دروس وعبر في قصة سلمان الفارسي
الفطرة الطيِّبة التي فطر الله على سلمان، وحب سلمان الفارسي للحق حتى آثره من كل شيء، حيث لم يصرفه ذلك شيء من شهوات الدنيا وملذاتها وحظوظها، وقد كان مع ذلك كله أبوه صاحب أموال وسيد قومه وكان يحبه أشد ما يحب الوالد لولده.
- التصنيفات: التصنيف العام - سير الصحابة -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين أما بعد:
فقد كان قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً طلبوا الحق وعرفوه كورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وقصتهما في الصحيح، وأيضا من هؤلاء العظماء الذين أفنوا أعمارهم في طلب الحق والانتفاع به صاحب قصتنا سلمان الفارسي وهو صحابي معروف قد بحث الحق كما كان جاداً في طلبه في قصة طويلة ستأتي قريباً حتى وجده واتبعه والحمد لله.
ونجد في قصة إسلامه عبر ودروس عظيمة ولكن فلنترك لكم أولا القصة يرويه لنا صاحب القصة وهو سلمان الفارسي نفسه والقصة في الصحيح:
ذكر ابن إسحاق رحمه الله إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه من حديث عبد الله بن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي - من فيه - قال: كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: (جَيٌّ) وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً.
قَالَ: وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ، فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، ثم قال لي: ولا تحتبس عني؛ فإنك إن احتسبت عني كنتم أهم إليّ من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري. فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ، دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ، وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ. فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ. فرَجَعْتُ إلى أَبِي، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ أَمْرِهِ كُلِّهِ.
فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ؛ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ. قَالَ: أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ: قُلْتُ: كَلَّا وَاللَّهِ؛ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا. قَالَ: فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ. قَالَ: وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى. فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ، قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ. فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلى بِلَادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ عِلْمَاً؟ قَالُوا: الْأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ. قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ له: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ. وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ. وأَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ، وَأُصَلِّي مَعَكَ، قَالَ: ادْخُلْ. فَدَخَلْتُ مَعَهُ، قَالَ فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ؛ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا؛ فَإِذَا جَمَعُوا إليه مِنْهَا أَشْيَاءَ كَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ.
قَالَ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ. ثُمَّ مَاتَ، فَاجْتَمَعَتْ إليه النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا كَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا. قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا. قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ، قَالَ فَاسْتَخْرَجُوا سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا، قَالَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا. قَاْلَ: فَصَلَبُوهُ ورَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ. وجَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَوَضَعُوهُ مَكَان. قَالَ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا أَدْأَبُ لَيْلًا وَنَهَارًا [مِنْهُ]. قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّ شيئاً قَبْلَهُ مِثْلَهُ. قالَ: فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ شيئاً قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالى، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وبَِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَداَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا، وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ؛ إِلَّا رَجُلًا بِـ(الْمَوْصِلِ)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَالْحَقْ بِهِ.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (الْمَوْصِلِ)، فَقُلْتُ: يَا فُلَانُ! إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي.
فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ! إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ اللَّهِ مَا تَرَى، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: يا بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا بِـ(نَصِيبِينَ)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ بِهِ.
فَلَمَّا مَاتَ وَغُيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (نَصِيبِينَ) فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي. فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ! إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إلى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وبِمَ تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: يا بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا أعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلَّا رَجُلًا بِـ(عَمُّورِيَّةَ) فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فائتِهِ؛ فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (عَمُّورِيَّةَ)، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَ خير رجلٍ على هديِ أَصْحَابِهِ.
قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ.
قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَان! إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ فَأَوْصَى بِي إلى فُلَانٍ، ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أَعْلَمُ أَصْبَحَ أحدٌ عَلَى مثل مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ. مُهَاجِره إلى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ. فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، فَافْعَلْ.
قَالَ: ثُمَّ مَاتَ، وَغَيَّبَ، ومَكَثْتُ بِ(عَمُّورِيَّةَ) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ.
ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّار، فَقُلْتُ لَهُمْ: احمِلُونِي إلى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ. قَالُوا: نَعَمْ. فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي معهم، حَتَّى إِذَا بلغوا وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي؛ فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا فَكُنْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، فَرَجَوْتُ أَنْ يكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي وَلَمْ يَحِقْ فِي نَفْسِي. فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ (الْمَدِينَةِ) فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إلى (الْمَدِينَةِ)، فَوَاللَّهِ؛ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا، فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي لها، فَأَقَمْتُ بِهَا. وَبُعِثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَقَامَ بـ(مكة) مَا أَقَامَ، لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مِمَّا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إلى (الْمَدِينَةِ). فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ تحتي، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يا فُلَانُ قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ، وَاللَّهِ؛ إِنَّهُمْ لَمُجْتَمِعُونَ الْآنَ بِـ(قُبَاءَ) عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ مِنْ (مَكَّةَ) الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ. قَالَ فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الرَّعْدَةُ، حَتَّى ظَنَنْتُ ساقِطٌ عَلَى سَيِّدِي، فَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ: ذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تَقُولُ؟
قَالَ: فَغَضِبَ سَيِّدِي، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا؟! أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ. قَالَ: فقُلْتُ: لَا شَيْءَ؛ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ. قالَ: وكَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِـ(قُبَاءَ)، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ. قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلوا»، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ.
ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُه فَقُلْتُ له: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ.
قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ. قالَ: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِـ(بَقِيعِ الْغَرْقَدِ) قَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وعَلَيْهِ شَمْلَتَانِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَبرْتُه أَنْظُرُ إلى ظَهْرِهِ؛ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي؟ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدبَرْتُهُ؛ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إلى الْخَاتَمِ، فَعَرَفْتُهُ فَاكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَوَّلْ»، فَتَحَوَّلْتُ بين يديه، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ. ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَدْرٌ) وَ(أُحُدٌ). قَالَ سلمان: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ!».
فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ، وأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «أَعِينُوا أَخَاكُمْ» .
فَأَعَانُونِي في النَّخْلِ: الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ ودية، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ ودية، وَالرَّجُلُ بِعَشْرة، يعين الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ مِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ! فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُنُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ». قال: فَفَقَّرْتُ، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ، وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، حتى إذا فرغنا، فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ؛ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ. فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ المعادن، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟». قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، قَالَ: «خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَان!». فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِمَّا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «خُذْهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ». قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا - وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ - أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ.
وَعُتِقَ سلمان. فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْخَنْدَقَ) ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ. انتهت.
الدروس والعبر :
الدرس الأول: الفطرة الطيِّبة التي فطر الله على سلمان، وحب سلمان الفارسي للحق حتى آثره من كل شيء، حيث لم يصرفه ذلك شيء من شهوات الدنيا وملذاتها وحظوظها، وقد كان مع ذلك كله أبوه صاحب أموال وسيد قومه وكان يحبه أشد ما يحب الوالد لولده.
الدرس الثاني: كان سلمان الفارسي رجلاً مجتهداً غاية الاجتهاد حتى قبل أن يعلم حقيقة الحق سواء كان ذلك لما كان في دين المجوس أو في دين النصارى أو بعدما علم الحق ودخل في دين الإسلام الحق لكونه بلغ رتبة قطن النار في دينه الأول المجوسي والذي كان لا يخبوا له نار، وبلغ أرفع الرتب في دين النصارى ’ كما بلغ في دين الإسلام الرتب العلِيَّة التي لاتحفى من العلم والعبادة وغيره.
الدرس الثالث: لم يكن سلمان رضي الله عنه يوماً من الأيام منكَّس الفطرة والفهم متزمت أعمى البصيرة بل لما رأى ديناً أحسن من دينه لم يقل كما قال أبوه والجهال من أمثال قومه {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] .
بل إنما كان هدفه السَّامي الانقياد للحق واتباعه ، والحق أحق أن يتبع، بل إنك ترى أن الرسل دائما لا يتركون المشركين وحالهم بكل سهولة بل تحد إنهم يجادلونهم ويقولون لهم كما قال الخليل لهم {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْه آبَاءَكُمْ } [ الزخرف: 24] ولكن كان جوابهم – على الأسف – محض الإنكار والجحد والتكذيب والمكابرة {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [ الزخرف: 24].
الدرس الرابع: همته العالية وسأصنف هذه الهمة بهذه الأصناف الآتية كالتالي:-
أ - بحثه وتنقيبه للحق لكونه لم يقتنع بكل سهوله بل شمَّر عن ساعد الجد فسألهم عن أصل دينهم قالوا: الشام.
ب - قرَّر أن يسافر إلى الشام وإلى طلب الحق والعلم.
ج - قد سافر فعلاً طلباً للحق إلى الشام ثم سألهم أيضاً سؤالا مهماً جدا كالتي قبلها حيث سألهم عن أفضلهم علماً حتى يتعلم منه ويأخذ من هديه وسمته فأشاروا إليه أسقفا في كنيسة.
د - رأى ما رأى من سوء طوية الأسقف المشار إليه ففهم أن العلة من الأسقف وليس من الدِّين ولذلك صبر له صبراً طويلاً وعمل عملاً دءوباً للحق حتى مات هذا الرجل السيء ولذلك لم يسأله أي وصاية ولا أي تعليمات.
هـ- نُصحه للناس وأمانته حيث كشف للناس أن الأسقف كان رجل سوء خائن، وأنه لا ينبغي أن يغتر الناس بمثله ، وكشف للناس أيضا سبع قلال مملوءة بالذهب والورق، وقد كان بإمكانه إن لم يكن أمينا أو يخاف الله أن يأخذها بكل سهوله حيث لا يعلمها أحد غيره والله الذي خلقه العلام الغيوب، ولكنه كان زاهدا مبتغياً الدار الآخرة طالباً للحق مجتهداً في طلبه غير مبال بما سواه فهداه الله ببركة طلبه هذا الحق المبين الذي توفاه الله في آخر حياته.
بل جعله الله في منتهى العدالة والأمانة والنزاهة وقد أشرت في موضع آخر أن المحب للحق لابد أن يكون عادلاً أميناً كما قال تعالى {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159].
ز- طلب الوصاية من أسقف طيب إلى أسقف طيب حتى أوصى آخره إلى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في أرض العرب فسافر إليها ولكنه وقع في الرق والعبودية ولم يمنعه ذلك شيء لما سمع ظهور النبي الحق صلى الله عليه وسلم في المدينه حتى طلبه وقابله وتأكَّد من رسالته لما معه من العلم بأنه لا يأخذ الصدقة ويأخذ الهدية وخاتم الرسالة التي كانت مكللة على ظهرة.
الدرس الخامس: قوله:" فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ." أي قصة سلمان هذه الشيِّقة ولم لا يُعجِب ذلك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحب أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ ، وهي قصة مملوءة بالدروس والعبر وطلب للحق والهمة العالية بل وجلد وصبر وعمل دءوب للوصول إلى الحق واتباعه وزهد عن الدنيا والإقبال إلى الآخرة والأمانة والعدالة وطلب للعلم والتفقه والعبادة والصراحة للناس ولوالده وعدم النفاق والمراوغة والدوران...... إلخ..
أما إذا قال قائل لماذا عاش مع هذا الرجل السوء أو كيف عاش معه وهل كان يجامله أو يداهنه ولم لم يخف أن يكون كالمشارك له في أعماله هذه السيئة قلت: إن مثل هذه المسألة من الفقه بمكان، إذ قد يستعجل بعض الأمراء إذا كان أميرهم العام رجل سوء غير عادل أو غير آمن فيقولون مثلاً نخاف أن نكون كالمشاركين له في أعماله هذه السيئة فيختارون الخروج عليه ، وهذا يعتبر من قلة الفقه منهم، لأن هناك فرق بين المعاملة للرجل السوء والمحافظة على الدين الصحيح مع إحقاق الحق وابطال الباطل مهما أمكن، لذلك لابد من موازنة المصالح والمفاسد لأنه قد يموت الرجل السوء أو يفتح الله للمسلمين مخرجا إذا دعوا ربهم عليه مثلاً ولكن إذا لم يصبروا وخرجوا على أميرهم العام قد تحدث مقتلة رهيبة بين المسلمين أو أشد من ذلك كأن ينال الكفار من المسلمين نيلا عظيما ويحدث ما لا يحمد عقباه.
ولذلك كان من فقه سلمان العجيب وحصافته العظيمة وذكائه المنقطع النظير وفطنته الناذرة أن صبر لهذا الرجل السوء وعاش معه مع بغضه الشديد له حتى فتح الله له فرجا ومخرجا ، وقد فتح الله له بالفعل فرجا ومخرجا.
الدرس السادس: ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَدْرٌ) وَ(أُحُدٌ). قَالَ سلمان: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ!».
هذا يدل على أن مسألة الرق إنما كانت أمراً ابتلاه الله بعباده مع ما فيها من عظيم الأجر.
وهو مما كان جارياً قبل مجيء الإسلام وأقره، ولكن فتح لها بابا لمن قُدر له أن يدخل فيها للخروج منها بشتى وسائل المتنوعة الأخرى كفك الرقاب لبعض الكفارات وكالمكاتبة والعتق لوجه الله والتصدق بالعتق لمن عنده أموال كما كان يفعله أبو بكر رضي الله عنه لوجه الله لا بحثاً لقوتهم بأن يعملوا له حتى لامه أو عاتبه أبوه بذلك.
وأيضا رُوعِي ذالك لأجل المحافظة على العادات الجارية التي تكون من استئصالها فجأة أو فوراً ليست من الحكمة في شيء وإنما الدِّين جاء ليحبِّب الناس إليهم دينهم لا لينفِّرهم.
بل تعجب لما تقرأ مثل هذه القصة لهذا الرجل الذي أسلم وهو سلمان الفارسي ويقول: ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَدْرٌ) وَ(أُحُدٌ). حتى قال له: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ!».
ولكن الذي يثير العجب هو أنه كان عند يهودي، وقد كان بإمكان المسلمين بكل سهوله أن يأمروه بأن يتحول عنه ولكنك رأيت كم تكلَّف المسلمون في مكاتبته واعتاقه، وكيف كان غلاء اعتاقه. فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على سماحة ديننا الإسلامي الرفيع الحنيف مع عظيم رعايتهم لحقوق الناس جميعا ، بل وسبقهم لذلك الأمر من كل الناس.
وذلك لترسيخ وغرس كل معاني الحُسن والإحسان والجمال في الناس كما لهم عناية عظيمة لرعاية الأمانات والعهود والعقود وغير ذلك.
بل ويدلك على ذلك كيفة إيفاءهم لحقوق الأقليات - كما جاء في قصة السلمان رضي الله عنه - حتى ولو كانوا كفارا بجوار المسلمين إن لم يكونوا محاربين لديننا الحق.
والله أعلم.
أبو عبدالله عبد الفتاح بن آدم المقدشي