العُجْب (1)

خالد سعد النجار

العجب هو: استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم، فإن انضاف إلى ذلك أن غلب على نفسه أن له عند الله حقا وأنه منه بمكان حتى يتوقع بعمله كرامة في الدنيا واستبعد أن يجري عليه مكروه استبعادا يزيد على استبعاده ما يجري على الفساق سمي هذا إدلالا بالعمل فكأنه يرى لنفسه على الله دالة.

  • التصنيفات: التصنيف العام - مساوئ الأخلاق -

بسم الله الرحمن الرحيم


عن أنس -رضي الله عنه-  قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  «لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك: العُجْب، العُجْب» (1) ‌.


الكبر والعجب داءان مهلكان، والمتكبر والمعجب سقيمان مريضان، وهما عند الله ممقوتان بغيضان، والعجب إنما يكون بوصف هو كمال لا محالة، وللعالم بكمال نفسه في علم أو عمل أو مال أو غيره حالات:

(أحدهما) أن يكون خائفا على زواله ومشفقا على تكدره أو سلبه من أصله، فهذا ليس بمعجب.

 

(والأخرى) أن لا يكون خائفا من زواله، لكن يكون فرحا به من حيث أنه نعمة من الله تعالى عليه لا من حيث إضافته إلى نفسه، وهذا أيضا ليس بمعجب.


(وله حالة ثالثة) هي العجب، وهي أن يكون غير خائف عليه، بل يكون فرحا به، مطمئنا إليه، ويكون فرحه به من حيث أنه كمال ونعمة وخير ورفعة، لا من حيث أنه عطية من الله تعالى ونعمة منه، فيكون فرحه من حيث أنه صفته ومنسوب إليه بأنه له، لا من حيث أنه منسوب إلى الله تعالى بأنه منه، فمهما غلب على قلبه أنه نعمة من الله متى شاء سلبها عنه زال العجب بذلك عن نفسه..


فإذن العجب هو: استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم، فإن انضاف إلى ذلك أن غلب على نفسه أن له عند الله حقا وأنه منه بمكان حتى يتوقع بعمله كرامة في الدنيا واستبعد أن يجري عليه مكروه استبعادا يزيد على استبعاده ما يجري على الفساق سمي هذا إدلالا بالعمل فكأنه يرى لنفسه على الله دالة.


والكبر يستدعي متكبرا به ومتكبرا عليه، أما العجب فلا يستدعي غير المعجب، بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجبا ولا يتصور أن يكون متكبرا (2).


وعن أبي وهب المروزي قال: سألت ابن المبارك عن الكبر فقال: أن تزدري الناس، وسألته عن العجب  فقال: أن ترى أن عندك شيئا ليس ثم غيرك، قال: ولا أعلم في المصلين شيئا شر من العجب (3).


قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}  [النجم:32].


وقال جل ذكره: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:49].


فالتزكية: التطهير والتبرئة من القبيح فعلا وقولا.. قال القرطبي:

هذه الآيات تقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل، فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له، وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي بَرَّةَ؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  نهى عن هذا الاسم، وسُميت برة؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم» فقالوا: بم نسميها؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: «سموها زينب» (4).


فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية؛ كزكي الدين، ومحي الدين وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا (5).


وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: لبست مرة درعا لي جديدا، فجعلت أنظر إليه وأعجبت به، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: ما تنظرين، إن الله ليس بناظر إليك، قلت: ومم ذاك؟ قال: أما علمت أن العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا مقته ربه عز وجل حتى يفارق تلك الزينة، قالت: فنزعته فتصدقت به، فقال أبو بكر: عسى ذلك أن يكفر عنك. (6).


وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه»(7).


قال المناوي:  «وثلاث مهلكات» أي يردين فاعلهنّ في الهلاك «هوى متبع، وشح مطاع» هو أن يطيعه صاحبه في منع الحقوق التي أوجبها اللّه عليه في ماله «وإعجاب المرء بنفسه» قال القرطبي: وهو ملاحظة لها بعين الكمال والاستحسان مع نسيان منة اللّه، فإن وقع على الغير واحتقره فهو الكبر، وقال الغزالي: أحذرك ثلاثاً من خبائث القلب، هي الغالبة على متفقهة العصر، وهي مهلكات، وأمّهات لجملة من الخبائث سواها: الحسد والرياء والعجب. فاجتهد في تطهير قلبك منها، فإن عجزت عنه فأنت عن غيره أعجز، ولا تظن أنه يسلم لك نية صالحة في تعلم العلم وفي قلبك شيء من الحسد والرياء والعجب.


فأما الحسد فالحسود هو الذي يشق عليه إنعام اللّه على عبد من عباده بمال أو علم أو محبة أو حظ حتى يحب زوالها عنه وإن لم يحصل له شيء منها، فهو المعذب الذي لا يرحم فلا يزال في عذاب، فالدنيا لا تخلو عن كثير من أقرانه، فهو في عذاب في الدنيا إلى موته، ولعذاب الآخرة أشد وأكبر.

وأما الهوى المتبع فهو طلبك المنزلة في قلوب الخلق لتنال الجاه والحشمة، وفيه هلك أكثر الناس.


وأما العجب فهو الداء العضال، وهو نظر العبد إلى نفسه بعين العز والاستعظام، ونظره لغيره بعين الاحتقار، وثمرته أن يقول أنا وأنا، كما قال إبليس، ونتيجته في المجالس التقدم والترفع وطلب التصدر، وفي المحاورة الاستنكاف من أن يرد كلامه، وذلك مهلك للنفس في الدنيا والآخرة.

وقال الزمخشري: الإعجاب هو فتنة العلماء، وأعظم بها من فتنة (8).


‌كما يعلق المناوي على حديثنا هذا بقوله:

«لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم» وفي رواية لخشيت «ما هو أكبر من ذلك: العجب، العجب» لأن العاصي يعترف بنقصه فترجى له التوبة، والمعجب مغرور بعمله فتوبته بعيدة، قال تعالى: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»  [الكهف:104]، ولأن دوام الطاعة يوقع فيه، ولهذا قيل: «أنين المذنبين أقرب إلى اللّه من زجل المسبحين» لأن زجلهم يشوبه الافتخار، وأنين أولئك يشوبه الانكسار والافتقار، والمؤمن حبيب اللّه يصونه ويصرفه عما يفسده إلى ما يصلحه، والعجب يصرف وجه العبد عن اللّه، والذنب يصرفه إليه، والعجب يقبل به على نفسه، والذنب يقبل به على ربه، لأن العجب ينتج الاستكبار، والذنب ينتج الاضطرار ويؤدي إلى الافتقار، وخير أوصاف العبد افتقاره واضطراره إلى ربه، فتقدير الذنوب -وإن كانت ستراً- ليست لكونها مقصودة لنفسها بل لغيرها، وهي السلامة من العجب التي هي خير عظيم.


قال بعض المحققين: ولهذا قيل «يا من إفساده إصلاح»، يعني إنما قدره من المفاسد فلتضمنه مصالح عظيمة احتقر ذلك القدر اليسير في جنبه لكونه وسيلة إليها، وما أدى إلى الخير فهو خير، فكل شر قدره اللّه لكونه لم يقصد بالذات بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير، وفيه دلالة على أن العبد لا تبعده الخطيئة عن اللّه، وإنما يبعده الإصرار والاستكبار والإعراض عن مولاه، بل قد يكون الذنب سبباً للوصلة بينه وبين ربه (9).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان  ج: 5 ص: 453 برقم 7255، والقضاعي في مسند الشهاب  ج: 2 ص: 321 برقم 1447، والهيثمي في مجمع الزوائد ج: 10 ص: 269 وقال رواه البزار وإسناده جيد، والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب ج: 3 ص: 371  برقم 5126   والمنذري في الترغيب والترهيب ج: 3 ص: 358 برقم 4431 وقال رواه البزار بإسناد جيد،  وقال المناوي في فيض القدير ج3 ص 354: قال الحافظ العراقي: فيه سالم أو سلام بن أبي الصهباء قال البخاري منكر الحديث وأحمد حسن الحديث  ورواه أيضاً باللفظ المذكور ابن حبان في الضعفاء والديلمي في مسند الفردوس وطرقه كله ضعيفة ولهذا قال في الميزان عند إيراده: ما أحسنه من حديث لو صح وكان ينبغي للمصنف تقويتها بتعددها الذي رقاه إلى رتبة الحسن ولهذا قال في المنار:هو حسن بها بل قال المنذري: رواه البزار بإسناد جيد. ‌والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع فقال (حسن) انظر حديث رقم: 5303 في صحيح الجامع للسيوطي / الألباني.

(2) إحياء علوم الدين ــ الغزالي / كتاب ذم الكبر والعجب ج3 ص 326 ط دار الحديث ـ القاهرة / بتصريف.  

(3) شعب الإيمان ج: 6 ص: 303 برقم 8260،  تذكرة الحفاظ ج: 1 ص: 278.  

(4) صحيح مسلم بنحوه ــ كتاب الآداب برقم 3991.

(5) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي / ط دار الغد  العربي ج2 ص 1910 بتصريف يسير.

(6) حلية الأولياء ج: 1 ص: 37.

(7) قال السيوطي في الجامع الصغير رواه (أبو الشيخ في التوبيخ ــ المعجم الأوسط للطبراني) عن أنس. (حسن) انظر حديث رقم: 3039 في صحيح الجامع.‌للألباني.

(8) فيض القدير للمناوي  2/657 بتصريف. 

(9) المناوي / فيض القدير 2/576.