(22) ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب
محمد علي يوسف
للمنافقين علاقة وثيقة بالفكاهة والتظرف.. لكنها كما أشرت فكاهة قائمة بشكل رئيسي على السخرية والاستهزاء والتفكه بالمؤمنين..
- التصنيفات: التصنيف العام - قضايا إسلامية -
كثير من الناس يعجبهم المزاح ويستأنسون بالفكاهة ويميلون للشخص الظريف الذي يستطيع جذب الابتسامة إلى شفاههم بغض النظر عن الوسيلة التي يستخرج بها ضحكاتهم..
حتى لو كانت تلك الوسيلة استطالة على الآخرين وامتهانا لهم واستهزاءً بهم وخوضا في أعراضهم كل هذا لا يهم..
المهم أن نخوض ونلعب.. أن تعلو الضحكات وتنفرج الأسارير..
حتى لو كان ذلك على حساب الآخرين ممن لا ذنب لهم ولا شيء يضطرهم لأن يكونوا مجرد أدوات وظيفتها فقط إشباع تلك الشهوة الخرقاء..
وللمنافقين علاقة وثيقة بالفكاهة والتظرف.. لكنها كما أشرت فكاهة قائمة بشكل رئيسي على السخرية والاستهزاء والتفكه بالمؤمنين..
هذا التظرف والقدرة على الخوض والمزاح يعد من الأسباب المحورية التي جعلت كثيرا من الخلق يعجب بقولهم ويستمع له.. {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}[المنافقون: 4].
بل يصل بعضهم إلى أن تشمله تلك الصيغة المبالغة من السماع.. أن يصير سمَّاعا لهم{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47].
وكيف لا يدمن الاستماع إليهم وهم من محترفي الخوض واللعب..
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65].
وأي خوض وأي لعب.. بالله.. بآياته.. برسوله..
{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65].
ما رأينا مثلَ قُرَّائِنا هؤلاءِ أرغبَ بطونًا ولا أكذبَ ألسُنًا ولا أجبَنَ عندَ اللقاءِ.. هكذا قالوا مستهزئين بعلماء الصحابة.. بحفظة الوحي وحراس الشرع وورثة النبي صلى الله عليه وسلم.
إن السعي الحثيث لتعميم تلك الصورة الذهنية عن حملة الدين هو المقصد الذي يسعى إليه المنافقون دائما..
صحيح أن ديننا لا يعرف كهنوتا ولا يرسخ قداسة للأشخاص غير المعصومين لكنه أيضا يعرف الاحترام وحفظ القدر، وفى الحديث "ليس منا من لم يعرف لعالمنا حقه"..
وحقه لا يعنى تقديسه أو عصمته، إنما يعنى احترامه وتوقيره وبفرض أنه أخطأ أو تجاوز يوما فليكن نصحه والاختلاف معه بأدب، وليس بذلك التسفيه المهين الذي تحراه ويتحراه المنافقون..
هذه السخرية الممنهجة هدفها ببساطة هو إذابة أي قدر متبقٍ من الاحترام في نفوس الناس لورثة الأنبياء ومن ثم زوال الاحترام لتركتهم التي ورثوها..
العلم بالشرع:
يزول الاحترام وتجرف الأعراف والقيم وتزعزع الثوابت الدينية التي نشأ عليها الناس.. والعلة الحاضرة دوما المزاح والفكاهة.. إنما كنا نخوضُ ونتحدثُ حديثَ الركبِ نقطعُ به عنا الطريقَ كان هذا هو تبريرهم أثناء تعلقهم بناقة رسول الله معتذرين عن مقالتهم الساخرة..
كنا نتسلى.. نلهو.. نمزح.. تتعدد المبررات والحقيقة واحدة.. {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}[التوبة: 65].
{لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66].
هذه هي الحقيقة التي لابد أن تظهر جلية واضحة.
كانوا مجرمين:
وكل مستهزيء بالشرع محتقر لأحكامه خائض في أصوله وثوابته جادا أو هازلا مجرم لا قيمة ها هنا لمعاذير ولا قبول لتبرير..
ثمة مقدسات وخطوط حمراء والضحك والإضحاك والهزل والمزاح ليسوا منها.. {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64].. سيخرجه الله ويفضحه.. ولو بعد حين.
ذلك لأن المنافق في الحقيقة لا يستطيع التوقف عن تلك العادة ولا يملك أثناء نفاقه إقلاعا عن إدمان السخرية والاستهزاء..
ليس فقط لأجل الغرض السابق الذي تحدثنا عنه وهو إزالة الاحترام للشرع وحملته ولكن أيضا لأن أصل تلك السخرية يكمن في نظرته نفسها..
نظرته للدين ولحملته.. نظرة احتقار واستهزاء.. هذه النظرة تشمل كل ما له علاقة بالدين بدءا من المتدين نفسه..
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: "لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء، فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}..
احتقار عميق لكل مؤمن مهما فعل.. أنفق قليل يحتقر فقره.. أنفق كثيرا يرمى بالرياء.. المهم أن يسفه المؤمن ويسفه عمله. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13].. هذا هو تصورهم عن المؤمنين.. سفهاء وصعاليك ليسوا من مستواهم.. {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]
وليس فقط عموم المؤمنين.. العلماء أيضا كان لهم نصيبا كبيرا من استهزاء المنافقين كما سبق وأشرنا..
بل وسيد العلماء وإمام الدعاة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو أيضا لم يسلم من استهزائهم وسخريتهم.. {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61].
اجترأوا على التقليل من عقله والانتقاص من إدراكه وقدرته على التمييز.. زعموا أنه مجرد أُذُنٌ تسمع كل ما يلقى إليها وتصدقه كله من دون تمييز لصوابه من خطئه ولا لكذبه من صدقه..
{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61].
بل تجاوزت سخريتهم الأشخاص وتعدى استهزاؤهم مرحلة البشر ليصل إلى استهزاء بكلام رب البشر..
استووا بذلك مع إخوانهم الكفار الأصليين.. لقد قبلوا مجالستهم أثناء الخوض في الآيات في الثوابت والعقائد..
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]..
لكن هيهات.. لقد قبلوا.. وقعدوا.. وشاركوا وضحكوا.. عندئذ استووا بهم .. {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}..
نفس القلب ونفس الطباع ونفس الكلمات والاجتراءات والأباطيل.. إنهم مثلهم في الدنيا ويجتمعون بهم في الآخرة..
{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}.