(2) أهمية توحيد الألوهية وكيفية تحقيقه
محمود العشري
أنَّ التوحيد هو مِفتاح دعوة الرُّسل، ومَقصد رسالتهم، ومَحَطُّ اهتمامهم الأوَّل، ومَحَكُّ الخلاف بينهم وبين أُممهم، وتتبُّع قَصص الأنبياء في القرآن يدلُّ على هذا الأمر بوضوحٍ.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
ثالثًا: أهمية توحيد الألوهية وكيفية تحقيقه:
لن أُطيل في بيان أهميَّة توحيد الألوهيَّة ومنزلته العظيمة، ويكفي أن أُشير إلى أنه أوَّلُ الدين وآخرُه، وباطنُه وظاهرُه، وهو أوَّل دعوة الرُّسل وآخرُها، وهو معنى قول: "لا إله إلا الله"، فإن الإله الحقَّ هو المَألوه المعبود بالمحبَّة والخشية، والإجلال والتعظيم، وجميعِ أنواع العبادة، وهو أوَّل واجبٍ على المُكلَّف وآخرُ واجبٍ، وأوَّل ما يدخل به الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود وأحمد، وصحَّحه الألباني: «مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخَل الجنة».
وقد أوضَح القرآن وأفصَح عن هذا النوع جدَّ الإفصاح، وأبدَى فيه وأعادَ، وضرَب لذلك الأمثال؛ حيث إنَّ كلَّ سورة في القرآن فيها الدَّلالة على هذا التوحيد، ولأجْل هذا التوحيد خُلِقت الخليقة، وأُرْسِلت الرُّسل، وأُنْزِلت الكتب، وبه افترَق الناس إلى مؤمنين وكفَّار، وسُعداء: أهل الجنة، وأشقياء: أهل النار، وهو أوَّل أمْرٍ في القرآن؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
كما أنَّ التوحيد هو مِفتاح دعوة الرُّسل، ومَقصد رسالتهم، ومَحَطُّ اهتمامهم الأوَّل، ومَحَكُّ الخلاف بينهم وبين أُممهم، وتتبُّع قَصص الأنبياء في القرآن يدلُّ على هذا الأمر بوضوحٍ؛ فقد تكرَّرت على لسان الأنبياء كلمةُ ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59]، كما أنَّ الله - سبحانه - ذكَر قاعدة عامَّة في دعوة كلِّ الرُّسل، فقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وأمَّا رسالة نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- فقد كانت الدعوةُ إلى التوحيد وعبادة الله هي أوَّلَ ما بدَأ به -صلى الله عليه وسلم- وبَقِي ثلاثة عشر عامًا في مكَّةَ لا هَمَّ له بالليل أو النهار إلاَّ غَرْسُ التوحيد في القلوب، وإخلاص العبادة لله وحْده؛ امتثالاً لأمْر الله، كما قال - سبحانه - عن نبيِّه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11].
وحينما بَعث -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه إلى البلاد مُعلِّمين ودُعاةً إلى الله تعالى، كان أوَّل وأهمُّ ما أمرَهم به هو الحِرصَ على دعوة الناس إلى التوحيد؛ ففي قصة بَعْث معاذ - رضي الله عنه - إلى اليمن - وهي في الصحيحين - قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّك تأتي قومًا أهلَ كتابٍ، فليَكن أوَّل ما تَدعوهم إليه أن يُوَحِّدوا الله».
وفى مرض موته -صلى الله عليه وسلم- كان من أهمِّ ما يَشغله صيانةُ جانب التوحيد، وسدُّ الذرائع المُؤدية إلى الشِّرك، فلمَّا حضَرته الوفاة، جعَل يُلقي على وجهه طرْفَ خَميصة له، فإذا اغتمَّ كشَفها عن وجهه وهو يقول - كما في الصحيحين أيضًا -: «لَعْنة الله على اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ»، تقول عائشة: "يُحَذِّر ما صنَعوا".
كيف نُحقق توحيد الألوهيَّة؟! (أنواع العبادة):
عَلِمنا فيما سبَق أنَّ توحيد الربوبيَّة لا يكفي وحده لتحقيق معنى التوحيد المطلوب شرعًا، وأن العبد لا يكون مُوَحِّدًا التوحيدَ الذي يُنجي صاحبَه في الدنيا من عذاب القتْل والأَسْر، وفي الآخرة من عذاب النار - بمجرَّد اعتقاده أنَّ الله هو ربُّ كلِّ شيءٍ وخالقه، وأنَّه المُدبِّر للأمر جميعًا؛ فإنَّ هذا التوحيد كان يُقِرُّ به المشركون الذين أُمِرَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم، فدلَّ على أنَّ هذا الإقرار لا يكفي لتحقيق معنى التوحيد، بل لا بدَّ مع ذلك من توحيد الألوهيَّة، الذي هو الغاية العُظمى من بعْثة الرُّسل، والذي من أجْله خلَق الله الخلْق، وجعَل الجنة والنار، وفرق الناس إلى شَقي وسعيد.
وحينئذٍ يكون من المهمِّ أن نَعرفَ العناصر التي يتحقَّق بها هذا التوحيد، والتي إن توفَّرت في شخصٍ، كان توحيدُه كاملاً.
وإذا كان توحيد الألوهيَّة يقوم - كما ذَكَرت آنفًا - على صَرْف جميع العبادات لله تعالى، والإخلاص له فيها بغير شائبة تَوَجُّه بشيءٍ منها إلى غيره أصلاً، فلا بدَّ إذًا من معرفة أنواع العبادات التي تعبَّدنا اللهُ تعالى بها في العقائد والأقوال والأعمال التي يُحبُّها ويَرضاها، والتي أمَرنا أن نتقرَّب إليه بها؛ فإنَّ بعض هذه الأمور قد الْتَبَس على كثيرٍ من الناس، فلم يَفقهوا معنى التعبُّد فيها، فتوجَّهوا بها إلى غير الله تعالى، دون أن يَشعروا بخطر ذلك على دينهم، وانخلاعهم به من رِبْقة الإسلام.
وأنواع العبادة كثيرة ومتنوعة، ويَصعُب حصرُها أو ذِكرُها تفصيلاً، لكنني أكتفي بالإشارة إلى أقسامها الأساسيَّة، وبعض نماذج لكلِّ قسمٍ منها؛ إذ إن العبادات على كَثْرتها وانتشارها، تَرجع إلى أربعة أنواع:
- عبادات قلبيَّة مناطُها القلب.
- عبادات قوليَّة تتعلَّق باللسان.
- عبادات عمليَّة تتعلَّق بالجوارح.
- عبادات ماليَّة تتعلَّق بالأموال.
وآخذُ - إن شاء الله - في بيان أصول العبادات التي ترجع إلى كلِّ واحدٍ من هذه الأنواع:
أولاً: العبادات القلبيَّة:
وهي التي تَرجع إلى عمل القلب وحْده، وهذه العبادات القلبيَّة هي أهم أنواع العبادات، بل إنها تُعتبر أساسًا لِما وراءها من العبادات القوليَّة والعمليَّة، ومنها:
1- الحب: وهو حبُّ الله تعالى، وحبُّ كلِّ مَن يحبُّ من عباده، وكلِّ ما يحبُّ من عقائد عباده وأقوالهم وأعمالهم.
ومحبَّته - سبحانه - بتألُّهٍ وذُلٍّ، هي أصلُ الإسلام الذي يقوم عليه قُطبه ورَحاه، وهى تَستلزم الخوف والتعظيم والإجلال، ولا تَصلح إلاَّ لله تعالى؛ قال - سبحانه -:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [البقرة: 165].
قال ابن القيِّم - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "أخبَر تعالى أنَّ مَن أحبَّ من دون الله شيئًا كما يحبُّ الله، فهو ممَّن اتَّخذ من دون الله أندادًا، فهذا نِدٌّ في المحبَّة، لا في الخَلْق والربوبيَّة، فإنَّ أحدًا من أهل الأرض لَم يُثبت هذا النِّدَّ، بخلاف ندِّ المحبَّة، فإن أكثر أهل الأرض قد اتَّخذوا من دون الله أندادًا في الحبِّ والتعظيم".
فمن الشِّرك الأكبر - الذي لا يَغفره الله إلاَّ بالتوبة - أن يتَّخذ العبد ندًّا يحبُّه كما يحبُّ الله؛ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
فجعَل علامة حبِّهم لله أن يُتابعوا رسوله، وأن يكون هواهم تابعًا لِما جاء به، ووَعَدهم على ذلك حبَّه لهم، ومَغفرته لذنوبهم؛ قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي بسند حسنٍ: «اللهمَّ ارْزُقني حبَّك، وحبَّ مَن يَنفعني حبُّه عندك، اللهمَّ ما رَزَقْتَني مما أحبُّ، فاجْعَله قوَّة لي فيما تحبُّ، وما زَويتَ عنِّي مما أحبُّ، فاجْعَله فراغًا لي فيما تحبُّ».
وعليه؛ فمَن أحبَّ الله تعالى وأحبَّ مَن يحبُّ من عباده، وما يحب من اعتقاداتهم وأقوالهم وأفعالهم، ولَم يُشرك في هذا الحبِّ أحدًا، فقد وحَّد الله تعالى في هذه العبادة، ومَن أحبَّ غير الله تعالى حبًّا لَم يَأْذن فيه الله، ولَم يَشرعه لعباده، بل نَهى عنه أو حرَّمه؛ كحب ما يُعبَد من دون الله، وحبِّ الرؤساء والدنيا، حبًّا يَجعل المحبَّ على طاعة المحبوب في معصية الله تعالى ومعصية رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى تعظيمه وإجلاله وإكباره، والذُّل له والخضوع، فمَن أحبَّ بهذا الحبِّ غيرَ الله تعالى، فقد أَشرَك في عبادته التي هي حبُّ الله والحبُّ لأجْله - عزَّ وجلَّ.
وأَزيد توضيح هذا المعنى، فأقول: إذا كان الحب عبادة، بل هو أساس كلِّ عبادة؛ إذ لا يَصِح شيءٌ منها إلاَّ مع كمال الحبِّ وكمال الذُّل، فلا يَصِح أن يحبَّ العبد مع الله أحدًا؛ فإن هذا من اتِّخاذ الأنداد الذي صرَّحت به آية البقرة، بل يحب في الله ولله.
وبهذا يظهر أن حبَّ غير الله تعالى لا يُنافي التوحيد، بل قد يكون من كماله؛ فإنَّ مِن تمام حبِّ العبد لله تعالى أن يحبَّ في الله ويُبغض في الله، ويُوالي في الله ويُعادي في الله، ويحبُّ ما يحبُّه الله ويرضاه - من الأشخاص، والأخلاق، والأعمال - ويُبغض ما يُبغضه كذلك.
ولهذا لا يَكمُل إيمانُ أحدٍ؛ حتى يكون رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين، وحتى يحبَّ المرءَ لا يحبه إلاَّ لله، وحتى يكون اللهُ ورسولُه -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ إليه مما سواهما، فيُؤثِر مَرضاتهما على مَرضاة كلِّ أحدٍ، ويُقدِّم أمرَهما وحُكمَهما على أمر كلِّ أحدٍ وحُكمه؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: «ثلاثٌ مَن كنَّ فيه، وجَد حلاوة الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلاَّ لله، وأن يَكره أن يعودَ إلى الكفر - بعد إذ أنْقَذه الله منه - كما يَكره أن يُقذَف في النار».
وبالجملة، فيَجب التمييز بين المحبَّة في الله تعالى ولأجْله - التي هي من كمال التوحيد وتمام الإخلاص - وبين المحبة مع الله - عزَّ وجل - التي هي محبَّة الأنداد من دون الله؛ لِما يتعلَّق بقلوب المُشركين من الألوهيَّة التي لا تَجوز إلاَّ لله تعالى.
وينبغي أن يُعلمَ أنَّ الحب - الذي هو عبادة - إنَّما هو الحب الذي يقوم على الاختيار والتعقُّل، والذي يَحمل على إيثار مَرضاة الله وطاعته على هوى النفس، وعلى كلِّ ما هنالك من مالٍ وأهلٍ وولدٍ، وأمَّا ذلك الحب الغريزي الذي نَشعر به نحو أبنائنا وزوجاتنا مثلاً، فهو لا يتعارَض مع ذلك الحب الديني الذي يجب أن يكون خالصًا لله، إلاَّ إذا غلا ذلك الحب، فحمَل على تقديم رضا هؤلاء على رضا الله، أو شغَل عن طاعته، وألْهى عن ذِكره.
فإذا كان الإنسان مفطورًا على حبِّ الذات والأوطان، والآباء والأموال، فإن إخلاص العبوديَّة لله لا يَعني القضاءَ على هذه الفِطرة، وإنَّما المطلوب من المؤمن أن يكون حبُّ كلِّ شيءٍ في الدنيا بعد حبِّ الله تعالى، ويكون حبُّ الله - سبحانه - عنده فوق كلِّ حبٍّ؛ حتى يُضحي بكلِّ هذه القِيم في سبيل الله، إذا وقَع تعارُضٌ بينها وبين ما يَقتضيه حبُّه لربِّه.
ولقد توعَّد الله - سبحانه - مَن يُقدِّمون هذه القِيَم الدنيويَّة على حبِّ الله تعالى وحبِّ رسوله -صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
إنَّ حبَّ الله تعالى هو حياة القلوب، ونعيم الأرواح، وبَهجة النفوس، وقُرَّة العيون، وأعلى نعيم الدنيا والآخرة؛ قال ابن القيِّم - رحمه الله - في المدارج: "المحبَّة: وهي المَنزلة التي فيها تنافَسَ المتنافسون، وإليها شَخَص العاملون، وإلى عِلمها شَمَّر السابقون، وعليها تفانَى المحبُّون، وبرَوح نسيمها تروَّح العابدون، فهي قُوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقُرَّة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها، فهو من جملة الأموات، والنور الذي مَن فقَده، فهو في بحار الظُّلمات، والشفاء الذي مَن عَدِمه، حَلَّت بقلبه جميعُ الأسقام، واللَّذة التي مَن لَم يَظفر بها، فعَيْشُه كلُّه همومٌ وآلام، وهي رُوح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال التي متى خلَت منها، فهي كالجسد الذي لا رُوح فيه، تَحمل أثقال السائرين إلى بلادٍ لَم يكونوا - إلاَّ بشِقِّ الأنفس - بالغيها، وتُوصِّلهم إلى منازل لَم يكونوا - بدونها أبدًا - واصليها، وتُبَوِّئهم من مقاعد الصِّدق مقاماتٍ لَم يكونوا - لولاها - داخليها، وهي مطايا القوم التي سُراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يُبلِّغهم إلى منازلهم الأُولى من قريب.
تالله لقد ذهَب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من محبَّة محبوبهم أوفرُ نصيب، وقد قضى الله - يوم قدَّر مقادير الخلائق بمَشيئته وحِكمته البالغة - أنَّ المرءَ مع مَن أحبَّ، فيا لها من نعمة على المُحبِّين سابغة".
والمحبَّة لا تُوصَف ولا تُعرَف، وإنما يَعرفها مَن وجَدها وذاقَها، وإنما البحث في أسبابها ومُوجِباتها، وعلاماتها وشواهدها، وقد ذكَر ابن القيِّم - رحمه الله - في المدارج أسبابًا عشرة جالِبةً للمحبَّة، ومُوجِبة لها، وهي:
"أحدها: قراءة القرآن بالتدبُّر والتفهُّم لمعانيه، وما أُريد به، كتدبُّر الكتاب الذي يَحفظه العبد ويَشرحه؛ ليتفهَّم مُراد صاحبه منه.
الثاني: التقرُّب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض؛ فإنها تُوصِّله إلى درجة المحبوبيَّة بعد المحبَّة.
الثالث: دوام ذِكره على كلِّ حالٍ؛ باللسان والقلب، والعمل والحال، فنصيبه من المحبَّة على قدْر نصيبه من الذِّكر.
الرابع: إيثار مَحابِّه على محابِّك عند غَلَبات الهوى، والتسليم إلى محابِّه وإن صَعُب المُرتقى.
الخامس: مُطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومُشاهدتها ومعرفتها، وتقلُّبه في رياض هذه المعرفة ومَيادينها؛ فمَن عرَف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، أحبَّه لا مَحالة؛ ولهذا كانَت المُعَطِّلة والفرعونيَّة والجهميَّة، قُطَّاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب.
السادس: مشاهدة برِّه وإحسانه، وآلائه ونِعَمه الظاهرة والباطنة، فإنها داعية إلى محبَّته.
السابع - وهو من أعجبها -: انكسار القلب بكُليَّته بين يدَي الله تعالى، وليس في التعبير عن هذا المعنى غيرُ الأسماء والعبارات.
الثامن: الخَلْوة وقت النزول الإلهي؛ لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدُّب بأدب العبوديَّة بين يدَيه، ثم خَتْم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبِّين الصادقين، والْتِقاط أطايبِ ثمرات كلامهم كما يُنتقى أطايبُ الثمر، ولا تتكلَّم إلاَّ إذا ترجَّحتْ مصلحة الكلام، وعَلِمتَ أنَّ فيه مزيدًا لحالك، ومَنفعةً لغيرك.
العاشر: مُباعدة كلِّ سببٍ يحول بين القلب وبين الله - عزَّ وجلَّ.
فمن هذه الأسباب العشرة وصَل المحبون إلى منازل المحبَّة، ودخَلوا على الحبيب، وملاك ذلك كلِّه أمران: استعداد الرُّوح لهذا الشأن، وانفتاح عينِ البصيرة، وبالله التوفيق".
وفى بيان علامات المحبَّة قال - رَحِمه الله - في المدارج أيضًا: "تالله ما هُزِلتْ فيَستامها المُفلسون، ولا كسَدتْ فيَبيعها بالنسيئة المُعسرون، لقد أُقيمت للعَرْض في سوق مَن يَزيد، فلم يُرْضَ لها بثمنٍ دون بذْل النفوس، فتأخَّر البطَّالون، وقام المحبُّون ينظرون: أيُّهم يَصلح أن يكون ثمنًا؟ فدارَت السِّلعة بينهم، ووقَعت في يد ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [المائدة: 54].
لَمَّا كَثُرَ المُدَّعون للمحبَّة، طُولِبوا بإقامة البيِّنة على صحَّة الدعوى، فتنوَّع المُدَّعون في الشهود، فقيل: لا تُقبل هذه الدعوة إلاَّ ببيِّنة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
فتأخَّر الخَلْق كلُّهم، وثبَت أتْباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطُولِبوا بعدالة البيِّنة بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54].
فتأخَّر أكثر المُحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إنَّ نفوس المحبِّين وأموالهم ليستْ لهم، فهَلُمُّوا إلى بيعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].
فلمَّا عرَفوا عَظَمَة المُشترِي، وفضْل الثمن، وجلالة مَن جَرى على يديه عقدُ التبايُع، عرَفوا قدْرَ السلعة، وأنَّ لها شأنًا، فرَأوا من أعظم الغبن أن يَبيعوها لغيره بثمنٍ بخْسٍ، فعَقَدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيارٍ، وقالوا: والله لا نُقيلك ولا نَستقيلك، فلمَّا تَمَّ العَقْد وسَلَّمُوا المَبيع، قيل لهم: مُذ صارَت نفوسكم وأموالكم لنا، رَدَدناها عليكم أوْفرَ ما كانت وأضعافًا معًا؛ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} [آل عمران: 169 - 170].
إذا غُرِسَت شجرة المحبَّة في القلب، وسُقِيَت بماء الإخلاص، ومتابعةِ الحبيب، أثْمَرت أنواع الثمار، وآتَت أُكُلها كلَّ حينٍ بإذن ربِّها، أصلُها ثابت في قرار القلب، وفَرْعُها متَّصل بسِدرة المُنتهى".
فالمحبَّة حقيقة العبوديَّة، وإنما تمكن الأعمال الأخرى - من الحمد والشكر، والخوف والرجاء، والصبر والزهد، والحياء والفقر، والشوق والإنابة - باستمرار المحبَّة في القلوب، وهي حقيقة الإخلاص، بل حقيقة شهادة أنْ لا إله إلا الله.
2- الخوف:
فمن أعمال القلب التي لا يُقبل عملٌ إلاَّ بها: الخوف من الله وحده، وعدم الخوف من سواه؛ قال تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175]؛ أي: يُخوفكم بأوليائه، ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقال تعالى:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40].
والرهبة: خوف مع هربٍ وفرار، والفرار من الله لا يكون إلاَّ إليه، ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } [الذاريات: 50]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، والخشية: خوفٌ مقرون بمعرفة، وقال تعالى في مدح أوليائه: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61].
هو الرجل يصوم ويُصلي، ويتصدَّق ويخاف ألاَّ يُقبل منه؛ لِما رَوته السيدة عائشة - رضي الله عنها - قالت: سألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}: هم الذين يَشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لا يا ابنة الصِّديق، ولكنَّهم الذين يصومون ويُصلون ويتصدَّقون، وهم يخافون ألاَّ يُقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرا»؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد، والطبري، وصحَّحه الحاكم، ووافَقه الذهبي.
والوَجل: ارتجاف القلب وانْصداعه لذِكْر مَن يُخاف سلطانه وعقوبته، أو لرؤيته.
وقال تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13]، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46].
وخوفُ مقام الربِّ - سبحانه - هو الخوف من مقام الربِّ على عباده بالاطِّلاع والقدرة والربوبيَّة، أو هو خوف العبد من مقامه بين يدي الله يوم القيامة، وكلاهما واجبٌ مع خوف الوعيد، كما قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم: 14]، وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } [الزمر: 16].
إلى غير ذلك من الآيات التي تُفيد أنَّ أعبدَ الناس لله تعالى وأكملَهم به إيمانًا، أخوفُهم منه وأشدُّهم له خشية، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: «أمَا والله، إني لأتقاكم وأخشاكم له»)، وقال الله تعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
فزوال الخوف من القلب يَستلزم الأمْنَ من مَكْر الله تعالى، وهذا لا يكون من مؤمن أبدًا.
ومن هنا تَعلم ضلال مَن زعَم من الصوفيَّة أنه لا يعبد الله خوفًا من ناره، ولا طمعًا في الجنة، كما يَذكرون ذلك عن رابعة العدوية وغيرها - والله أعلم إن كانتْ قالته فعلاً أم لا - فإن هذا الكلام ضلالٌ؛ لأن الله تعالى أمرَنا أن نَدعوه خوفًا وطمعًا، ومدَح عباده الصالحين بأنهم: ﴿ يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾ [الأنبياء: 90]، وأنهم: ﴿ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ [الإسراء: 57].
وقال بعض السلف: مَن عبَد الله بالحبِّ وحْده، فهو زنديق، ومَن عبَد الله بالخوف وحْده، فهو حروري، ومَن عبَد الله بالرجاء وحْده، فهو مُرجئ، ومَن عبَد الله بالحب والخوف والرجاء، فهو المؤمن الموحِّد.
ولكن ينبغي ألاَّ يُفهم من كون الخوف عبادةً، أنَّ كلَّ خوفٍ من غير الله يكون شركًا؛ فإن هناك خوفًا جِبلِّيًّا يقع في النفس عند توقُّع خطرٍ على الحياة مثلاً، أو تعرُّض لألَمٍ، أو نحو ذلك، وقد خاف الرُّسل - صلى الله عليهم وسلم - وهم أكملُ الناس توحيدًا، ولكنَّ الخوف الذي هو عبادة، ما كان ناشئًا عن معرفة صحيحة بالله تعالى، وما له من صفات الجلال والقهْر، والتي تَملأ جوَّ النفس برهبة لا حدَّ لها، وتَحملها على المسارعة في مَرضاته وتجنُّب مَساخطه، وإنه لا شيء كالخوف يُسَلَّطُ على النفس، فيَكسِر من غرورها، ويَشحذ من هِمَّتها، ويَسوقها في سَيْرها إلى الله تعالى سوقًا عنيفًا؛ حتى لا تَركن إلى غفلةٍ أو فتور.
وينبغي ألاَّ يُفرطَ في الخوف، فيَنقلب يأسًا وقنوطًا، بل يجب أن يكون مصحوبًا بالرجاء والأمَل وحُسن الظن بالله تعالى، ومثل الخوف الخشية، فهي أيضًا مما تَعبَّد الله تعالى بها عبادَه المؤمنين، فكما أمَر - سبحانه - بالخوف منه، ونهى عن الخوف من غيره، أمَر كذلك بخَشيته، ونهى عن خشية غيره، فقال تعالى: ﴿ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ [المائدة: 44].
وأخبَر عن جزاء مَن يَخشونه بالغيب في قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك: 12].
فالخشية والخوف كلاهما عبادة قلبيَّة يجب أن يُفرد الله تعالى بهما، وتَختص به، فمَن خاف غير الله تعالى أو خَشِيَه، مُعظِّمًا له مُستكينًا، يَذِلُّ له ويُطيعه في معصية الله، وهو غير مُكرِهٍ له على تلك الطاعة، فقد أشرَك بالله تعالى في هذه العبادة.
والفرق بين الخشية والخوف: أنَّ الخشية تكون مع تعظيم المَخشي منه، والخوف يكون دون تعظيم المَخوف منه، ويجب أيضًا هنا أن نُفرِّق بين أنواع الخوف؛ فإنه تارة يَقع عبادةً حين يكون خوفَ تَأَلُّهٍ، وهو خوف سري يدْعو إلى طاعة، ويتقرَّب بهذا الخوف إلى مَن يخاف، وصَرْفُ هذا النوع لله من أعظم واجبات الإيمان، وصرْفه لغير الله شِرْكٌ أكبرُ مُخرج من المِلَّة، كمَن يخشى صاحب القبر أن يُوقع به مكروهًا، أو يَغضب عليه، أو يَسلبه نعمة - كما هو واقعٌ في عُبَّاد القبور - وكذا الخوف من الجن مع التقرُّب إليهم، وتارة يقع طبيعة وعادة، كمَن يَخاف من عدوٍّ، أو سَبُعٍ، أو أي خطرٍ، فهذا ليس عبادة، ولا يُنافي الإيمانَ وقوعُه في القلب ابتداءً، لكنَّه لا يَستقر في القلب، بل يَذهب بالتوكُّل واللجوء إليه - سبحانه - ولا يترتَّب عليه ترْكُ واجبٍ، ولا فِعْل مُحرَّم؛ كما قال تعالى عن موسى وهارون: ﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 45 - 46].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خاف قومًا قال: ((اللهمَّ إنَّا نَجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم))؛ كما رواه أبو داود والنسائي وأحمد، وصحَّحه الحاكم ووافَقه الذهبي.
فأمَّا إذا أدَّى إلى ترْك واجبٍ، أو فعْل مُحرَّم بغير إكراهٍ، فهو مذموم محرَّم؛ قال تعالى: ﴿ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175].
وكذلك إن كان بلا سببٍ، أو كان سببه ضعيفًا، كمَن يَخاف من الظلام، فهو مذموم، والجُبن من الأخلاق الرذيلة التي تعوَّذ منها رسول -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: ((اللهمَّ إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل)).
فتبيَّن بهذا أنه يجب علينا أن نُفرِّق بين نوعين من الخوف: الخوف الفطري، والخوف التعبُّدي؛ فإن الخوف عارضٌ يُصيب البشرَ وكثيرًا من المخلوقات، لكنَّه داخلٌ في التكليف للمُكلَّفين؛ ولذا جاء الأمر به والنهي عنه - كما سبَق آنفًا - والخوف منه ما هو فطري؛ كالخوف من اللص، أو من المرض، أو من سلطان غاشمٍ، أو من الثعبان، أو من الكلب العقور، أو من غضب الوالدين.
وبالجملة، فالخوف الفطري خوف سببي؛ أي: تَخاف الثعبان أن يَلدغك، أو من الوالد إذا غَضِب أن تُحرَم حنانه، وغير ذلك، ومنه الخوف التعبُّدي، وهو الخوف من الله تعالى عند أهل التوحيد، ومنه الخوف من الأصنام والمَقبورين وكلِّ ما عُبِد من دون الله تعالى.
وسِمة هذا الخوف التعبُّدي أنه خوف سرٍّ، وأنه يَجتمع مع الحبِّ في آنٍ واحدٍ، بينما الخوف الفطري خوف سببي، لا يَجتمع مع الحب، بل غالبًا ما يجتمع مع البُغض، فإنَّ مَن خاف من اللص أو الكلب العقور، فإنه يَكرهه ولا يحبُّه، حتى الذي يخاف من غضب والديه، لا يحب لهما ذلك الغضب، ويَجتنب أن يُغضبهما.
أمَّا المشرك، فإنه يدعو معبودَه خوفًا وطمعًا، ويَنذر إليه محبَّة له وخوفًا من شرِّه، والمشركون يَزعمون أنَّ لأوليائهم سرًّا يُخيفون الناس من هذا السرِّ كما يخاف المؤمنون من الله - سبحانه - ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 81].
لذا كان الخوف من المقبور شِركًا، والخوف من الله توحيدًا، والخوف الفطري لا يدخل فيهما.
فمن الخوف الفطري ما كان من الأنبياء؛ حيث قال يعقوب - عليه السلام -: ﴿ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ [يوسف: 13]، وقال زكريا: ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 5]، وقال تعالى عن موسى: ﴿ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ [القصص: 18].
فخوف يعقوب على ولده، وخوف زكريا - عليه السلام - على أهله، وخوف موسى - عليه السلام - على نفسه، كلُّ ذلك من الخوف الفطري، فلم يقل لهم ربُّ العالمين: هذا شِركٌ، إلاَّ أنَّ الخوف الفطري يُرَوِّضه الإيمان؛ فهذا نبيُّ الله وكليمه موسى - عليه السلام - يُولد في خيفة - تَخاف أمُّه عليه - ويُرَبَّى في خيفة، ويخرج من مصر خائفًا يترقَّب، فلمَّا عاد ورأى النار، فجاءَها، فأمَره ربُّه، فألقى عصاه، فانقَلبت حيَّة، خاف وولَّى مُدبرًا ولَم يُعقِّب، حتى طمْأَنه الله - سبحانه - فكان هذا أوَّل تجارب الإيمان التي رَوَّضت الخوف عنده، فلمَّا أمرَه ربُّه أن يذهب إلى فرعون، عبَّر عمَّا كان في نفسه بقوله: ﴿ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ﴾ [الشعراء: 12 - 15].
وأوْصاه ربُّ العزة: ﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ﴾ [القصص: 32].
يقول ابن كثير - رحمه الله -: أمرَه إذا خاف من شيء أن يَضمُم إليه جَناحه من الرَّهب - وهو يده - فإذا فعَل ذهَب عنه ما يجده من الخوف، فلمَّا ذهَب إلى فرعون، فأمرَه ونهاه، وفعَل ما أمرَه ربُّه، زال عنه ذلك الخوف.
وذكَر ابن كثير عن مجاهد - رحمهما الله - قال: كان موسى - عليه السلام - قد مُلِئ رعبًا من فرعون، فكان إذا رآه قال: اللهمَّ إني أدْرَأ بك في نحره، وأعوذ بك من شرِّه، فنزَعَ الله تعالى ما كان في قلب موسى - عليه السلام - وجعَله في قلب فرعون، فكان إذا رآه بالَ كما يبول الحمار.
فكان الإيمان مُرَوِّضًا للخوف الفطري، حتى اجتمَع موسى بسَحرة فرعون، ووَعظهم وذكَّرهم، فلمَّا ألْقَوا حِبالهم وعِصيَّهم، وخُيِّل إليه من سِحْرهم أنها تسعى، ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ﴾ [طه: 67، 68]، فلم يَظهر من الخوف شيء، وإن كان قد أوجَس الخوف في نفسه، حتى إذا كان الإيمان والطُّمَأْنينة قد عَمَرت قلبَه، وعايَن من أمر الله - سبحانه - ما رفَع الله به ذلك الخوفَ الفطري، فإذا به في موقفٍ عصيب شديد؛ حيث خرَج بقومه، فلمَّا بَلغوا البحر، نظَر القوم، فإذا فرعون بجنده خلفهم والبحر أمامهم، فاشتدَّ بهم الخوف؛ ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 61 - 62].
فتدبَّر كيف أنَّ الخوف الفطري لَم يظهر له أثرٌ، وحلَّتْ محلَّه طمأنينةُ الإيمان لمعيَّة الرحمن، وكذلك الخوف الفطري يُرَوِّضه الإيمان حتى لا يظهر له أثرٌ.
فالخوف التعبُّدي لا يجوز أن يُصرف منه شيء لغير الله تعالى، والله - عزَّ وجلَّ - يُظهر للناس من آياته وآثار قُدرته؛ ليخافوه، فيَدفعهم ذلك الخوف إلى اجتناب المعاصي ولزوم الطاعات، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59].
فالخوف التعبُّدي هو ما يدفع العبدَ إلى لزوم شرع الله تعالى، والقدْرُ من الخوف الذي يَحمل على أداء الفرائض وترْك المحرَّمات - هو الخوف الواجب، فإذا زادَ ذلك الخوف - حتى جعَل صاحبه يُشمِّر لفعْل النوافل، واجتناب المكروهات، وعدم التوسُّع في المباحات - كان ذلك الخوف مندوبًا إليه، محمودًا عند الله تعالى، فإن زاد حتى قطَع صاحبَه عن السعي والكسب، كان ذلك غلوًّا فاسدًا، وفَهمًا سقيمًا، وسلوكًا خاطئًا.
ولا يَنبغي للوُعَّاظ والدُّعاة أن يَخلطوا بين الخوف التعبُّدي والخوف الفطري، فمَن اعتقَد أنَّ بعض المخلوقات تضرُّه بمشيئتها وقُدرتها، فخاف منها، فقد أشرَك بالله تعالى، وهذا القيد للتمييز بين خوف العبادة والخوف الفطري، فالأول لا يَصِحُّ إلاَّ لله تعالى، ومعناه: أن يَعتقد الإنسان أنَّ القادر على الضُّر بمشيئته وقُدرته هو الله، وغيره لا يضرُّ ولا ينفع، إلاَّ أنْ يَجعله الله سببًا للضر والنفع.
ومن علامات خوف العبادة، أنه يقع في القلب كلَّما ذُكِر المَخوف منه، وأمَّا الخوف الفطري - كخوف الحيوان المُفترس، أو الخوف عند إشهار السلاح ونحوه - فلا يحدث في القلب إلاَّ عند مباشرة المكروه، وهذا لا يَضرُّ بالتوحيد؛ لأنه من فطرة الإنسان التي فطَر الله الناسَ عليها.
3- الإخلاص:
وهو تصفية الأقوال والأعمال من كلِّ شوائب إرادات النفس؛ كطلب التزيُّن في قلوب الخَلْق، وطلب مَدْحهم؛ كقولهم: عالِم، أو شجاع، أو محسن، أو الهروب من ذمِّهم، أو طلب تعظيمهم لنفسه، أو خِدمتهم إيَّاه، وقضاء حوائجه، أو طلب أموالهم، أو غير ذلك؛ كإرضائه غرورَ نفسه وإعجابه بها - نعوذ بالله من كلِّ ذلك - بل لا يتحقَّق الإخلاص حتى يكون الإنسان لا قصْد له في قوله وعمله وجهاده، إلاَّ وجه الله والدار الآخرة؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 110]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]، وقال تعالى: ﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر: 2].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى)).
والإخلاص أمرُه عجيب، وخطره عظيم، ويكفي أن تَعلم أنه لا يَصلح في الطريق إلى الله إلاَّ مَن تزوَّد به، ولقد حُصِر الوصول في المخلصين؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82 - 83].
ومعلوم أنَّ الإغواء للغاوين، الذين عرَفوا الطريق فلم يَسلكوها، فالناس ثلاثة: راشدٌ، وضالٌّ، وغاوٍ؛ فالراشد: مَن عرَف الطريق وسلَكها، والضال: مَن لَم يَعرف الطريق، فضلَّ عنها، والغاوي: هو الذي عرَف الطريق ولَم يَسلكها.
فالإخلاص أمرُه خطير، وهو أساس العبادات؛ فإن العباداتِ كلَّها لا تكون مقبولة ولا مُعتدًّا بها، إلاَّ إذا توافَر لها شرطان - بعد الإيمان - أحدهما باطنٌ، وهو الإخلاص لله فيها بالنيَّة، لا يقصد بها إلاَّ وجه الله تعالى والدار الآخرة، والثاني ظاهر، وهو المتابعة فيها للشرع، ومَجيئُها وَفْق ما أمرَ الله تعالى به ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير زيادة ولا نُقصان.
فإذا اختلَّ شرطٌ منهما، لا تَصح العبادة؛ فإنها إن خلَت من الإخلاص، كانت رياءً، وهو الشِّرك الأصغر، وإن خلَت من المتابعة، كانت ابتداعًا؛ ولهذا كان الإخلاص ميزانَ الأعمال كلِّها، وعلى قَدْر توفُّره في العمل يكون الثواب؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: ((إنما الأعمال بالنيَّات)).
فيا أيُّها الموحِّد، أخلِص النيَّة لله تعالى، واحْذَر الرياء في القول والعمل؛ فإنَّ عليك من الله عينًا ناظرة؛ قال -صلى الله عليه وسلم- كما في مسند أحمد، وصحيح ابن حبَّان، ومُستدرك الحاكم: ((بَشِّر هذه الأُمة بالسَّناء والتمكين في البلاد، والنصر والرِّفعة في الدين، ومَن عَمِل منهم بعمل الآخرة للدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب))، والحديث صحَّحه الألباني في صحيح الجامع.
فانظر - رحمك الله - إلى هذا الربط الخطير بين التمكين والإخلاص، فبه تَعرف ما سبب تأخُّر التمكين؛ فإنَّ من أخطر الأسباب التي تَحول بين هذه الأُمَّة وبين التمكين في هذا العصر الذي يُعاني فيه المسلمون من الهوان - فسادَ النيَّة.
فيا أيُّها العامل لنصر الدين، الآمِل حصولَ التمكين، أخلِص النيَّة لله تعالى، وإلاَّ فالنارَ النارَ، أخلِص نيَّتك، وطهِّر قلبك من الرياء، واقصِد وَجْه الله تعالى بتوجُّهك، تَكسِب خيرَي الدنيا والآخرة، وإلاَّ فالخَسار والدَّمار، وخراب الدِّيار، واعْلم أنَّك تطلب ما عند الله تعالى، وما عند الله لا ولن يُنال إلاَّ بطاعته.
فالنيَّة هي الأصل، والله الحسيب والرقيب، مُطَّلعٌ على السرائر والضمائر، لا تَخفى عليه خافية، وكم من عملٍ يتصوَّر بصورة أعمال الدنيا، فيَصير بحُسن النيَّة من أعمال الآخرة، وكم من عملٍ يتصوَّر بصورة أعمال الآخرة، فيصير بسوء النيَّة من أعمال الدنيا، فلتَحذر.
قال عبدالله الأنطاكي: مَن طلَب الإخلاص في أعماله الظاهرة، وهو يُلاحظ الخلْق بقلبه، فقد رامَ المُحال؛ لأنَّ الإخلاصَ ماءُ القلب الذي به حياته، والرِّياء يُميته.
فلا بدَّ إذًا - للنجاة في الآخرة، وللانتفاع بما تتعلَّم في الدنيا، والنفع به - من الإخلاص - رزَقنا الله إيَّاه بمنِّه وكرَمه - ولكنَّ الإخلاص عزيز؛ ولذلك لا بدَّ من إعداد العدَّة لتحقيقه؛ بالبحث عن أسبابه، ومجاهدة النفس، وأُحيلك - أخي المُوحِّد - على كُتب الرقائق والتزكية؛ ففيها العون من الله تعالى لمن يُريد أن يُعان، وضَعْ نُصب عينيك أخي الحبيب قولَ الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]، فجاهِد في الله؛ ليَهديك السبيل إليه، والله المستعان.
4- التوكُّل:
قال تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، وقال تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ﴾ [الفرقان: 58]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
والآيات في التوكُّل كثيرة جدًّا، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في صفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذاب: ((هم الذين لا يَسترقون، ولا يَتطيَّرون، ولا يَكتوون، وعلى ربهم يتوكَّلون))؛ والحديث في الصحيحين.
وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني: ((لو أنَّكم توكَّلتم على الله حقَّ توكُّله، لرزَقكم كما يرزق الطير؛ تَغدو خِماصًا، وتعود بِطانًا)).
وقد جعَل الله التوكُّل شقيق العبادة، وعلامة كبرى على صِدق الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].
والاستعانة هي التوكُّل، وقال تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، ووعَد الله بالكفاية للمتوكِّلين عليه، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].
فالتوكُّل إذًا عبادة قلبيَّة، وهو سكون القلب إلى كفاية الله تعالى، وتفويض الأمور إلى الله تعالى لكفايته، والاعتماد عليه تعالى لعِلمه وقُدرته.
وحقيقة التوكُّل الثقة بكفاية الله تعالى، وحُسن تدبيره، والاعتماد بالكليَّة عليه، وتفويض الأمور كلها إليه، والاستعانة به فيها، مع الإيمان بقَضائه وقدره، والاعتقاد بأنَّ ما شاء الله كان، وما لَم يَشأ لَم يكن، ومع الأخْذ بالأسباب التي جعَلها الله مُوَصِّلَةً بحِكمته إلى مُسبِّباتها، والسعي فيما لا بدَّ منه، مما يدخل تحت مقدور العبد، وتوقِّي أسباب الشرور والهَلكة، وأخْذ الحذَر مما قد يُصيب الإنسان بسبب غِرَّته وتَهاونه.
فالتوكُّل لا يقوم على إهمال الأسباب، وإنما يقوم على إعمالها واحترامها؛ فإن كونها أسبابًا إنما هو بمشيئة الله وحِكمته.
ومن هنا نَعلم أن ما يدَّعيه الجهلةُ من المُتصوِّفةِ وغيرهم - من أنَّ الأخْذ بالأسباب يُنافي التوكُّل، وأنَّ كمال التوكُّل في القعود وترْك العمل - هو جهلٌ بحقيقة التوكُّل، وهو أجدرُ أن يُسمَّى عجزًا وتَواكُلاً.
ولقد كان فَهْم التوكُّل بهذا المعنى الصوفي الأحمق، سببًا كبيرًا في تأخُّر المسلمين وانحطاطهم في العصور الوسطى، التي فشا فيها الجهلُ والتقليد، وراجَ فيها الدَّجل الصوفي الخبيث.
إذًا فالتوكُّل الحقيقي أن يعلمَ أنَّ الأمر كله لله وحْده، وأنَّ ما شاء الله كان، وما لَم يَشأ لَم يكن، وأنه - سبحانه - وحْده هو المُعطي المانع، الخافض الرافع، المعز المذل، النافع الضار، مِن غير الْتفات إلى غيره في شيءٍ من ذلك، ثم يَعتمد بقلبه على ربِّه، ويَستند إليه، ويطمئنُّ إلى تدبيره، مُفوِّضًا أمرَه كلَّه لله في جلْب مصالح دينه ودنياه، ودفْع المضار، وهو يتطلَّب حُسْن الظنِّ بالله، ويُثمر للعبد الرضا بالله وعن الله، وهو مع ذلك باذلٌ جُهدَه في فعْل الأسباب النافعة كما أمرَه الشرع، لكنَّه لا يَعتقد فيها، ولا يطمئنُّ إليها، وعلامة هذا أنه لا يَضطرب قلبه ويَخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يَكره؛ فإن اعتمادَه وثقته بالله حصَّنته من خوف الأسباب أو دعائها، وتَرْك الأخْذ بالأسباب طعْنٌ في الشرع، والاعتقاد فيها طعنٌ في توحيد العبد.
وأعظم التوكُّل وأنفعه: التوكُّل على الله تعالى في نُصرة دينه وإعلاء كلمته، وزيادة الإيمان والعلم، ودخول الجنة والنجاة من النار؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: ((لن يُدخل أحدًا عملُه الجنةَ))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلاَّ أن يَتغمَّدني الله بفضْل ورحمة)).
ولَمَّا كان لا كافيَ إلاَّ الله، ولا قادرَ على شيء سواه، ولا عالِم بكلِّ شيء غيره - كان التوكُّل على غيره تعالى باطلاً وشِركًا، وكان المتوكِّل على غير الله تعالى - سكونًا، ووثوقًا، واعتمادًا - مُشركًا.
5- الصبر:
وقد ورَد من الآيات والأحاديث في الأمر به والحث عليه، ما لا يُمكن حصْره، ولكني أُشير فقط إلى بعضه، ففي سورة البقرة يقول الله تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 45]، ويقول: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]، ويقول: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، وفي سورة آل عمران: ﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 125].
فجُعِلَ مع التقوى شرطين لحصول النصر والإمداد بالملائكة، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]، وفي سورة الأنفال: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، وفي سورة هود: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود: 11]، وفي سورة السجدة: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]، وفي سورة الزمر: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: ((وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر))، وقال -صلى الله عليه وسلم- عند مسلم: ((والصبر ضياءٌ))، وفي صحيح مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: ((عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلاَّ للمؤمن؛ إن أصابَته سرَّاء شكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاء صبَر، فكان خيرًا له))، وفي الحديث الحسن عند الترمذي وابن ماجه: ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رَضِي فله الرضا، ومَن سَخِط فله السخط))، وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: ((واعْلَم أنَّ النصر مع الصبر، وأنَّ الفرَج مع الكرب، وأنَّ مع العسر يسرًا)).
وحقيقةُ الصبرِ حبسُ النفس على ما تَكره، مما فيه مَشقَّة أو ألَم؛ انتظارًا لموعود الله تعالى، حبْس القلب عن الجزَع والتسخُّط، فيرضى بالله وعن الله، ويُسلم بقضاء الله، وحبْس اللسان عن الشكوى للناس، لا إلى الله، وحبْس الجوارح عن المعصية.
والصبر على ثلاثة أنواع: أوَّلها: صبرٌ على الطاعات والقيام بأوامر الله تعالى، وهو أعلى أنواع الصبر، وثانيها: صبرٌ عن محارم الله، وكفُّ النفس عنها، وثالثها: صبرٌ على أقدار الله تعالى المُؤلمة، والتسليم فيها لقضاء الله وقَدره.
ومن هنا كان الصبر لازمًا للعبد في كلِّ أحواله، وكان نظام العبادات كلها لا قيامَ لها بدونه؛ ولهذا ورَد أنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وأنَّ الإيمان نصفان؛ نصفه صبرٌ، ونصفه شكرٌ.
وصبرُ المؤمن يكون بالله؛ ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127]؛ يعني: إن لَم يُصَبِّرْه اللهُ ويُوفِّقه للصبر، لَم يَصبر، ويكون لله؛ أي: حبًّا له، وإرادةً لوجهه، ورغبةً في ثوابه، لا لإظهار قوَّة النفس، أو استجلاب الحمْد من الناس.
والصبر مع الله هو أن يكون العبدُ - مع أحكام الله الدينيَّة - صابرًا نفسَه معها، سائرًا بسيرها، مقيمًا بإقامتها حيث كانت، وليس كمَن يَصبر على تعذيب نفسه في غير مَرضاة الله تعالى، مثل: صبْر المشركين القائلين: ﴿ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ﴾ [ص: 6].
6- التعاون على البر والتقوى والهجرة إلى الله ورسوله:
قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].
هذه الآية اشتمَلتْ على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم؛ فيما بينهم بعضهم بعضًا، وفيما بينهم وبين ربِّهم، فإن كلَّ عبدٍ لا يَنفك عن هاتين الحالتين، وهذان الواجبان: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلْق؛ فأمَّا ما بينه وبين الخلْق؛ من المُعاشرة، والمعاونة، والصُّحبة، فالواجب عليه فيها أنَّ يكون اجتماعه بهم وصُحبته لهم، تعاونًا على مرضاة الله وطاعته، التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادةَ له إلاَّ بها، وهي البر والتقوى اللذان هما جِماع الدين كلِّه، وإذا أُفْرِد كلُّ واحدٍ من الاسمين، دخَل في مسمَّى الآخر؛ إمَّا تضمُّنًا، وإمَّا لزومًا، ودخوله فيه تضمُّنًا أظهرُ؛ لأنَّ البر جزء مُسمَّى التقوى، وكذلك التقوى جزء مسمَّى البر، وكون أحدهما لا يدخل في الآخر عند الاقتران، لا يدلُّ على أنه لا يدخل عند انفراد الآخر، ونظير هذا لفظُ الإيمان والإسلام، والإيمان والعمل الصالح، والفقير والمسكين، والفسوق والعِصيان، والمنكر والفاحشة، ونظائره كثيرة.
وهذه قاعدة جليلة، مَن أحاطَ بها، زالتْ عنه إشكالات كثيرة أَشكَلت على كثيرٍ من الناس، ولأذكر من هذا مثالاً واحدًا يُستدَل به على غيره، وهو البر والتقوى، فإن حقيقة البر: هو الكمال المطلوب من الشيء، والمنافع التي فيه والخير، كما يدلُّ عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام، ومنه البُر - بالضم - لمنافعه وخيره بالإضافة إلى سائر الحبوب، ومنه رجل بار وبَر، وكِرام بَررة، والأبرار، فالبر: كلمة جامعة لجميع أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد، وفي مقابلته الإثم، وفي حديث النوَّاس بن سِمعان أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: ((جِئتَ تسأل عن البر والإثم))، فالإثم: كلمة جامعة للشرور والعيوب التي يُذَمُّ العبد عليها.
فيدخل في مسمَّى البرِّ الإيمانُ وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، ولا ريبَ أنَّ التقوى جزءُ هذا المعنى، وكثيرًا ما يُعبر عن برِّ القلب - وهو: وجود طعْم الإيمان فيه وحلاوته، وما يَلزم ذلك من طمأنينته وسلامته، وانشراحه وقوَّته وفرحه - بالإيمان؛ فإن للإيمان فرحةً وحلاوة ولذَّة في القلب، فمَن لَم يَجدها، فهو فاقدُ الإيمان أو ناقصه، وهو من القسم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: 14].
فهؤلاء - على أصحِّ القولين - مسلمون غير منافقين، وليسوا بمؤمنين؛ إذ لَم يدخل الإيمان في قلوبهم، فيُباشرها حقيقة.
وقد جمَع الله تعالى خِصال البرِّ في قوله: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
فأخبَر تعالى أنَّ البرَّ هو الإيمان بالله وملائكته، وكُتبه ورُسله واليوم الآخر، وهذه - مع القضاء والقدر - هي أصول الإيمان التي لا قوامَ للإيمان إلاَّ بها، وأنه الشرائع الظاهرة؛ من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنفقات الواجبة، وأنه الأعمال القلبيَّة التي هي حقائقه من الصبر والوفاء بالعهد، فتناوَلت هذه الخصالُ جميعَ أقسام الدين - حقائقه وشرائعه، والأعمال المتعلقة بالجوارح والقلب، وأصول الإيمان - ثم أخبَر تعالى عن كلِّ هذا أنه خِصال التقوى بعينها، فقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]
وأمَّا التقوى، فحقيقتها العمل بطاعة الله؛ إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيَفعل ما أمَر الله به؛ إيمانًا بالأمر، وتصديقًا بوعده، ويَترك ما نهى الله عنه؛ إيمانًا بالنهي، وخوفًا من وعيده؛ كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقَعت الفتنة، فأطْفِئوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تَعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثوابَ الله، وأن تَترك معصية الله على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله".
وهذا أحسنُ ما قيل في حدِّ التقوى؛ فإن كلَّ عملٍ لا بدَّ له من مبدأ وغاية، فلا يكون العمل طاعةً وقُربة؛ حتى يكون مصدرُه عن الإيمان، فيكون الباعث عليه هو الإيمان المَحض، لا العادة ولا الهوى، ولا طلب المَحمدة والجاه وغير ذلك، بل لا بدَّ أن يكون مبدَؤه محضَ الإيمان، وغايته ثوابَ الله وابتغاءَ مَرضاته، وهو الاحتساب؛ ولهذا كثيرًا ما يُقرَن بين هذين الأصلين في مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا)) و: ((مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا))، ونظائره.
فقوله: "على نور من الله" إشارة إلى الأصل الأوَّل، وهو الإيمان الذي هو مصدرُ العمل والسبب الباعث عليه، وقوله: "ترجو ثواب الله" إشارة إلى الأصل الثاني، وهو الاحتساب، وهو الغاية التي لأجْلها يُوقع العمل، ولها يقصد به، ولا ريبَ أنَّ هذا اسمٌ لجميع أصول الإيمان وفروعه، وأنَّ البر داخل في هذا المسمَّى.
وأمَّا عند اقتران أحدهما بالآخر - كقوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2] - فالفرق بينهما فرقٌ بين السبب المقصود لغيره، والغاية المقصودة لنفسها، فإن البرَّ لذاته؛ إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاحَ له بدونه كما تقدَّم، وأمَّا التقوى، فهي الطريق الموصِّل إلى البر والوسيلة إليه، ولفظُها يدلُّ على هذا؛ فإنها فَعْلى من وَقى يَقِي، وكان أصلها وَقْوَى، فقلَبوا الواو تاءً، كما قالوا: تُراث من الوراثة، وتُجاه من الوجه، وتُخمة من الوخمة، ونظائرها، فلفظها دالٌّ على أنها من الوقاية؛ فإن المتَّقي قد جعَل بينه وبين النار وقايةً، والوقاية من باب دفْع الضُّر، فالتقوى والبر كالعافية والصِّحة.
وهذا بابٌ شريف، يُنتفع به انتفاعًا عظيمًا في فَهْم ألفاظ القرآن ودَلالته، ومعرفة حدود ما أنزَل الله على رسوله؛ فإنه هو العلم النافع، وقد ذمَّ الله تعالى في كتابه مَن ليس له علمٌ بحدود ما أنزَل الله على رسوله؛ فإنَّ عدمَ العلم بذلك مُستلزمٌ مَفسدتين عظيمتين:
الأولى: أن يُدخِل في مسمَّى اللفظ ما ليس منه، فيَحكم له بحُكم المراد من اللفظ، فيُساوي بين ما فرَّق الله بينهما
والثانية: أن يُخرج من مسمَّى اللفظ بعضَ أفراده الداخلة تحته، فيَسلب عنه حُكمه، فيُفرِّق بين ما جمَع الله بينهما.
والذكي الفَطِن يتفطَّن لأفراد هذه القاعدة وأمثالها، فيرى أنَّ كثيرًا من الاختلاف أو أكثره، إنما يَنشأ من هذا الوضع، وتفصيل هذا لا يفي به كتابٌ ضخم، فالله المستعان.
ومن هذا لفظُ الخمر، فإنه اسمٌ شامل لكلِّ مُسكر، فلا يجوز إخراج بعضِ المسكرات منه، ويُنْفى عنها حُكمه، وكذلك لفظ المَيسر، وإخراج بعض أنواع القمار منه، وكذلك لفظ النِّكاح، وإدخال ما ليس بنكاحٍ في مُسمَّاه، وكذلك لفظ الرِّبا، وإخراج بعض أنواعه منه، وإدخال ما ليس بربا فيه، وكذلك لفظ الظلم والعدل، والمعروف والمنكر، ونظائره أكثر من أن تُحصى.
والمقصود من اجتماع الناس وتعاشُرهم، هو التعاون على البر والتقوى، فيُعين كلُّ واحد صاحبَه على ذلك علمًا وعملاً؛ فإن العبد وحْده لا يستقلُّ بعلم ذلك، ولا بالقدرة عليه، فاقتضَت حكمة الربِّ - سبحانه وتعالى - أن جعَل النوعَ الإنساني قائمًا بعضه ببعضه، مُعينًا بعضه لبعضه.
ثم قال تعالى: ﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، والإثم والعدوان في جانب النهى نظيرُ البر والتقوى في جانب الأمر، والفرق بين الإثم والعدوان كالفرق بين مُحرَّم الجنس ومُحرَّم القَدْر؛ فالإثم ما كان حرامًا لجنسه، والعُدوان ما حُرِّم لزيادةٍ في قدْره وتعدِّي ما أباحَ الله، فالزنا والخمر والسرقة ونحوها - إثم، ونكاح الخامسة، واستيفاء المجني عليه أكثر من حقِّه ونحوه - عُدوان، فالعدوان هو تَعدِّي حدود الله التي قال عنها: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229]، وقال في موضعٍ آخرَ: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187].
فنهى عن تعدِّيها في آية، وعن قُربانها في آية؛ وهذا لأنَّ حدوده - سبحانه - هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام، ونهاية الشيء تارة تدخل فيه، فتكون منه، وتارة لا تكون داخلة فيه، فتكون لها حُكم المقابلة، فباعتبار الأوَّل نَهَى عن تعدِّيها، وباعتبار الثاني نَهى عن قُربانها، فهذا حُكم العبد فيما بينه وبين الناس، وهو أن تكون مُخالطته لهم تعاونًا على البر والتقوى: علمًا وعملاً، وأمَّا حاله فيما بينه وبين الله تعالى، فهو إيثار طاعته، وتجنُّب معصيته، وهو قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 189]، فأرشَدت الآية إلى ذِكر واجب العبد بينه وبين الخلق، وواجبه بينه وبين الحقِّ، ولا يتمُّ له أداءُ الواجب الأوَّل، إلاَّ بعزْل نفسه من الوسط، والقيام بذلك لمحض النصيحة والإحسان، ورعاية الأمر، ولا يتمُّ له أداء الواجب الثاني، إلاَّ بعزْل الخلق من البَين، والقيام له بالله؛ إخلاصًا، ومحبَّة، وعبوديَّة.
فيَنبغي التفطُّن لهذه الدقيقة، التي كل خَللٍ يدخل على العبد في أداء هذين الأمرين الواجبين، إنما هو من عدم مراعاتها علمًا وعملاً، والله المستعان.
الهجرة إلى الله ورسوله:
لَمَّا فصَل عيرُ السفر، واستوطَن المسافر دار الغربة، وحِيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلِّقة بالوطن ولوازمه - أحدث له ذلك نظرًا، فأجالَ فكرَه في أهمِّ ما يقطع به منازلَ السفر إلى الله، ويُنفق فيه بقيَّة عمره، فأرشَده مَن بيده الرشد إلى أنَّ أهمَّ شيء يَقصده، إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرْضُ عينٍ على كلِّ أحدٍ في كلِّ وقتٍ، ولا انفكاكَ لأحدٍ عن وجوبها، وهي مطلوب الله تعالى ومراده من العباد؛ إذ الهجرة هجرتان: هجرة بالجسم من بلدٍ إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، وليس المراد الكلام فيها، والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقيَّة، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها؛ لأنَّ مَن هاجَر بالبدن لا بدَّ أنه هاجَر بقلبه أولاً.
وهذه الهجرة تتضمَّن "مِن" و"إلى"، فيهاجر بقلبه من محبَّة غير الله إلى محبَّته، ومن عبوديَّة غيره إلى عبوديَّته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكُّل عليه، إلى خوف الله ورجائه والتوكُّل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله، والخضوع له، والذل والاستكانة له، إلى دعائه وسؤاله والخضوع له، والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه؛ قال تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات: 50]، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
وتحت "من" و"إلى" في هذا، سرٌّ عظيم من أسرار التوحيد؛ فإنَّ الفرار إليه - سبحانه - يتضمَّن إفرادَه بالطلب والعبوديَّة ولوازمها، فهو متضمِّن لتوحيد الألوهية التي اتَّفقَت عليها دعوة الرُّسل - صلوات الله وسلامه عليهم.
وأمَّا الفرار منه إليه، فهو متضمِّن لتوحيد الربوبيَّة وإثبات القدَر، وأنَّ كلَّ ما في الكون من المكروه والمحذور، الذي يفرُّ منه العبد - فإنَّما أوجَبته مشيئة الله وحْده، فإنه ما شاء كان، ووجَب وجوده بمشيئته، وما لَم يَشأ لَم يكن، وامتَنع وجوده لعدم مشيئته، فإذا فرَّ العبد إلى الله، فإنَّما يَفر من شيءٍ إلى شيء وُجِد بمشيئة الله وقَدره، فهو في الحقيقة فارٌّ من الله تعالى إليه - سبحانه.
ومن تصوَّر هذا حقَّ تصوُّره، فَهِمَ معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((وأعوذ بك منك))، وقوله: ((لا مَلجأ ولا مَنجى منك إلاَّ إليك))، فإنه ليس في الوجود شيء يُفَرُّ منه ويُستعاذ منه، ويُلتجأ منه - إلاَّ هو من الله خلقًا وإبداعًا، فالفارُّ والمستعيذ فارٌّ مما أوجَده قدرُ الله ومشيئته وخلقه، إلى ما تَقتضيه رحمته وبرُّه، ولُطفه وإحسانه، ففي الحقيقة هو هاربٌ من الله إليه، ومستعيذٌ بالله منه، وتصوُّر هذين الأمرين يُوجِب للعبد انقطاع تعلُّق قلبه عن غيره بالكليَّة؛ خوفًا، ورجاءً، ومحبَّة، فإنه إذا عَلِم أنَّ الذي يفرُّ منه ويَستعيذ منه، إنما هو بمشيئة الله وقُدرته وخَلقه، لَم يَبق في قلبه خوفٌ من غير خالقه ومُوجده، فتضمَّن ذلك إفراد الله وحْده بالخوف والحب والرجاء، ولو كان فرارُه مما لَم يكن بمشيئة الله وقُدرته، لكان ذلك موجبًا لخوفه منه، مثل: أن يفرَّ من مخلوق إلى مخلوقٍ آخر أقدرَ منه، فإنه في حال فراره من الأوَّل خائفًا منه، حَذِرٌ ألاَّ يكون الثاني يُعيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفرُّ منه هو الذي قضى وقدَّر وشاء ما يفرُّ منه، فإنه لا يبقى في القلب الْتِفات إلى غيره.
فتفطَّن إلى هذا السر العجيب في قوله: ((وأعوذ بك منك))، و((لا مَلجأ ولا مَنجى منك إلاَّ إليك))؛ فإنَّ الناس قد ذكَروا في هذا أقوالاً، وقلَّ مَن تعرَّض منهم لهذه النكتة التي هي لُبُّ الكلام ومقصوده، وبالله التوفيق.
فتأمَّل كيف عاد الأمر كلُّه إلى الفرار من الله إليه، وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((المُهاجر: مَن هجَر ما نهى الله عنه))؛ ولهذا يَقرن الله - سبحانه - بين الإيمان والهجرة في غير موضعٍ؛ لتلازُمهما واقتضاء أحدهما للآخر.
والمقصود: أنَّ الهجرة إلى الله تتضمَّن هِجرانَ ما يَكرهه، وإتيانَ ما يحبُّه ويرضاه، وأصلها الحب والبُغض، فإنَّ المهاجر من شيء إلى شيءٍ، لا بدَّ أن يكون ما هاجَر إليه أحبَّ إليه مما هاجَر منه، فيُؤْثِر أحَبَّ الأمرين إليه على الآخر، وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه، إنما يَدعوانه إلى خلاف ما يحبُّه ويرضاه، وقد بُلِي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غير مَرضاة ربِّه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مَرضاة ربِّه، فعليه في كلِّ وقتٍ أن يُهاجر إلى الله تعالى، ولا يَنفك في هِجرته إلى المَمات.
وهذه الهجرة تَقوَى وتَضعُف بحسب داعي المحبَّة في قلب العبد؛ فإنَّ كان الداعي أقوى، كانت هذه الهجرة أقوى وأتمَّ وأكمل، وإذا ضَعُف الداعي ضَعُفت الهجرة؛ حتى لا يكاد يَشعر بها علمًا، ولا يتحرَّك لها إرادةً.
والذي يُقضَى منه العجب أنَّ المرء يوسِّع الكلام ويُفرِّع المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفى الهجرة التي انقطَعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة، رُبَّما لا تتعلَّق به في العُمر أصلاً، وأمَّا هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس، فإنه لا يُحَصِّل فيها علمًا ولا إرادةً، وما ذاك إلا للإعراض عمَّا خُلِق له، والاشتغال بما لا يُنجيه وحْده عمَّا لا يُنجيه غيره، وهذا حال مَن عَشَتْ بصيرتُه، وضَعُفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال، والله المستعان، وبالله التوفيق.
وأمَّا الهجرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلَمٌ لَم يَبق منه سوى اسْمه، ومنهج لَم تترك بنيات الطريق سوى رَسْمه، ومَحجَّة سفَت عليها السوافي، فطَمَست رسومها، وغارَت عليها الأعادي، فغَورتْ مناهلها وعيونها، فسالكُها غريبٌ بين العباد، فريدٌ بين كلِّ حي ونادٍ، بعيدٌ على قُرب المكان، وحيدٌ على كثرة الجيران، مُستوحش مما به يَستأنسون، مُستأنس مما به يَستوحشون - الحُجة والدليل - مُقيمٌ إذا ظَعنوا، ظاعنٌ إذا قطَنوا، منفردٌ في طريق طلبه، لا يَقَرُّ قراره حتى يَظفر بأَرَبه، فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمَقصِده، نامَت في طلب الهدى أعينُهم وما ليلُ مطيَّته بنائم، وقعَدوا عن الهجرة النبوية وهو في طلبها مُشمِّر قائمٌ، يَعيبونه بمخالفة آرائهم، ويُزرون عليه إزراءَه على جهالاتهم وأهوائهم، قد رَجموا فيه الظنون، وأحْدَقوا فيه العيون، وتربَّصوا به ريبَ المنون؛ ﴿ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴾ [التوبة: 52]، ﴿ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 112].
والمقصود: أنَّ هذه الهجرة النبوية شأنها شديدٌ، وطريقها على غير المشتاق بعيدٌ، ولعمر الله، ما هي إلاَّ نور يتلأْلأ، ولكن أنت ظلامه، وبدرٌ أضاءَ مشارق الأرض ومغاربها، ولكن أنت غَيْمه وقَتَامه، ومَنهل عذبٌ صافٍ وأنت كَدَرُه، ومبتدأ لخيرٍ عظيمٍ ولكن ليس عندك خبره.
فاسْمَع الآن شأن هذه الهجرة والدَّلالة عليها، وحاسب ما بينك وبين الله، هل أنت من الهاجرين لها، أو المهاجرين إليها؟!
فحدُّ هذه الهجرة سفرُ النفس في كلِّ مسألة من مسائل الإيمان، ومنزلٍ من منازل القلوب، وحادثة من حوادث الأحكام - إلى معدن الهدى، ومَنبع النور المُتلقَّى من فم الصادق المصدوق الذي: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3 - 4].
فكلُّ مسألة طلَعت عليها شمس رسالته، وإلاَّ فاقْذِف بها في بحر الظلمات، وكلُّ شاهد عدَّله هذا المُزكِّي، وإلاَّ فعُدَّه من أهل الريب والتهمات، فهذا حدُّ هذه الهجرة.
فما للمُقيم في مدينة طبعه وعوائده، القاطن في مرباه ومولده، القائل: إنَّا على طريقة آبائنا سالكون، وإنا بحبلهم مُتمسكون، وإنا على آثارهم مُقتدون، وما لهذه الهجرة التي كلَّت عليهم، واستنَد في طريقة نجاحه وفلاحه إليهم، مُعتذرًا بأنَّ رأيهم خيرٌ من رأي النبي لنفسه، وأن ظنونَهم وآراءَهم أوثقُ من ظنه وحَدسه، ولو فتَّشت عن مصدر مقصود هذه الكلمة، لوجَدتها صادرة عن الإخلاد إلى أرض البطالة، متولِّدة بين الكسل وزوجه المَلالة!
والمقصود: أنَّ هذه الهجرة فرضٌ على كلِّ مسلمٍ، وهي مقتضى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما أنَّ الهجرة الأولى مقتضى شهادة أنْ لا إله إلا الله، وعن هاتين الهجرتين يُسأل كلُّ عبدٍ يوم القيامة وفي البَرزخ، ويُطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار، وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين.
وقد قال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
فأقسَم تعالى بأجلِّ مُقسم به وهو نفسه - عزَّ وجلَّ - على أنه لا يَثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله؛ حتى يُحكِّموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع موارد النزاع، وهو كل ما شجَر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين؛ فإن لفظة "ما" من صِيَغ العموم؛ فإنها موصولة تقتضي نفي الإيمان إذا لَم يوجد تحكيمه في جميع ما شجَر بينهم، ولَم يقتصر على هذا؛ حتى ضمَّ إليه انشراح صدورهم بحُكمه؛ حيث لا يَجدون في أنفسهم حرَجًا - وهو الضِّيق والحصر - من حُكمه، بل يَقبلون حُكمه بالانشراح، ويُقابلونه بالتسليم، لا أنهم يأخذونه على إغماضٍ، ويَشربونه على قذًى؛ فإن هذا مُنَافٍ للإيمان، بل لا بدَّ أن يكون أخْذه بقَبولٍ ورضًا، وانشراح صدرٍ.
ومتى أرادَ العبد أن يعلمَ هذا، فليَنظر في حاله، ويُطالع قلبه عند ورود حُكمه -صلى الله عليه وسلم- على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلَّد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها؛ ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14 - 15].
فسبحان الله، كم من حزازةٍ في نفوس كثيرٍ من الناس من كثيرٍ من النصوص، وبودِّهم أنها لو لَم تَرِد! وكم من حرارة في أكبادهم منها! وكم من شَجًى في حلوقهم منها ومن موردها!
سَتَبْدُو لَهُمْ تِلْكَ السَّرَائِرُ بِالَّذِي *** يَسُوءُ وَيُخْزِي يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
ثم لَم يَقتصر - سبحانه - على ذلك؛ حتى ضمَّ إليه قوله تعالى: ﴿ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، فذكَر الفعل مؤكّدًا بمصدره القائمِ مقامَ ذِكره مرَّتين، وهو التسليم والخضوع له، والانقياد لِما حكَم به طوعًا ورضًا وتسليمًا، لا قهرًا ومُصابرة، كما يُسلِّم المقهور لِمَن قَهَره كرهًا، بل تسليم عبدٍ مُطيع لمولاه وسيِّده، الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أنَّ سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويَعلم أنَّه أَوْلى به من نفسه، وأبرُّ به منها، وأقدرُ على تخليصها، فمتى عَلِم العبد هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستَسْلم له، وسلَّم إليه، انقادَت له كلُّ عِلَّة في قلبه، ورأى أنْ لا سعادةَ له إلاَّ بهذا التسليم والانقياد.
وليس هذا مما يُحصَّلُ معناه بالعبارة، بل هو أمرٌ انشقَّ القلب واستقرَّ في سويدائه، لا تفي العبارة بمعناه، ولا مَطمع في حصوله بالدعوى والأماني، وفرْق بين علم الحب وحال الحب، فكثيرًا ما يَشتبه على العبد علمُ الشيء بحاله ووجوده، وفرْق بين المريض العارف بالصِّحة والاعتدال وهو مُثْخن بالمرض، وبين الصحيح السليم، وإن لَم يُحسن وصف الصحة والعبارة عنها، وكذلك فرْقٌ بين وصْف الخوف والعلم به، وبين حاله ووجوده.
وتأمَّل تأكيده - سبحانه - لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوهٍ عديدة من التأكيد:
أولها: تصديرها بلا النافية، وليستْ زائدة كما يظنُّ مَن يظن ذلك، وإنما دخولها لسرٍّ في القسم، وهو الإيذان بتضمُّن المقسم عليه للنفي، وهو قوله: ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، وهذا منهج معروف في كلام العرب، إذا أقسَموا على شيء منفي، صدَّروا جملة القسم بأداة نفي مثل هذه الآية وغيرها.
وثانيها: تأكيده بنفس القسم.
وثالثها: تأكيده بالمُقسم به، وهو إقسامه بنفسه لا بشيءٍ من مخلوقاته، وهو - سبحانه - يُقسم بنفسه تارة، وبمخلوقاته تارة أخرى.
ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرَج ووجود التسليم
وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر، وما هذا التأكيد إلاَّ لشدَّة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم، وإنه مما يُعتنى به، ويُقرَّر في نفوس العباد بما هو أبلغُ أنواع التقرير.
وقال تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، وهو دليلٌ على أنَّ مَن لَم يكن الرسول أوْلى به من نفسه، فليس من المؤمنين، وهذه الأولويَّة تتضمَّن أمورًا؛ منها: أن يكون أحبَّ إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولويَّة أصلها الحب، ونفس العبد أحبُّ له من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرسول أوْلى به منها، وأحبَّ إليه منها، فبذلك يَحصل له اسم الإيمان، ويَلزم من هذه الأولويَّة والمحبَّة كمال الانقياد والطاعة، والرضا والتسليم، وسائر لوازم المحبَّة؛ من الرضا بحُكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على ما سواه.
ومنها: ألاَّ يكون للعبد حُكمٌ على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول -صلى الله عليه وسلم- يَحكم عليها أعظمَ من حكم السيِّد على عبده، أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه تصرُّف قطُّ، إلاَّ ما تصرَّف فيه الرسول الذي هو أوْلى به منها.
فيا عجبًا، كيف تحصل هذه الأولويَّة لعبدٍ قد عزَل ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن منصب التحكيم، ورَضِي بحُكم غيره، واطْمَأَنَّ إليه أعظمَ من اطمئنانه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وزعَم أنَّ الهدى لا يُتلقَّى من مِشكاته، وإنما يُتلقَّى من دَلالة العقول، وأنَّ الذي جاء به لا يُفيد اليقين، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمَّن الإعراضَ عنه وعمَّا جاء به، والحَوالة في العلم النافع إلى غيره، ذلك هو الضلال البعيد، ولا سبيل إلى ثبوت هذه الأولويَّة إلاَّ بعزل كلِّ ما سواه، وتولِّيه في كلِّ شيء، وعرْض ما قاله كلُّ أحد سواه على ما جاء به، فإن شَهِد له بالصِّحة، قَبِله، وإن شَهِد له بالبُطلان، ردَّه، وإن لَم تتبيَّن شهادته لا بصِّحة ولا بِبُطلان، جعَله بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، ووقَفه؛ حتى يتبيَّن أيُّ الأمرين أوْلَى به؟
فمَن سلَك هذه الطريق، استقام له سفرُ الهجرة، واستقام له علمُه وعمله، وأقبَلتْ وجوه الحق إليه من كلِّ جهة، ومن العجب أن يدَّعي حصول هذه الأولويَّةِ والمحبَّة التامَّةِ - مَن كان سعيه واجتهاده ونَصَبه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها، والغضب والمحبَّة لها، والرضا بها، والتحاكم إليها، وعرْض ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليها، فإن وافَقها، قَبِله، وإن خالَفها، الْتَمس وجوه الحِيَل وبالَغ في ردِّه؛ لَيًّا وإعراضًا، وقد قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135].
وقد اشتَمَلتْ هذه الآيةُ على أسرار عظيمة، يجب التنبيه على بعضها، ولكني أُحيلك على تفسير ابن القيِّم - رحمه الله - فارجِع إليه، تفَد - إن شاء الله.
7- الرجاء والرغبة وحُسن الظن بالله تعالى:
قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه ﴾ [الإسراء: 57]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218]، وقال تعالى: ﴿ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾ [الأنبياء: 90]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يمُوتَنَّ أحدُكم إلاَّ هو يُحسن الظنَّ بالله)).
والرجاء هو الاستبشار بجُود الله تعالى وفضْله، والرغبة إليه في كرَمه ومَنِّه، والطمع في إحسانه وعطائه، مع بذْل الجُهد وحُسن التوكُّل، فإن كان مع الكسل، فليس رجاءً، وإنما هو تَمَنٍّ؛ قال تعالى: ﴿ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ ﴾ [الحديد: 14].
والرجاء نوعان: رجاء المُحسن ثوابَ ربِّه على إحسانه، ورجاء المذنب التائب قَبولَ توبته والعفو والمغفرة.
فالرجاء إذًا هو الأمل في الخير، وترقُّب حصوله وانتظاره ممن يَقدر على تحقيقه لِمَن أمَّله فيه ورجاه منه
والرغبة: حبُّ الخير وإرادته، والطمع في تحصيله ممن يَملكه ويَقدر على إعطائه وهِبَته، فهي مثل الرجاء، وكلاهما مما تعبَّد اللهُ تعالى به المؤمنين؛ حيث قال في كتابه العزيز من سورة الكهف: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]
وأمَر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالرغبة إليه في قوله: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: 7 - 8].
ولَمَّا كان الخير كله بيد الله تعالى، وليس بيد أحدٍ سواه، وكان الله وحْده القادر على إعطائه مَن يشاء من عباده، كان رجاء الخير ورغبته من غير الله تعالى ضلالاً وباطلاً، وكان فاعله مشركًا في هذه العبادة غير ربِّه - تبارَك وتعالى.
8- الإنابة:
وهي الإقبال على الله تعالى، والتوبة والرجوع إليه، وهي عبادة أمرَ الله تعالى بها في قوله: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزمر: 54].
وأخبَر أنه يهدي إليه مَن يُنيب، وأمَر باتِّباع سبيل مَن أناب إليه؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾ [الرعد: 27]، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾ [لقمان: 15].
ولَمَّا لَم يكن في الخلق كلِّه مَن يعطي أو يَمنع، أو يَضرُّ أو ينفع إلاَّ بإذن الله تعالى، ولا مَن يُسعد أو يُشقي إلاَّ الله - سبحانه - كان من غير المعقول ولا المقبول أن يُنيب المرءُ إلى غير الله تعالى؛ رغبةً أو رَهبة، خوفًا أو طمعًا، وكانت الإنابة إلى غير الله تعالى باطلاً وشركًا، وكان كلُّ مَن أنابَ إلى غير الله تائبًا إليه - أي: إلى ذلك الغير - راجيًا الخيرَ منه، خائفًا من سخطه أو عقابه، فقد أشرَك.
9- الحمد والشكر:
قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]، وقال تعالى: ﴿ وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [النحل: 114]، وقال تعالى: ﴿ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].
وعند مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ الله لَيرضى من العبد أن يأكلَ الأكلة، فيَحمده عليها، ويشرب الشَّربة، فيَحمده عليها)).
وخلاصة الكلام في الحمد: أنه وصفُ المحمود بالكمال محبَّة وتعظيمًا؛ لأنَّ الوصف بالكمال بغيرهما - كالخوف مثلاً، أو الرهبة - يَجعله مدحًا لا حمدًا، فالحمد لا بدَّ أن يكون مقرونًا بمحبَّة المحمود وتعظيمه، وهو أيضًا الوصف بالجميل على الجميل الاختياري للتعظيم.
وحمْد الله تعالى هو الثناء عليه بصفات كماله، وسبوغ نِعَمه، وسَعة جُوده، وبديع حِكمته؛ لأنه تعالى كاملُ الأسماء والصفات والأفعال، ليس في أسمائه اسمٌ مذموم، بل كلها أسماءٌ حُسنى، ولا في صفاته صفة نقْصٍ وعيبٍ، بل هي صفات كاملة من جميع الوجوه، وهو تعالى جميل الأفعال؛ لأنَّ أفعاله دائرة بين العدل والإحسان، وهو محمود على هذا وعلى هذا، فله أتَمُّ حمْدٍ وأكمله.
والحمد أعمُّ من الشكر؛ لأن متعلّق الشكر يكون على النعم فقط، ومتعلّق الحمد يكون على النِّعم وغيرها، والشكر من ناحية أخرى أعمُّ من الحمد؛ لأنَّ الشكر يكون باللسان والجَنان والأركان، وأمَّا الحمد، فهو باللسان والجَنان فقط.
والحمد في الأصل مصدرٌ منصوب بفعْلٍ مقدَّر، حُذِف حذفًا قياسيًّا؛ كما صرَّح بذلك الرَّضي ورجَّحه، أو سماعيًّا كما ذهَب إليه غيره، وحُلِّي بالألف واللام؛ ليُفيد الاختصاص الثبوتي، وهو مُستلزم للقصر، فيكون الحمد مقصورًا عليه تعالى؛ إمَّا باعتبار أن كلَّ حمْد لغيره آيِلٌ إليه، أو مُنزَّلٌ منزلة العدم؛ مبالغةً وادِّعاءً، أو لأن الحمْد له - سبحانه - هو الفرد الكامل.
والشكر هو شهود القلب لنِعَم الله، ومعرفة أنها منه وحْده، ومحبَّته على ذلك، واعتراف اللسان بها، والثناء بها عليه، وانقياد الجوارح وخضوعها له - سبحانه - فهو من أعمال القلب واللسان والجوارح.
وأهل الإيمان يشكرون الله تعالى على هدايتهم للتوحيد والإيمان ونعمة الدين، ويشكرونه على المطعم والمشرب، والملبس وقوَّة البدن، وغيرِها من نِعَم الدنيا.
والحمد والشكر يُستعملان بمعنًى واحدٍ - وخصوصًا عند الإطلاق - وقد رجَّح كثيرٌ من العلماء أنَّ الفرق بينهما: أنَّ الحمد لله الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمُتعدية، والشكر على الإحسان والنِّعم، ويكون بالقلب واللسان والجوارح.
والمؤمن لا يرى نفسه قد قام بحقِّ الله أبدًا؛ بل سيِّد الشاكرين -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثْنَيتَ على نفسك))؛ كما روى مسلم.
ومن هذه العبادات القلبيَّة أيضًا: التوبة، والمُراقبة، والمحاسبة، والتفكير، والإخبات، والذل، والزهد، والوَرع، وتعظيم حُرمات الله، والتواضُع والافتقار إلى الله، والغنى عن الخلْق، والشوق إلى لقاء الله، وغيرها من العبادات التي تُؤدَّى بالقلب، وكذلك كفُّ القلب عن المحرَّمات؛ كالحسد، والغل، والضغينة، والرياء، وسوء الظنِّ بالله، والشك، والإصرار على المعاصي، وسوء الظن بالمسلمين، ومودَّة الكافرين، وغير ذلك.
واعلَم أنَّ هذه العبادات القلبيَّة روحُ التوحيد، وحقيقةُ توحيد القصد والطلب، وتوحيد الألوهيَّة، ومعنى زكاة النفس: هو حصول هذه العبادات فيها، وإنما يتفاضَل الناس يوم القيامة بما في قلوبهم من معرفة الله وعبادته.
وهذه العبادات القلبيَّة أكثرها - إن لَم يكن أجمعها - واجبةٌ، لا تَنقص من القلب إلا انتقَص الإيمان، فلا تظنَّ أنَّ التوحيد هو مجرَّد ترْك ما يَفعله الجُهَّال عند القبور، بل حقيقته - مع ترْك هذا الشِّرك وغيره - هي هذه العبادات القلبيَّة، أن تُصرف لله وحْده، ولا يُصرف شيء منها لغيره، وهى مسؤوليَّة شخصيَّة لكلِّ واحدٍ منَّا أن يسعى في تزكية نفسه بهذا الأمر العظيم، الذي مهما طالَت العبارة في شرْحه، فلن تَفي المقام حقَّه.
ولا توجد هذه العبادات بمجرَّد المعرفة؛ ففرقٌ بين العلم والحال، ولكن بدوام تعاهُد القلب وأحواله، والتفكُّر والتدبُّر، مع أداء العبادات الظاهرة، عسى الله تعالى أن يمنَّ علينا بصلاح قلوبنا وتزكية نفوسنا، فاللهمَّ آتِ نفوسنا تقواها، وزَكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، آمين.