شرح لقوله تعالى {ويل للمطففين}
آيات الوعيد الشديد للتجار الجشعين الذين يسعون جاهدين في نخر جسم المجتمع المسلم بخيانة تطفيف الأوزان بل ويزيدون على ذلك بخس أموال الناس بالغش والخداع والاحتيال أو بأي صورة من صور الخيانة أو أكل أموال الناس بالباطل .أو غير ذلك .
- التصنيفات: التصنيف العام - القرآن وعلومه - مساوئ الأخلاق -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدَّين:
أما بعد فقد قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَااكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} { سورة المطففين: 1-6 ].
اعلم – رحمني الله وإياك – أن في هذه الآيات وعيد شديد للتجار الجشعين الذين يسعون جاهدين في نخر جسم المجتمع المسلم بخيانة تطفيف الأوزان بل ويزيدون على ذلك بخس أموال الناس بالغش والخداع والاحتيال أو بأي صورة من صور الخيانة أو أكل أموال الناس بالباطل .أو غير ذلك .
ولذلك تراهم يلحقون بالمجتمعات المسلمة الأضرار البالغة بالاحتكار بأقواتهم الضرورية التي بحتاجون إليها مثلاً أو بالمبالغة في أسعار البضائع لتضييق حياة المساكين بما يتحكمون عليهم في تجاراتهم أو قد يقومون مثلاً باغراق بعض البضائع المعينة في السوق مثلاً لالحاق الضررر ببعض الآخرين وغير ذلك من صور إضرارهم المختلفة المتنوعة لإفساد حياة الناس بكل صور الفساد ليبلغوا مآربهم الخاصة.
فعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: أقبَل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا ما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بـينهم» رواه ابن ماجه وغيره وصححه الألباني .
فمحل الشاهد قوله صلى الله عليه وسلم :" ولَم يَنقصوا المكيال والميزان، إلاَّ أُخذوا بالسنين، وشِدَّة المَؤُونة، وجَوْر السلطان عليهم " وما من شكٍ أن كل ذلك المذكورفي المقال يدخل تحت هذا الوعيد الشديد، إذ كل تلك الفروع من الخيانات الممقوتة يُلحق بالأصل وهو قوله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فعلة التطفيف هنا كما ترى هي الخيانة وليست العبرة حصر الخيانة بالمطعومات فحسب بل يشمل كل البضائع الأخرى مادامت القاعدة: " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". إذاً فيكون جامع حكم العلة بين الفروع المذكورة هنا والأصل هو الخيانة فيكون إذا وعيدهم بالعذاب كوعيدهم سواء بسواء كما أنهم من زمرة المطفِّفين الذين توعد الله لهم بالويل يوم القيامة أعاذنا الله منها.
قال ابن تيمية رحمه الله : “والناس وان تنازعوا فى اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه؟ فلم يقل احد ان عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وانما غاية ما يقال: انها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ ، والآية التي لها سبب معين ان كانت أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته. وان كانت خبرا بمدح او ذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته ايضا فان العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ولهذا كان أصح قولي الفقهاء: انه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع الى سبب يمينه وما هيجها وأثارها" انتهى.
فكيف بالله عليكم بمن ينهبون أموال المسلمين بالملايين أو يسرقونها بالملايين بل وكيف من يتاجرون بأعضاء المسلمين من الكلى والكبد وغيره وكأنها قطع غيار بشرية عندهم بل وكيف بمن يبيعون الأحرار ويأكلون أثمانهم بعد احتجازهم في حوزتهم بالقوة والقهر، وكيف وكيف .... ... إلخ ، وقد وصل جشع التجار وكثير من الأطباء الجشعين إلى هذا الحد كما هو معلوم.!! والله المستعان.
فلا ريب أن مثل هؤلاء أولى وأحرى من المطففين بالأكيال والموزين من باب مفهوم الأولى وقد قال تعالى و {نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [ الأنبياء: 47 ].
فبالله عليكم إذا كان الله يأتي بمثقال حبةٍ من خردلٍ ليوزن بموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا فكيف بمن يأتي بمظالم من الملايين ، بل ويتفنن المجرمون بجرائمهم بكيفيات كثيرة متنوعة لاضرار المسلمين والله المستعان.
أما ربط الويل بالمطففين هنا والتذكير ببعثهم ليومٍ عظيمٍ وقيامهم لرب العالمين ففيه تخويف من العقاب الأخروي الذي هو أعظم من العقوبات الدنيوية كما فيه تحصيل للإيمان باليوم الآخرة الذي هو المؤدِّب والموجِّه الأعظم لمن يمكن أن تخدع نفسه من المسلمين ليفعل في الخفية مثل هذه الأفاعيل أو بما يشاء من المظالم المشتركة أو الفردية.
وقدذكرت في رسالة " أهمية الأمانة " ما يلي:-
وقد نهى الله سبحانه عن مثل هذا الخلق الذميم أي( تطفيف الميزان) عن بعض الأمم الماضية كقوم مدين وثمود كما قد أرسل الله شعيب – عليه السلام- بالدعوة إلى توحيد الله وإفراد الله بالعبادة ثم بالدعوة إلى تحقيق الأمانات في مجتمعه مع إيفاء الأكيال والأوزان وعدم بخس الناس أشياءهم والحذر من جشع التجار وحرصهم الشديد الذي أوقعهم بمثل هذه الخيانات الخسيسة.
كما قال تعالى {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [ الأعراف: 85-87 ].
ففي الآية الأولى نصيحتين بأمرين عظيمين أولاهما أعظم من الثانية.
أما النصيحة الأولى فهي ما أمرهم الله سبحانه بافراد الله بالعبادة.
أما الثانة فهي بإيفاء المكيال والميزان.
وكذلك فيها نصيحتين بنهيَين عظيمين أولاهما أعظم من الثانية.
أما النصيحة الأولى فهي عدم بخس أموال الناس مع رعاية أمانات الناس وعدم خيانتهم.
وأما النصيحة الثانية فهي النهي عن عدم افساد الأرض بعد إصلاحها اذ حيث وُجد فيه الأمانة والعدالة بعد التوحيد والإيمان لا يمكن أن ينشب في مثل هذه الأرضية فساد أو ظلم.
إذاً علمت أن الخيانة هي من أعظم أسباب الفساد في الأرض لذلك ركَّز عليها شعيب - عليه السلام - في دعوته بعد أن دعاهم إلى التوحيد الخالص مع التبرؤ عن الشرك وأهله بالطبع.
ثم كذلك جاء في الآية الثانية نهيَين عن عادتين سيَّئتين خطيرين وتوجيه اعتبارين مهمَّين كذلك.
أما النهي عن العادة السيِّئة الأولى فهي القعود في الطرقات للصد عن سبيل الله.
وأما النهي عن العادة السيِّئة الثانية فهي ابتغاء العوج في هذا الطريق المستقيم.
وهذا في الحقيقة الضلال البعيد كما وصف الله الكفار الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في أول سورة إبراهيم {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [ سورة إبراهيم: 3 ].
أما الاعتباران فالأول منهما: تذكيرهم بنعم الله حيث كثَّرهم الله بعد أن كانوا قلِّة أذلَّة ضعفاء كما امتنَّ الله بأمَّة محمد بمثل ذلك حيث قال سبحانه {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [ الأنفال: 26 ].
أما الاعتبار الثاني فتوجيههم بأن يعتبروا كيف كانت عاقبة المفسدين ليغيِّروا مسيرتهم السيِّئة بمسيرة حسنة أو بعاقبة حسنة والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.
وهكذا كانت الرسل كلهم يربُّون أممهم برعاية الأمانات بعد أن يحقِّقوا التوحيد ويحافظوا على فرائض الله إذ هي من أول الأمانات وأن يوفوا العهود ولا يغدروا وأن ينصحوا للناس ويحسنوا إليهم ولا يظلموهم.
إذاً علمت أن أعظم ما يُقوِّم به سلوك الناس وأخلاقياتهم هو التعامل بالصدق سواء كان ذلك صدقاً بالقول فلا يكذبون وصدقاً بالقلب بأن تكون قلوبهم نظيفة وسليمة للناس وصدقاً بالعمل فيتقنوا الصناعات بأتمِّ وجهها ويوفوا بالعهود بأكمل طريقتها إذ الصِّدق أمانة والكذب خيانة كما يجب أن لا تختلف أقوالهم وأعمالهم ليكونوا مستقيمين غير مذبذبين هنا أو هناك كالمنافقين الذين هم أصحاب الوجوه المختلفة والألوان المتنوِّعة.
إذ ما أنزل الله الكتاب إلا ليقوم الناس بالقسط والعدالة.
كما لا يخفى عليك أن العدالة لا تحصل إلا من لصادقين الأمناء كما قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [ سورة الحديد: 25 ].
فمن رواية ابن عمر الطويلة في البخاري : - " وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم في كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله شدة خرصه وأرادوا أن يرشوه فقال عبد الله تطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير لا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على ألا أعدل عليكم فقالوا بهذا قامت السموات والأرض ".
ففي هذا الأثر – كما ترى - بيان للعلاقة الوطيدة التي بين العدالة والأمانة وأن الأمين لابد أن يكون عادلاً والعادل لابد أن يكون كذلك أمينا .
بمعنى ذلك القيام بشرع الله كله وتطبيقه حق التطبيق إذ لا يكفي أن تؤمن بوحدانية الله وعبادته وحده بأنواع العبادات مع ترك تطبيق شرع الله فتقول لا علاقة بين السياسة والدين إذ تطبيق شرع الله من وحدانية الله وحده لقوله تعالى {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } [ الكهف: 26 ].
بل لابد أن يستسلم العبد المؤمن بكليته لله وحده بل وبمحياه وبمماته لقوله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [ االأنعام: 162 ].
إذ الصلوات والحج والصيام والنسك وسائر الأعمال الظاهرة من عبادة لله ، وكذلك المعاملات المالية والاقتصاد الإسلامي من العبادات ، والحكم والسياسة الشرعية كذلك من العبادات، والمعاملات الدولية سواء كانت في السلم أو في الحرب كذلك من العبادات .
بل كل شيء في هذا الوجود سواء كان موجوداً من سابق أو كان حاضرا أو مستقبلاً لابد أن يوزن بميزان الشرع وبالقواعد الكلية للإسلام عملا بالآية السابقة {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [ الأنعام : 162 ].
وقد كانت من ضمن الذنوب التي أُخِذت بالعذاب قوم مدين وثمود المعاملات المالية مع عبادتهم غير الله ومع ذلك فقد كانوا يجادلون رسلهم بأن لهم حرية كاملة في أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءوا أي أن يخونوا من يشاءوا خيانته وينهبوا أموال من يشاءوا نهبه وهو تعدي ظاهر على حقوق الآخرين والله سبحانه حرَّم الظلم على نفسه وحرَّم بين خلقه الظلم وأنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط والعدالة حتى منع جشع التجار واحتكارهم وتطفيف الأوزان وتوعد لمن يتعامل بمثل تلك الخيانات الوعيد الشديد كما قال تعالى {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [ سورة المطففين: 6 ].
فكيف إذاً بمن يدَّعون بحُرِّية كذا وكذا مع تعسُّفٍ شديدٍ منهم للتَّعدِّي بحُّرِّية الآخرين أو للتَّعدِّي بحقوقهم المضمونة للشَّرع أو في أمورهم الخاصة لهم أو ما يسمُّونه في الآونة الأخيرة بالعولمة وإنما هي التَّعدِّي بحُرِّية الآخرين أو ظلمهم بمبادئ ملزمة جائرة منهم على الدول المستضعفة.
والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الكاتب: أبو عبدالله عبد الفتاح بن آدم المقدشي