًا نافعًا في موضوع المشترك الإنساني والفتوى، وأسوق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الطبراني في الكبير: «من طلب علمًا فأدركه كتب الله له كِفْلَيْنِ من الأجر، ومن طلب علمًا فلم يدركه كتب الله له كِفْلًا»، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

أ.د جعفر عبد السلام

الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية