الزوجة، والأبناء، وما لم يكن في الحسبان : قصة حقيقية(1)

محمد جلال القصاص

  • التصنيفات: التصنيف العام - التربية والأسرة المسلمة - قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -

بسم الله الرحمن الرحيم


لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

الزوجة، والأبناء، وما لم يكن في الحسبان: قصة حقيقية(1)

لاحظت مبكرًا أن ظاهرة المنضبطين خلقيًا وعلميًا (الملتزمين، أو الصحويين) لا تتطور من خلال بيوتهم؛ وكنت أسأل: لماذا لا يكون ابن "الملتزم" ملتزمًا؟؛ لماذا لا يكون أبناء الحاملين لهموم الأمة واستعادة نهضتها مثل آبائهم؟

قدَّم المعنيون تبريرًا لا تفسيرًا لهذه الظاهرة. انتقوا بعض النماذج المشابهة لهم من التاريخ واستدلوا بها. يقولون: كان فلان عالمًا عاملًا ومعلمًا ولم يكن أبناؤه مثله، وكان نوح نبيًا –عليه وعلى نبينا والأنبياء جميعًا الصلاة والسلام- ولم يكن ابنه مثله!!

ولم أقتنع بكلامهم. فكل نموذجٍ استدعوه شاهدًا لهم، جاء معهم عشرات النماذج التي تشهد عليهم. فمن المسلمات أن الناجحين –أيضًا- أبناء بيوتهم. بل كل ناجحٍ في تراثنا يُعرّف بأبيه وأمه، نقول: أم الشافعي، وأم مالك، وأم أحمد بن حنبل. وحتى هؤلاء الحضور أبناء بيوتهم أيضًا، فلا تكاد تقع عينك على مميزٍ في دينه وخلقه إلا وهو ابن أبيه؛ وتم تعديل السؤال: لماذا انتهى دور البيت في أيامنا هذه؟!. من المسئول عن غياب دور الأسرة؟؟، فالأمر في حقيقته انتهاء لدور الأسرة، لا أن بيوت الطيبين تفرز الخبثاء ولا أن الطيبين ينبتون من بين الخبث،  فالناس معادن كما أخبر الرسول-صلى الله عليه وسلم-. وللمحامد بيوت، والمكاره بيوت.

مع بداية التفكير، وفي مراحل الشباب الأولى، تبادر لذهني أن السبب يكمن في عدم قيام النساء (الأمهات) بواجبهن. كنت أقول: السبب في سوء اختيار الزوجة. كنت أقول: لا يحسن الرجل اختيار المرأة، فينشغل هو بأمور الدعوة أو العمل ولا تستطيع هي أن تقوم بتربية الأبناء أو متابعتهن. أو يلتقي الرجل والمرأة على غير هدى ثم يهتدي أحدهما ويبق الآخر مفرطًا ويخرج الأبناء على شاكلة من فرَّط. كانت هذه بدايات التفكير وأنا على أعتاب المراهقة مغادرًا وعلى أبواب الشباب أفكر في أسرة!!

دفعني هذا الفهم إلى اختيار زوجة بمواصفاتٍ تتعلق بتربية الأبناء؛ فيممت وجهي شطر بيتٍ كله متفوق دراسيًا، وكله- أو جله- يحفظ القرآن الكريم ويسبقون غيرهم في الدراسة وفي الحفظ والتجويد؛ وحصل هذا البيت على جوائز عالمية ومحلية في القرآن الكريم وفي الدراسة، وكان لزوجتي نصيب من هذا: حصلت على المركز الرابع على الجمهورية في الثانوية الأزهرية أدبي 1998م، وتفوقت في الجامعة، وتركت التعيين في الجامعة برًا بي وتفرغًا لبيتها.


وبدأت الرحلة الأسرية بحماس  شديد!!

كانت البداية من إكرام الزوجة، وإكرام من تحبهن الزوجة، كي تقبل وتجد فرحةً مسرورة محتسبة. وحسن التعامل يفتح الله به القلوب  فقلَّ أن تحسن لأحدهم ولاينصت إليك. فإذا أردت أن تؤثر في أحدهم فكريًا فأحسن إليه، وعامة النخبة وليس فقط العامة- تتكون أفكارها من مواقف عملية لا من تفكيرٍ عقلي. قلّ من يفكر ابتداءً.. جلهم يستدعي الفكر نصرةً لخيارات مسبقةٍ تتخذ بناءً على مواقف. وقبل الزواج وبعده يدي مرفوعة لربي أسأل الله من فضله..فكلها منن من الكريم الوهاب، الغني المغني، سبحانه وبحمده. وفي الحديث: "الدعاء سلاح المؤمن". فالدعاء ثم الجد، والبداية من عينين ترمق ما ترى وتفكر فيه مرة بعد مرة تبحث عن إكراهات لتفاديها أو معالجتها وعطايا للإفادة منها.

بدأ العمل على محورين: محور الزوجة نفسها (إعداد الزوجة)، ومحور الابناء.

البداية وما لم يكن في الحسبان:

بدأتُ إجراءات الارتباط وأنا دون الخامسة والعشرين، ولم يكن ثمة نضج يكفي، ولم يكن لي علم بتجارب سابقة كي أقلدها أو أطورها، ولم تكن البيئة التي تربيت فيها تهتم بتعليم النساء علمًا شرعيًا يستهدف تربية الأبناء، أو تتحدث عن ذلك. وفرق بين أن تنطلق من تجارب سابقة وأن تنتطلق من رفض. النقد يستلزم الصدام مع القديم وحراس القديم.. تصطدم مع الفكر السائد نفسه وتصطدم مع المستفدين منه والمتعصبين له. بمعنى أنك تخطوا ثلاثة خطوات: أولها: اكتشاف عيوب السائد. وثانيها: نثرها على الناس وتحمل الصدام مع المتعصبين والمستفيدين ماديًا ومعنويًا من الفكر السائد، وثالثها: البحث عن بديل. وكل واحدةٍ من هذه أمر من أختها.

تحركت بزوجتي إلى حلق العلم الخاصة بالسلفيين؛ وجلست "لأهل الحديث" فوجدتهم يشرحون "العلل للدارقطني" للرجال والنساء سواءً بسواء!!.

وجدت مشروعهم التربوي مسابقة لجمع الأحاديث النبوية التي تحدثت عن تربية الأبناء في السنة النبوية المطهرة!!.

جلست في مسجد الشيخ مصطفى العدوي بـ "منية سمنود"- وكنت آتيه من بعيد- أنظر للحضور: عدد قليل من الرجال والنساء يجتمعون بعد صلاة الظهر، بعضهم ترك دراسته، وبعضهم قد فرغ نفسه لطلب العلم، يقلدون التعليم في العصر الأموي، شيخ يجلس وحوله طلابه متحلقين، والنساء في مكان مرتفع (سندرة) من وراء ستار يسمعون ويرسلون أسئلتهم ومداخلاتهم مكتوبة في ورقة يسقطونها من أعلى.

ولم أقتنع بهذا!!

الله يقول: {ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ} [آل عمران:36]. الذكر ليس كالأنثى، الذكر له مواصفات جسدية ونفسية خاصة، والأنثى لها مواصفات جسدية ونفسية خاصة؛ وبالتالي كل له ما يناسبه. وهؤلاء كالعلمانيين سواءً بسواء يسوون بين الذكر والأنثى؛ وكنت أسأل: ما حاجة المرأة لتعلم "العلل للدارقطني"؟، هل تحتاج المرأة للتعمق في علم الحديث؟، هل ستصبح محدثة؟؟. وأتحدث عن العموم لا عن حالات فردية قد تصلح للتخصص وهو أمرٌ نادر الحدوث؟. أم أن القوم مصابون بداء العلمانية من حيث لا يشعرون، فهم يسووون بين الذكر والأنثى مع الاختلاف الفطري والشرعي بينهما؟!. فالذكر ليس كالأنثى: اختلاف لا تفاضل. والتفاضل عند الله بالتقوى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وعند الناس كل بما يحسن.

وبدأت بمحاولة تعليم الزوجة مما أتعلم (وكان يومها أصول الفقه وقضايا الإيمان والكفر ونحو ذلك مما انشغلت به السلفية العلمية في نهاية التسعينات وبداية الألفية الثالثة)، واكتشفت سريعًا أن هذا لا يصلح للنساء، أو لزوجتي خاصة مع أنها ذات إمكانات ذهنية عالية.

وشاء الله أن تتجه للقرآن الكريم، وبدأت الزوجة في اتقان حفظ القرآن الكريم واتقان التجويد (وقبل كانت حافظة حفظًا عاديًا) وحصلت على إجازة في القرآن الكريم بقراءة، ثم قراءتين وثلاث، وقريبًا تجاز بعشرة قراءات بالجمع....


في حلقات القرآن الكريم:

لم يكن الاتجاه للقرآن الكريم بدايةً يستهدف أكثر من البحث عن ساحة جديدة لإعداد الزوجة استعدادًا للأبناء قبل قدومهم. ونظرًا لحضور فكرة التأمل والتدبر في الواقع بحثًا عما أودعه الله من إكراهاتٍ وما أودعه من عطايا، كنت أجلس مع صاحبتي بعد كل درس تتعلمه وأسمع منها، وحديثنا لليوم– بعد قرابة عقدين من الارتباط- في القرآن وما يتعلق به. ولم يكن يشغلني في البداية سوى أن تشعر بأني مشغول بما أهمها، وأن أشجعها....

انتهت الكلمات المخصصة لهذا المقال، وأكمل في مقالٍ قادم إن شاء الله، وفيه:

·      حلقات التحفيظ النسوية تحتضر..

·       وفشلت الخطة مع الأبناء..

·      وظهر الجاني الحقيقي..

·      ما الحل؟