(3) العبادات القولية
محمود العشري
يَذكر الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُليا، غير مُقترن ذلك بطلب حاجةٍ من حوائج الدنيا أو الآخرة؛ كأن يَسأله الهداية، أو النصر، أو سَعةً في الرزق،
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
ثانيًا: العبادات القولية:
وأعني بها كما قدَّمت: العبادات التي تتعلَّق باللسان، وهي كثيرة جدًّا، وأذكر منها أهمَّها؛ ليكون أنموذجًا لِما دونه، فمنها:
1- الدعاء؛ قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الدعاء هو العبادة))؛ رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وصحَّحه الألباني.
والدعاء قسمان:
1- دعاءُ ثناءٍ: وهو أن يَذكر الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُليا، غير مُقترن ذلك بطلب حاجةٍ من حوائج الدنيا أو الآخرة؛ كأن يَسأله الهداية، أو النصر، أو سَعةً في الرزق، أو غُفران ذنبٍ، أو قضاءَ الدين، أو نحو ذلك؛ إنما يقصد به مجرَّد الثناء عليه بما هو أهْله، كقولك: يا حيُّ يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، اللهمَّ لا مانع لما أعْطَيتَ، ولا معطي لِما منَعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ونحو ذلك.
ولا شكَّ أنَّ هذا الدعاء مَحض عبادة، ويُشبه أن يكون هو المقصود بمثل قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]؛ لقوله تعالى بعد ذلك: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، وفي الحديث: ((الدعاء هو العبادة))، ومن هنا كانت العبادة بدونه ليستْ شيئًا، ولا تَستقيم، ولا تتمُّ إلاَّ به، وهو كذلك.
2- دعاء ثناء وطلبٍ: وهو أن يسال الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة، ولعل هذا النوع من الدعاء هو المقصود بقوله تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 55، 56].
ومعنى (تضرُّعًا): تذلُّلاً، وهو أن يشعرَ الداعي بحاجته وفقره إلى الله، ومعنى (خُفية): سرًّا ومَخافة، فهو أحبُّ إلى الله تعالى من دعاء الجهر؛ كما قال - سبحانه - عن زكريا: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴾ [مريم: 3].
وفى الحديث المُتفق عليه: ((أيُّها الناس، ارْبَعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تَدعون أصمَّ ولا غائبًا، ولكن تَدعون سميعًا بصيرًا)).
وهذا النوع هو عبادة أيضًا، فإنه يقتضي ذلَّ السائل وضرَاعته، وشعوره بالحاجة والفقر إلى مَن يسأله، كما يقتضي من الجهة الأخرى غنى المسؤول وقُدرته، وجُوده وكرمه، وفضْله ورحمته، وغير ذلك من الصفات التي تَجعله أهلاً لأن يَلقى السائل عنده حوائجه، ويَضرع إليه في قضائها، فهذا النوع فيه من الرجاء والخشية، والرغبة والرَّهبة، والذل والعجز، والضراعة والاستكانة - ما يَجعله عبادةً من أعظم العبادات؛ ولهذا ورَد الحثُّ عليه في كثيرٍ من الآيات والأحاديث، وقد ورَد في هذا الباب من الأدعية المأثورة في كلِّ مقامٍ ما يُناسبه، وفيها غنى لِمَن يُريد الدعاء عن الأدعية الشِّركيَّة المُبتدعة التي تَمتلئ بها كتب الصوفية، والتي يُسمونها "أورادًا"، ويريدون بها صرفَ الناس عن أدعية الكتاب والسُّنة.
ولشيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - رسالة في الأدعية المأثورة تُسمَّى: "الكَلِم الطيِّب"، ولتلميذه ابن القيِّم - رحمه الله - رسالة كذلك تسمَّى: "الوابل الصيِّب من الكَلِم الطيِّب".
ولَمَّا كان تحقيق الرغائب وقضاء الحاجات أمرًا يتوقَّف حصوله على أن يكون المدعو لذلك المسؤولُ منه مالكًا لجميع الرغائب وكل الحاجات، قادرًا على تحقيق الرغائب وقضاء الحاجات، عالِمًا بحال السائل الداعي الراغب، يَسمع كلامه ويرى مكانه، ولَمَّا لَم تكن هذه الصفات لِتتوافَر لأحدٍ سوى الله - عزَّ وجلَّ - بَطَل أن يُدعى غيرُ الله تعالى عقلاً وشرعًا؛ قال تعالى في سورة الجن: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18].
وبهذا كان دعاء غير الله تعالى - سواء كان ملكًا أو نبيًّا، أو وليًّا - شِركًا محرَّمًا، وكان من يدعو غير الله مُشركًا كافرًا، ظالِمًا جاهلاً، أو معاندًا مكابرًا.
2- الذكر: قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 41، 42].
وفي الحديث القدسي المُتَّفق عليه: ((ومَن ذكرَني في نفسه، ذكَرته في نفسي، ومَن ذكَرني في ملأ، ذكَرته في ملأ خيرٍ منه)).
وحقيقة الذِّكر حضور المذكور في قلب الذاكر على أي نحوٍ من الأنحاء الثابتة له، ثم التعبير عن ذلك باللسان، وضده الغفلة والنسيان، فحقيقة الذكر تَجمع بين عبادة قلبيَّة وعبادة قوليَّة.
والذكر هو أفضل العبادات، بل هو الغرض المقصود من العبادات كلها؛ فإنها ما شُرِعت إلا لتُعين على ذِكر الله تعالى؛ قال - سبحانه -: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]، وقال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [العنكبوت: 45].
وفي الحديث المُتَّفق عليه: ((ألا أُخبركم بخير أعمالكم، وأرْفعها في درجاتكم، وأزكاها عن مَليككم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، ومن أن تَلقَوا أعداءَكم، وتَضربوا أعناقهم، ويَضربوا أعناقكم؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ذِكر الله)).
وقد وعَد الله تعالى بذِكر مَن يَذكُره، كما توعَّد بنسيان مَن ينساه؛ قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19]، وقال في شأن المنافقين: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67].
ولا يُمكن إحصاء ما ورَد في فضْل الذكر من الآيات والأحاديث، غير أنَّ الذي أُريد أن أُنبِّه عليه هنا، هو مراعاة الآداب التي شرَعها الله تعالى وسنَّها رسولُه -صلى الله عليه وسلم-للذاكرين، وجِماع هذه الآداب قول الله تعالى من سورة الأعراف في آخرها: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205].
فقد أرشَدت الآية الكريمة إلى وجوب أن يكون الذِّكر مَخافة مع التذلُّل والخشية، فلا يرفع صوته به، ولا يَذكر الله تعالى بأطراف لسانه، مع قسوة القلب وغفْلته.
وقد أمَرنا الله تعالى أن نَذكره على كلِّ حالٍ، فقال: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 191].
وليس المراد من ذلك ما يَفهمه الجاهلون من أنهم يقومون للذِّكر، أو يقعدون له، أو يَضطجعون، بل المراد يذكرون الله تعالى كيفما كانوا؛ من قيامٍ، أو قعودٍ، أو اضطجاعٍ، دون أن يتكلَّفوا شيئًا من ذلك.
والذكر يكون بكلِّ ما من شأنه أن يُذَكِّرَ العبدَ بالله من أسمائه وصفاته وأفعاله؛ كسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وقراءة القرآن أفضل الذكر؛ فهي جلاء القلوب وربيعُها، ونور الصدور وشفاؤها، وفي الحديث: ((ما تقرَّب العبد إلى الله بشيءٍ أحبَّ إليه مما خرَج منه))؛ يعني: القرآن، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29].
وعند مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((وما اجتمَع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتَدارسونه بينهم، إلاَّ نزَلت عليهم السكينة، وغَشِيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكَرهم الله فيمَن عنده))، وفي المتَّفق عليه قال -صلى الله عليه وسلم- لعبدالله بن عمرو: ((اقرَأ القرآن في كلِّ شهر)).
والاستغفار كذلك من أفضل الذِّكر، ومعناه: طلب المغفرة، وهى تتضمَّن سترَ الذنب والوقاية من عقابه؛ قال تعالى على لسان نوح - عليه السلام -: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12]، وقال رسول -صلى الله عليه وسلم- كما عند مسلم: ((يا أيها الناس، توبُوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائةَ مرة)).
3- التسمية: وهي أن تبدأ الأعمال والأقوال ذات الشأن بذِكر اسمه تعالى وحْده؛ استعانةً به وتبرُّكًا، فلا يَصِحُّ أن تبدأ بذِكر اسم غيره، ولا أن يُذكر اسمُ غيرِه معه بالواو، فلا يُقال: باسم فلان، ولا يقال: باسم الله وفلان.
وقد علَّمنا الله تعالى كيف نَبتدئ أمورنا كلَّها بذكره، فابتَدأ كتابَه العزيز بتلك الآية العظيمة: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 1]، وجعَلها في ابتداء كلِّ سورة منه، اللهمَّ إلاَّ سورة براءة؛ لأنها نزَلت بالسيف، وقيل: لأنها نزَلت بالعذاب والفضيحة للمنافقين، وقيل: لأنها جُعِلت هي والأنفال كسورة واحدةٍ، فلم يُفصَل بينهما بتسمية، وقيل غير ذلك، كما فصَّله القرطبي في بداية تفسيره.
وقد نَهانا الله تعالى أن نأكلَ مما أُهِلَّ به لغيره، وهو ما رُفِع الصوتُ عند ذبحه باسم غير الله تعالى، أو قُصِد التقرُّب بذبحه إلى غيره تعالى، وكذلك نهانا أن نأكلَ مما لَم يُذكر اسم الله عليه؛ بأن تُرِكت التسمية عليه عمدًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾ [الأنعام: 121].
خلافًا للشافعي - رحمه الله - فقد حمَل هذا على ما أُهِلَّ به لغير الله، وعنده أنَّ ذبيحة المسلم تُؤْكَل وإن تَرَك التسمية عليها عمدًا، وهو مخالف لظاهر الآية، وقد ذكَر العلماء أنَّ تقديم الجار والمجرور في بسم الله، وتقدير العامل مُؤخَّرًا - إشعارٌ باختصاص اسم الله تعالى، بكونه مبتدأً به، كأنَّ القارئ أو الكاتب مثلاً يقول: بسم الله وحْده أقرأ، أو أكتب.
وقد ورَد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كلُّ أمرٍ ذي بالٍ، لا يُبدأ فيه ببسم الله، فهو أبترُ، أو أقطعُ، أو أجذمُ))، والمعنى: أنه ناقصٌ، وقليل البركة.
4- الاستعاذة: قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون: 97، 98]، وعن خولة بنت حكيم - رضي الله عنها - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فيما رواه مسلم: ((أعوذ بكلمات الله التامَّات من شرِّ ما خلَق)).
وحقيقة الاستعاذة: طلب العوذ؛ أي: الالتجاء والتحصُّن، وطلب الحماية، يقال: عاذ به، يعوذ عوذًا؛ يعنى: الْتَجأ إليه وتحصَّن به، ويقال: استعاذ به كذلك؛ يعني: طلب الحماية، وفي القرآن عن يوسف الصديق - عليه السلام - حين دَعته امرأة العزيز إلى نفسها: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 23] الآية، والمعنى: أعوذ بالله معاذًا؛ أي: عوذًا، فهو مصدر ميمي منصوب على المفعول المطلق؛ أي: ألْتَجِئ إلى الله، وأحتمي به مما تَدعينني إليه من الفاحشة، وفي آية أخرى من نفس السورة: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ﴾ [يوسف: 79]؛ يعني: نعوذ بالله أن نَظلم أحدًا، فنأخذه بغير ذنبٍ، وإنما نأخذ المُذنب وحْده.
وقد أمرَنا الله - سبحانه - أن نستعيذَ به عند قراءة القرآن، فقال في سورة النحل: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98].
والأمر للوجوب على الصحيح، وأمَر الله نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- أن يَستعيذ به من همزات الشياطين وحضورها؛ كما في سورة المؤمنون، وكان - عليه السلام - يَستعيذ من همْز الشيطان ونَفْخه ونَفْثه، فقيل: همزُه: الموت أو الجنون، ونفْخه: الكبر، ونَفْثه: السِّحر.
وبالجملة لا يُستعاذ بغير الله تعالى، فمَن استعاذ بغيره، فقد أشرَك؛ قال تعالى في سورة الجن على لسان النفر الذين استمَعوا إلى القرآن من الجن: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6].
قال المُفسرون في تفسير هذه الآية: إنَّ الرجل من أهل الجاهليَّة كان إذا أوَى به المَبيتُ في مكان موحشٍ، قال: أعوذ بسيِّد هذا الوادي من سُفهاء قومه - يريد الجن - فلمَّا رأَت الجن أنَّ الإنس يَخافونهم ويَعوذون بهم، زادوهم رهقًا؛ أي: إزعاجًا وخوفًا؛ قال السُّدي - رحمه الله -: كان الرجل يخرج بأهله، فيأتي الأرض، فيَنزلها، فيقول: أعوذ بسيِّد هذا الوادي من الجن أن أُضَرَّ أنا فيه، أو مالي، أو ماشيتي.
وقال قتادة - رحمه الله -: "فإذا استعاذَ بهم من دون الله، رَهِقَهم الجنُّ الأذى عند ذلك".
ولهذا يجب الحذر الشديد من الواقع في مثل ذلك، أثناء معالجة المصروعين بالجن، وتجنُّب سؤال الجن - الذين يَزعمون الإسلام - أن يَحموا المريض، أو يدفعوا عنه، أو ينتقموا من عدوِّه؛ فإنَّ ذلك كله من هذا الباب، وادِّعاء الإسلام لا يُغيِّر من الأمر شيئًا، فإنه لا تحلُّ الاستعاذة بمخلوق كائنًا مَن كان، حتى ولو مؤمنًا، بل ولو كان نبيًّا أو وليًّا، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن نزَل منزلاً، فقال: أعوذ بكلمات الله التامَّات من شرِّ ما خلَق، لَم يضرَّه شيء، حتى يَرتحل من منزله ذلك))، وهو حديث خولة بنت حكيم السابق الذي رواه مسلم؛ قال العلماء: فيه دليلٌ على أنَّ كلام الله غير مخلوق؛ لأنَّ الاستعاذة بالمخلوق شِرْكٌ.
وأمَّا طلب الحماية والعوذ من الحاضر الذي نراه ونسمعه؛ كطلب الجوار، ومنه قول غلام ابن مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - لَمَّا كان يَضربه، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أعوذ برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم))، والحديث عند مسلم، فهذا ليس من الشِّرك، ولا من المنهي عنه؛ لأنه أخَذ بالأسباب الظاهرة الحاضرة، مع ثقته بالله تعالى، وتوكُّله عليه.
وقد نهى الإسلام عن الرُّقى والتعويذات الشركيَّة، التي كان أهل الجاهليَّة يَرقون بها، ووضَع بدلاً منها رُقًى كلها توحيدٌ ودعاء خالص لله تعالى؛ كقوله - عليه السلام -: ((أعوذ بكلمات الله التامَّة، من كلِّ شيطان وهامَّة، ومن كل عين لامَّة))، وذلك حينما كان يَرقي الحسن والحسين، وكقوله للذي شكا إليه الوجعَ: ((ضَع يدك على موضع الوجع، ثم سمِّ الله سبعًا، وقل: أعوذ بعزة الله وقُدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر))، وكقوله: (( اللهمَّ ربَّ الناس، أذْهِب الباس، اشفِه، وأنت الشافي، لا شفاءَ إلاَّ شفاؤك، شفاءً لا يُغادر سقمًا)).
5- الاستغاثة: وهي طلب الغوث والنجدة، ولا يصحُّ أن يُستغاث بغير الله فيما لا يَقدر عليه إلاَّ اللهُ؛ فإن ذلك شِرْكٌ؛ قال -صلى الله عليه وسلم- لِمَن جاؤوا يَستغيثون به من شرِّ أحد المنافقين: ((إنه لا يُستغاث إلاَّ بالله)).
وأمَّا الاستغاثة بالمخلوق فيما يَقدر عليه، فهذه ليستْ شِركًا؛ قال تعالى عن موسى - عليه السلام -: ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ [القصص: 15].
وفى معنى الاستغاثة الاستجارة، وهي طلب الجوار والحماية، فلا يُستجار إلا بالله تعالى من عذابه وسَخطه، ومن شرِّ خلْقه؛ قال تعالى في سورة الجن: ﴿ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ [الجن: 22]، وقال تعالى في سورة المؤمنون: ﴿ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [المؤمنون: 88]، وفي الحديث: ((كن لي جارًا من شرِّ خلقك كلهم جميعًا؛ أن يَفرُط أحدٌ منهم عليَّ، وأن يبغي عليَّ، عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤك، لا إله إلا أنت)).
وإذا كانت الاستغاثة هي طلب الغوث والغياث، وهو ما يُغاث به المضطرُّ، ويُعان به من طعامٍ أو شرابٍ، أو نصرٍ أو تأييدٍ، أو إخلاصٍ من شدَّةٍ وإنقاذٍ من مِحنة، فهي إذًا من جنس الدعاء، وعليه؛ فمَن لا يُدْعَى؛ لفقره وعدم قُدرته، وجهْله بحال الداعي وعدم سماع دعائه، وعدم معرفة مكانه وحاله، لا يُستغاث به كذلك، ومن هنا كان مَن استغاثَ بمَن لا يَقدر على إغاثته - ممن لا يَسمع كلامه، ولا يرى مكانه، ولا يعرف حاله؛ من حي غائبٍ بعيدٍ، لا يرى المستغيث، ولا يَسمع استغاثته، أو ميِّتٍ انقطَع عمله من الدنيا؛ سواء كان نبيًّا من الأنبياء، أو صالحًا من الصالحين - فقد أشرَك في عبادته غير الله تعالى، وكان بذلك مشركًا كافرًا.
وليَعلم المؤمن من هنا أنَّ سؤال الحي من الناس واستغاثته؛ أي: طلب الغوث منه إذا كان قادرًا على العطاء والغوث، وكان قريبًا من الداعي المُستغيث، يَسمع كلامه، ويرى مكانه - قد أَذِن الله تعالى فيه كما قدَّمت، وأباحَه لعباده، ولَم يَجعله عبادة تخصُّه، ويَحرم إشراك غيره فيها، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.
6- الاستعانة: وهي طلب العون والمعونة على قضاء حاجةٍ، أو خروج من مِحنة، وهي نوع من الدعاء والاستغاثة، فلا تُطلَب من عاجزٍ لا يَقدر على الإعانة، ولا من ميِّت لا يَسمع المُستعين، ولا يرى مكانه، ولا يعرف عن حاجته وحاله، ولا من غائبٍ بعيدٍ، حالَ البعدُ دون سماع الدعاء ورؤية الداعي، وإعانته على ما هو في حاجةٍ إلى المعونة فيه.
وقد أرشَد الله تعالى عبادَه المؤمنين إلى الاستعانة به دون مَن سواه في قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، وأوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنَ عباس - رضي الله عنهما - أن يستعينَ بالله دون ما سواه في قوله: ((إذا سأَلتَ فاسأل الله، وإذا استعَنت فاستَعنْ بالله)).
ومن هنا، كان طلب المعونة ممن لا يَقدر عليها من الأحياء؛ لعجزهم أو غيابهم، أو من الأموات؛ لموتهم وانقطاعهم عن الدنيا - ضلالاً وباطلاً، وكان فاعله مُشركًا بالله تعالى في تلك العبادة التي لا تَنبغي لأحدٍ سواه.
7- الحلف: فلا يَصح القسم إلاَّ بالله تعالى أو باسْمٍ من أسمائه، أو صفة من صفاته؛ لِما في الصحيحين عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: ((مَن كان حالفًا، فليَحلف بالله أو ليَصمت))، وعنه أيضًا مرفوعًا: ((مَن حَلَف بغير الله، فقد أشرَك))؛ رواه أبو داود، وصحَّحه الألباني.
والشِّرك الذي يَعنيه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: هو الشِّرك الأصغر، ما لَم يكن الحالف مُعظِّمًا لِما يحلف به من دون الله كتعظيم الله أو أشد، فيكون شركًا أكبرَ، كمَن يقال له: احْلف بالله، فيَحلف كاذبًا، فإذا قيل له: احْلف بالشيخ الفلاني، أقرَّ واعترَف، خاف أن يحلف به كذبًا، وكذا الحلف بالصليب أو المسيح.
ولا يجوز لمسلم أن يطلبَ من أحدٍ الحلف بغير الله - حتى ولو كان كافرًا - لا بالمسيح ولا بغيره؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ابن ماجه وصحَّحه الألباني: ((مَن حُلِف له بالله، فليرضَ، ومَن لَم يرضَ، فليس من الله)).
فلا يجوز الحلف بغير الله تعالى، فقد سَمِع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يحلف بأبيه، فقال: ((إنَّ الله يَنهاكم أن تَحلفوا بآبائكم، فمَن كان حالفًا، فيَحلف بالله، أو ليَذر)).
وإنما كان الحلف كذلك؛ لأنه تعظيمٌ للمحلوف به، وهو لا ينبغي إلا لله تعالى العظيم، وفيه إشهاد المحلوف به على صدْق الحالف، وذلك الإشهاد لا يَصِحُّ إلاَّ بالنسبة لِمَن يعلم صدْق الشيء المحلوف عليه أو كَذبه، وليس ذلك إلاَّ لله - عزَّ وجلَّ - وحْده، كما أنَّ المحلوف به يحب أن يكون ممن يَملِك عقابَ الحالف به، والانتقام منه إذا حلَف به كاذبًا، وذلك هو الله تعالى وحْده؛ فلهذه الأسباب كلها كان الحلف بغير الله تعالى شركًا أصغرَ أو أكبرَ، على التفصيل السابق.
ومما تقدَّم يُعلمَ أنَّ ما يجري على ألسِنة العوام؛ من دعاءٍ لغير الله، أو استغاثةٍ به، أو غُلوٍّ في مدْحه، أو استشفاعٍ وتوسُّلٍ به، أو حَلِفٍ باسْمه، أو طلبِ المَدد والبركة منه - كلُّ ذلك شِرك يجب على العلماء أن يُنبِّهوا الناس إلى عظيم خطره، وسُوء عاقبته، بدلاً من أن يُلهوا عقولهم بذِكر حكايات الصوفيَّة كرابعة العدويَّة، وغيرها.
ومن هذه العبادات القوليَّة النصيحة للمسلمين، والدعوة إلى الله، وكفُّ اللسان عن المحرَّمات؛ كالغيبة والنميمة، والكذب وشهادة الزور، والسَّب والشَّتم، والبَذاء والغناء المحرَّم، وغير ذلك.
ثالثًا: العبادات البدنية:
وأعني بها العبادات التي تؤدَّى بالجوارح، وما تقوم به الجوارح من العبادات والطاعات كثيرٌ جدًّا؛ فلذا أكتفي بذِكر طرفٍ منها فقط؛ تذكيرًا وتعليقًا، فأفضلها:
1- الصلاة بما فيها من قيامٍ وقعودٍ، وركوعٍ وسجودٍ، وقراءة وتسليمٍ، وهي الركن الثاني في الإسلام بعد الشهادتين، وقد أمَر الله تعالى بإقامتها في آيات كثيرة، ومدَح الخاشعين فيها والمحافظين عليها، كما توعَّد بالويل على تضييعها والسَّهو عنها، وهي عبادة قلبيَّة وقوليَّة وبدنيَّة، وأخصُّ بالكلام هنا من بين الأعمال الصلاة:
2- الركوع والسجود، فأقول: إنَّ عبادة الركوع والسجود ظاهرة يُزاولها المسلمون كلَّ يوم في حياتهم؛ إذ هما ركنا الصلاة، أو ركنان من أركان الصلاة، لا تَصح الصلاة بدونهما، وقد تعبَّد الله تعالى بهما سائرَ عباده المؤمنين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77].
وأمَر مريم بنت عمران به في إخباره عنها بقوله: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 43]، وأمَر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالسجود؛ طلبًا للقُرب منه، فقال: ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19].
ومن هنا كان الركوع - وهو الانحناء - والسجود - وهو وضْع الوجه على الأرض - عبادةً لا تنبغي لأحدٍ مهما كان شأْنه إلاَّ لله تعالى، ومَن ركَع لأحدٍ، أو سجَد له، مُعظِّمًا إيَّاه، أو طامعًا فيه، أو خائفًا منه، وليس بمُكرهٍ على ذلك - فقد أشرَك بربه، وعبَد مع الله تعالى غيره، وكان فِعْله شِركًا أكبرَ، لا يَغفره الله تعالى إلاَّ بالتوبة الصادقة.
3- الصيام: وهو إمساكٌ لله تعالى عن سائر المُشتهيات والمُفطرات طيلة اليوم، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتفاصيله في كتب الفقه.
4- الحج والعمرة: بما يَشتملان عليه من مناسك؛ كالطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والمزدلفة، ورَمْي الجمار، وسَوْق الهدي، والحلْق والتقصير، وغير ذلك، وأَخصُّ من بين هذه الأعمال بالذِّكر:
5- الطواف بالبيت، وتقبيل الحجر الأسود، فأقول: إن الطواف عبادة شرَعها الله لعباده وأمَرهم بها في قوله: ﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 29].
وعليه؛ فمَن طاف ببيت غير بيت الله؛ من قبرٍ، أو ضريحٍ، أو مشهدٍ، أو غير ذلك، مُعظِّمًا لِما يطوف، مُتقرِّبًا إليه، أو به إلى غيره، حتى لو كان إلى الله تعالى - فقد ابتدَع وأشرَك، وطوافه ذلك شرْكٌ أكبرُ، وبدعة وضلالة من أشنع البدع وأقْبحها؛ لِما فيها من التشريع الذي هو حقُّ الله وحْده دون ما سواه.
وإنَّ تقبيل الركن اليماني من البيت العتيق عبادةٌ شرَعها الله تعالى على لسان نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- ولَم يُشرَع لهذه الأُمة تقبيلُ حجرٍ آخرَ، ولا رُكنٍ، ولا جدار، ولا قبرٍ، ولا ضريح، ولا تابوت، وعليه؛ فمَن قبَّل عتبةً، أو جدارًا، أو بابًا، أو حلقة في بابٍ، أو قبرًا، أو مشهدًا من المشاهد قائمًا - فقد ابتدَع، وإن فعَل ذلك تعظيمًا لِما قبَّله وتقديسًا، راجيًا منه النفع، دافعًا به الضرَّ - فقد أشرَك.
6- الجهاد بالنفس: وما يَقتضيه من بذْل الجهد في مقاتلة أعداء الله، والتعرُّض للمخاطر، واحتمال الآلام والجراحات، والصبر على صليل السيوف وقِراع الأبطال، والمرابطة في الثغور عن الأهل والولد.
ومن العبادات البدنيَّة: الرحلة في طلب العلم، أو إلى المساجد الثلاثة، وتغيير المُنكرات، وغَض البصر، وحِفظ الفرْج، وأكْل الحلال، وترْك الحرام، وكفُّ الأذى عن الناس، والمَشي إلى المساجد، وزيارة الإخوة في الله، والسعي في حوائج المسلمين، وكف الأُذن عن سماع المعازف والكذب، والغيبة والنميمة، وأيضًا بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والعاملين، والسماحة في البيع والشراء والقضاء، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وكثير منها يَجمع بين العبادات البدنية والقوليَّة والمالية، وكلها يُشترَط فيها عملُ القلب وعبادته، وهي النيَّة الخالصة.
رابعًا: العبادات المالية:
وهي التي تعبَّد الله تعالى بها عباده في أموالهم من الصَّدقات والذبائح والنذور، فأهمها:
1- الزكاة المفروضة لِمَن وجَبت عليه، بأن بلَغ النصابُ عنده، وحالَ عليه الحول، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الصلاة، وقد قُرِنت بها في آيات كثيرة، وورَد الوعيد الشديد لمانعيها.
2- صدقات التطوُّع: وهي من أحب العبادات إلى الله تعالى، وقد ورَد الحثُّ عليها في كثيرٍ من الآيات والأحاديث، وسمَّاها الله تعالى قرضًا، ووعَد بالمضاعفة عليها إلى سبعمائة ضِعف، وإلى أكثر من ذلك لِمَن يشاء، وفي سورتي البقرة وآل عمران - اللَّتين هما الزهراوان - من الترغيب في الإنفاق والبذل ما يَستدرُّ يد الشحيح، ويُهوِّن عليه كلَّ عطاء.
وجعَل النبي -صلى الله عليه وسلم- من السبعة الذين يُظلهم الله في ظله - يومَ لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه -: ((رجل تصدَّق بصدقة، فأخفاها؛ حتى لا تَعلمَ شماله ما تُنفق يمينُه)).
3- النَّذر: وهو الْتزام العبد بما لَم يُلزم به من الطاعات، أو بعبارة أوضح: هو التعهُّد بالقيام بشيءٍ من العبادات تقرُّبًا إلى الله تعالى، بشرْط أن يَقضي الله له ما تعسَّر عليه من الحاجات التي يريد قضاءَها؛ كأن يقول المُتعهِّد في تعهُّده: اللهمَّ إن شفيتَ مريضي، أو ردَدت عليَّ غائبي، أو قضيتَ لي حاجتي في كذا، لك عليَّ أن أتصدَّق بكذا، أو أصوم كذا، أو أُصلِّي كذا وكذا.
والنَّذر المعلَّق - وهو المعروف بنذر المجازاة أو المعاوضة - فليس بواجبٍ في الابتداء، بل عَقْده ابتداءً مكروه؛ لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه؛ كما في الصحيحين: ((لا تَنذِر؛ فإن النَّذر لا يُقدِّم شيئًا ولا يؤخِّر؛ وإنما يُستخرج به من البخيل)).
ولكنَّه إذا حدَث المُعلَّق عليه، كان الوفاء بالنذر واجبًا، بشرْط أن يكون في طاعةٍ، وفيما يَملِك الناذر، فإن كان نذرًا بمعصيةٍ، أو فيما لا يَملِك الناذر، فلا يجب الوفاء به؛ لِما رواه مسلم عن عِمران بن حُصين - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا فيما لا يَملِك ابن آدمَ))، وقال: ((مَن نذَر أن يُطيع الله، فليُطِعه، ومَن نذَر أن يَعصي، فلا يَعْصِه)).
والراجح أنه يجب فيه كفَّارة يمينٍ، والنذر حينئذٍ يكون قُربة وعبادة تعبَّد الله بها عباده، فيجب أن تكون خالصة لله؛ قال تعالى: ﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾ [الحج: 29]، والأمر هنا قطعًا للوجوب، وقال في مدْح الأبرار: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان: 7].
وأمَّا النذور التي يَضعها الناس اليوم في صناديق أصحاب الأضرحة، وما يَنذرونه لهم من الحروث والأنعام، التي يَذبحونها لهم ويُطعمونها الناس لأجْلهم، فإن الدافع إليها هو اعتقاد ناذِريها أنَّ هؤلاء الشيوخ قد وفَّوْا لهم بما طَلبوه منهم؛ من شفاءٍ، أو نجاحٍ، أو إنجاب ولدٍ، أو نحو ذلك، فهم يُقدِّمون هذه النذورَ ثمنًا لذلك، ولا شكَّ أنَّ هذا شِركٌ صريح، مُخرِج من الملَّة، وهو لا يَنعقد أصلاً، وتجب التوبة منه، ولا يُكفَّر عنه، ولا يَلزم صرفُ المال في مصرف آخرَ؛ لأنه باطلٌ أصلاً.
ومن هنا كانت هذه النذور شِركًا؛ لأنه يَعتقد أنَّ غير الله تعالى يَملِك شيئًا من هذه الأمور، فيجب التنزُّه عن هذا الشِّرك؛ كما جاء في الحديث الصحيح أنَّ رجلاً نذَر أن يَنحر إبلاً بِبُوانة، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال: ((هل كان فيها صنمٌ من أصنام الجاهلية يُعبد؟))، فقيل: لا، فقال: ((هل كان فيها عيدٌ من أعياد الجاهلية يُقام؟))، فقيل: لا، فقال للرجل: ((فأَوْفِ بنَذرك)).
وبناءً على كلِّ ما سبَق؛ فإن مَن نذَر لغير الله تعالى، وسواءً نذَر لحي أو ميِّت، فقد أشرَك، ولكن أُنبِّه هنا على أنه لا يدخل في هذا النذر المحرَّم وعدُ المؤمن لأخيه، إن رزَقه الله كذا، فإنه يُعطيه كذا، أو يُقرضه كذا؛ فالكلام هنا على مَن نذَر لغير الله تعالى، فإن هذا قد أشرَك؛ وذلك لأنَّ النذر عبادة ظاهرة؛ إذ هو توجُّه القلب إلى المنذور له؛ رغبة فيما عنده من الخير، وهو استشعار قُدرته وغناه، وإظهار الناذر عجْزَه وضَعفه، وافتقارَه إلى مَن نذَر إليه.
وهذا وايم الله لا يَليق إلا بالله تعالى، ويا ويل أولئك الذين يَنذرون إلى الأولياء والصالحين من أموات المسلمين وأحيائهم؛ فقد وقَعوا في هلكةٍ وهم لا يشعرون، وأشرَكوا في عبادة ربِّهم غيرَه وهم لا يعلمون، ولعلَّ البعض يتساءل: إذا كان النذر والحلف من باب واحدٍ، فلماذا اعتبَر العلماء الحلف بغير الله شركًا أصغرَ، والنذر لغير الله شركًا أكبر؟!
والجواب: أنَّ هذا باعتبار الأغلب في كلٍّ منهما، وإلاَّ فكلٌّ منهما فيه الشِّرك الأكبر والأصغر، حسب اعتقاد فاعله وقصده، فإن كان يجري على اللسان من غير قصد التقرُّب والتعظيم لغير الله، كان شركًا أصغرَ، وهو الأغلب في الحلف، ولا يكاد يوجد في النذر، بل الأغلب في النذر اعتقادُ أنَّ المنذور له هو الذي يَملِك له قضاءَ الحاجات وكشْفَ الكُربات، وهذا الاعتقاد شرك في الربوبيَّة، فإذا أضافَ إليه النذر - وهو عبادة - كان شركًا أكبرَ والعياذ بالله، والله أعلم.
4- الذبح: وهو عبادة إذا تعلَّق بهدْي أو أُضحيَّة، أو نذرٍ أو كفارةٍ، أو عقيقةٍ أو نحو ذلك؛ قال تعالى آمرًا نبيَّه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 - 163]، فقرَن في الآية بين النُّسك الذي هو الذبح وبين الصلاة في وجوب إخلاص كلٍّ منها لله تعالى؛ لأنَّ كلاًّ منهما عبادة يُتقرَّب بها إلى الله تعالى.
وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر ﴾ [الكوثر: 1 - 3].
فأمَر بالذبح بعد الصلاة، وفي الحديث أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في خطبته يوم عيد الأضحى: ((إنَّ أوَّل ما نبدأ في يومنا هذا، أن نصلي ثم نَرجع، فمَن ذبَح قبل الصلاة، فلا نُسكَ له، وإنما هو لحمٌ قدَّمه لأهله)).
وقد ورَد الوعيد الشديد لِمَن ذبَح لغير الله تعالى؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لعَن الله مَن ذبَح لغير الله، لعَن الله مَن لعَن والديه، لعَن الله مَن غيَّر منار الأرض)).
وذَبْح القُربان هو ما يُتقرَّب به إلى الله تعالى من الذبائح؛ كالهدْي في الحج، وضحايا يوم عيد الأضحى، وشاة العقيقة يوم سابع المولود، وذبائح وليمة العرس، وما يُذبَح صدقةً على الفقراء والمساكين، كلُّ هذا قد شرَعه الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- فكان هذا الذبح تقرُّبًا وعبادة لا تَنبغي إلاَّ لله تعالى، ومَن ذبَح لغيره - مُعظِّمًا له، خائفًا منه، راجيًا ما عنده - فقد عبدَه بهذه العبادة، أو أشرَكه في عبادة ربِّه.
وهنا يَحسُن التنبيه والتنديد في نفس الوقت بما يفعله أهل الجهالات من المسلمين اليوم، من ذبائح على القبور والأضرحة في أيام الموالد والمواسم؛ تعظيمًا لمن يَذبحون لهم وتقديسًا، ورغبة في شفاعتهم، وطمعًا فيهم، وتوسُّلاً بجاههم، ومثل هذه الذبائح على القبور والمشاهد ذبائحُ الزار والنُّشرة، وعلى حافَات الآبار، وعَتبات المنازل؛ خوفًا من الجن.
إن هذه الذبائح كلها شِرْك وكفر - عياذًا بالله من ذلك.
الانحراف في مفهوم العبادة:
وبعد أن تبيَّن لنا مما سبَق المفهوم الصحيح للعبادات لغةً وشرعًا واصطلاحًا، وأنواع العبادة وصورها المُتعدِّدة، أجد لزامًا عليَّ أن أُنبِّه على الانحراف الخطير الذي وقَعت فيه الأجيال المتأخِّرة من المسلمين في تصوُّرهم لمفهوم العبادة ومجالاتها ومقاصدها، فكل مَن يَعقد مقارنة بين المفهوم الشامل الواسع العميق، الذي كانت الأجيال الأولى من المسلمين تَفهمه من أمرِ العبادة، والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تَفهمه الأجيال المعاصرة - فلن يَستغرب كيف هوَت الأُمة من عَليائها؛ لتُصبح في هذا الحضيض الذي تعيشه اليوم، وكيف هبَطت من مقام القيادة والريادة للبشرية كلِّها؛ لتُصبح ذلك الغُثاء الذي تتداعى عليه الأُمم، تَنهشه من كلِّ جانب، كما تَنهش الفريسةَ الذئابُ! ويعلم الإنسان في الوقت ذاته الطريق الذي ينبغي أن تَسلكه الأُمة الإسلاميَّة وهي تُجاهد لرفْع هذا الغُثاء من حضيضه الذي تعيش فيه؛ لتَعود كما أرادها الله تعالى أن تكون: ﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].
وقد ترسَّخ في حسِّ الأجيال الأولى أنَّ عبادة الله تعالى غاية الوجود الإنساني كله؛ كما يدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وهذه الآية الكريمة كانت تمثِّل في حسهم معنًى هائلاً جدًّا، وعميقًا جدًّا، وشاملاً لكلِّ حياة الإنسان، فالقرآن نازلٌ بلُغتهم، وهم يَفهمون إيحاءات تلك اللغة، ويُدركون أسرار بلاغتها، فيُدركون من معنى الآية أنَّ غاية الوجود الإنساني كله محصورة في العبادات، لا تتعدَّاها إلى شيءٍ غيرها على الإطلاق، فالنفي والاستثناء هما أقوى صُوَر الحصر والقصر في اللسان العربي، ومعناهما: النفي البات من جهة، والحصر الكامل من الجهة الأخرى؛ نفي أي غاية للوجود البشري غير عبادة الله تعالى، وحصْر غاية هذا الوجود كلِّه في عبادته تعالى، ومن ثَمَّ لَم يَنحصر مفهوم العبادات في حسِّهم في نطاق الشعائر التعبُّدية وحْدها.
ومن الواضح أنَّ شعائر التعبُّد لا يُمكن بداهةً أن تكون هي كلَّ العبادة المطلوبة من الإنسان، فما دامَت غاية الوجود الإنساني - كما تنصُّ الآية الكريمة - محصورةً في عبادة الله، فأنَّى يستطيع الإنسان أن يوفِّي العبادة المطلوبة بالشعائر التعبُّدية فحسب؟! فكم تَستغرق الشعائر من اليوم والليلة؟! وكم تَستغرق من عمر الإنسان؟!
وبقيَّةُ العمر، وبقيَّة الطاقة، وبقيَّة الوقت، أين تُنفق؟! وأين تذهب؟! تُنفق في العبادة أم في غير العبادة؟! وإن كانت في غير العبادة، فكيف تتحقَّق غاية الوجود الإنساني التي حصَرتها الآية حصرًا كاملاً في عبادة الله؟! وكيف يجوز للإنسان من عند نفسه أن يَجعل لوجوده غايةً لَم يَأْذن بها الله - تبارَك وتعالى؟
إنَّ الإنسان لا يستطيع - مهما حاوَل - أن يقضيَ واجب العبادة المفروض عليه نحو الله، من خلال الشعائر التعبُّدية وحْدها - من صلاة وصيام، وزكاة وحجٍّ - وليس الإنسان مَلَكًا، ولا يستطيع أن يَعبد الله على طريقة الملائكة التي تُسبِّح الليل والنهار لا تَفتُر، ولا تَنشغل عن التسبيح، ولو شاء الله أن يُكلِّف الإنسان العبادة على طريقة الملائكة، لمنَحه طاقة الملائكة في التسبيح الدائم بغير فتورٍ، ولرَكَّبه منذ البَدء تركيبًا آخرَ؛ لا يَفتُر، ولا يَكل، ولا يَمَلُّ؛ لأن الله تعالى - من رحمته - لا يُكلِّف نفسًا إلاَّ وسعها، ويَجعل العبادة المفروضة على كلِّ كائنٍ من خلْقه، مُتناسبة مع طبيعة ذلك الكائن، ومع حدود طاقاته.
وقد فَهِم الجيل الأوَّل من الصحابة - رضوان الله عليهم - معنى العبادة، ولَم يَحصروها فقط في داخل الشعائر التعبُّدية، بحيث تُصبح اللحظات التي يقومون فيها بأداء الشعائر التعبُّدية، هي وحْدها لحظات العبادة، وتكون بقيَّة حياتهم خارج العبادة.
إنما كان في حسِّهم أنَّ حياتهم كلَّها عبادة، فكانوا يقومون بالعبادة وهم يُمارسون الحياة في شتَّى مجالاتها، وكانت عبادتهم الكبرى هي العمل في شتَّى مجالات الحياة، كانوا يذكرون الله، فيسألون أنفسهم: هل هم في الموضع الذي يَرضى الله عنه أو فيما يسخط الله؟! فإن كانوا في موضع الرِّضا، حَمِدوا الله، وإن كانوا على غير ذلك، استغفروا الله وتابوا إليه؛ ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 135 - 136].
وكانوا يذكرون الله، فيسألون أنفسهم: ماذا يريد الله منَّا في هذه اللحظة؟ أي: ما التكليف المفروض علينا في هذه اللحظة؟ فإن كان التكليف: ﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ﴾ [النساء: 74]، كان ذِكر الله مؤدِّيًا إلى القيام بالجهاد في سبيل الله، وإذا كان التكليف: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19]، كان ذِكر الله مُؤَدِّيًا إلى القيام بهذا الواجب الذي أمرَ الله به تُجاه الزوجات، وإذا كان التكليف: ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ [التحريم: 6]، كان ذِكر الله مؤدِّيًا إلى القيام بتربية الأهل والأولاد على المنهج الربَّاني الذي يَضبط سلوكَهم بالضوابط الربانيَّة، ويُوجِّه مشاعرَهم وأفكارهم وأعمالهم إلى ما يُرضي الله، وإذا كان التكليف: ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]، كان مقتضى ذكر الله هو المشيَ في مناكب الأرض، وابتغاءَ رِزق الله في حدود الحلال الذي أحلَّه الله؛ لأنه إليه النشور، فيُحاسب الناس على ما اجْتَرحوا في الحياة الدنيا، وإذا كان التكليف: ((طلب العلم فريضة)) - كما روى البيهقي والطبراني، وصحَّحه الألباني - كان مقتضى ذِكر الله هو السعيَ إلى طلب العلم من أجْل عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربَّاني؛ سواء كان العلم هو العلم الشرعي - الذي يَعرف به الإنسان الحلال والحرامَ، والمباح والمندوب والمكروه - أو العلم بما في الكون من طاقات؛ لتحقيق التسخير الرباني الذي سخَّر الله به ما في السموات والأرض للإنسان؛ ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْه ﴾ [الجاثية: 13].
وهو تسخيرٌ لا يتم إلاَّ بجُهد علمي، يبذله الإنسان في التعرُّف على خواص المادة، ومُدَّخرات الطاقة في الكون، وجُهدٍ بدني يَبذله في تحويل الخامات والطاقات إلى عمران يُحقِّق حاجات الناس في الأرض.
ومن مثل هذه التوجيهات المبثوثة في كتاب الله تعالى، ومن تعليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فَهِم المؤمنون - من الجيل الأوَّل والأجيال التالية له - أنَّ العبادة المطلوبة لا تَنحصر في الشعائر التعبُّدية، وأنها أوسعُ من ذلك وأشمل، وفَهِموا أنَّ الصلاة والنُّسك - أي: الشعائر - إنما هي المُنطَلق الذي ينطلق منه الإنسان؛ ليقوم ببقيَّة العبادة التي تَشمل الحياةَ كلَّها، بل الموت كذلك، والموت في حدِّ ذاته لا يُمكن أن يكون عبادة بطبيعة الحال؛ لأنه لا خيارَ للإنسان فيه، ولكنَّ المقصود في قوله تعالى: ﴿ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]: هو أن يموت الإنسان غير مُشركٍ بالله تعالى، وذلك هو الحد الأدنى الذي يكون به الإنسان في موته عابدًا لله، وأمَّا الحد الأعلى، فهو أن يكون موته استشهادًا في سبيل الله تعالى، وتلك قمَّة العبادة.