(13) تحريم إقامة المساجد على القبور
محمود العشري
بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأَعْلَوا حيطان تربته، وسدُّوا المداخل إليها، وجعلوها محدِقةً بقبره -صلى الله عليه وسلم- ثم خافوا أن يتَّخذ موضعُ قبره قِبْلةً إذا كان مستقبلَ المصلِّين..
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - التوحيد وأنواعه -
المسألة الأولى: تحريم إقامة المساجد على القبور:
إن التوحيدَ رأسُ كل خير، ومصدرُ كل حسنة، والشركَ أصلُ كل شر، وسببُ كل سيئة؛ لذا حثَّ ربنا - سبحانه - عبادَه على التوحيد، وأمرهم بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولقد علَّم اللهُ الأنبياءَ والملائكة توحيدَه سبحانه؛ فالملائكة إذا قامت الساعةُ رفعوا رؤوسهم من عبادتهم التي لا يفتُرون عنها، وقالوا: "سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، إلا أنا لا نُشرِك بك شيئًا"، ودعوة كل الرسل لأقوامهم: أن اعبدوا الله، ولا تشركوا معه أحدًا؛ فآدم أبو البشر موحِّد، علَّم أبناءه التوحيد، وبقي أبناؤه على التوحيد عشرة قرون، حتى جاءت الشياطين فاجتالتْهم عنه، وأوقعتهم في الشرك، فأهلَك الله المشركين في زمان نوحٍ، وأبقى الموحِّدين؛ حيث أنجاهم في الفُلْك المَشْحُون، لكن الشياطين وسوست لأبنائهم حتى أوقعت أجيالاً من أحفادهم في الشرك؛ فبعث الله هودًا فدعاهم للإيمان، ثم نجَّى الله الموحِّدين، وأهلك المشركين، ولكن من ذريتهم خرج قومُ ثَمُودَ الذين بعث الله فيهم صالحًا، فدعاهم إلى التوحيد، فمَن آمن نجا، ومَن كذَّب هَلَك، وهكذا الشيطان يدعو مَن أطاعه ليشركَ بالله ربِّ العالمين، ولقد كانت الحِيَل التي أوقع الشيطانُ بسببها الشرك في هذه الأمم محصورةً في سببين اثنين، هما: تعظيم الصور والتماثيل، ورفع القبور والبناء عليها؛ لذا حرَّم الله -تعالى- التصوير، وحرَّم رفع القبور والبناء عليها، فهذه دعوة الرسل جميعًا، وهي دعوة الإسلام، ولا يجوز أن يُقال: حيث إنها حرِّمت سدًّا لذريعة الشرك، فهي تحل في زمان دون زمان، فقد يدَّعي مدَّعٍ أن الناس في أمنٍ من الشرك اليوم، وهذا وهمٌ خاطئ؛ فإن العالَم كلَّه قام قومة عجيبة لَمَّا هدم الأفغانُ الصنمَ المعبود "بوذا" تحت زعمِ أنه تراثٌ إنساني، وأن النصارى ملؤوا كنائسهم بالصور والتماثيل، واليهود رفعوا قبور مَن يعظِّمون من موتاهم، والنصارى أكثر في ذلك، وصار هذا هو دينَهم الذي يَحرِصُون عليه.
واليوم تعجب أن ترى ممن ينتسبون للعلم في الإسلام مَن يُهَوِّنُ من شأن رفع القبور، وبناء المساجد عليها، والصلاة إليها، وليس ذلك إلا حيلةَ الشيطان السابقة، تتكرَّر في الناس اليوم؛ ليوقعهم في الشرك؛ لأنه هو الذنب الذي لا يُغفَر.
لذا فإن أهل السنة - في كل زمان ومكان - لَيَقِفُون بالمرصاد لذلك الشركِ في بناء القبور ورفعها، وما يُقام لها من محافلَ وموالدَ، وما يُصنَع عندها من شركيات وبدعٍ، والعلماء وطلاب العلم لا ينبغي أن يَغفُلوا عن هذا الأمر أبدًا، ولا أن ينثني عزمُهم فيه مع كثرة المبتدعة والمهوِّنين من ذلك كله من أصحاب المناصب العالية، والألقاب الضخمة الكبيرة.
ويخطئ مَن يظن أننا قد انفردنا وحدنا بالدعوة إلى تأثيم أباطيل القبور وبدعِها، وإقامة الأضرحة، ووضع الشموع والقناديل عليها، والطواف حولها، والنذر لساكنيها؛ فإن هناك لفيفًا من خيرة العلماء وثقاتِهم، تَعرِف لهم الأمَّةُ قدرَهم ومكانتهم العلمية في الدرس والتحصيل والفتيا، ووصل بعضُهم إلى رتبة شيخ الأزهر، ومفتي الديار، ووزير الأوقاف، كلهم حارب بدعَ القبور وأباطيلها، وسوف أضَمِّنُ هذا البحث - إن شاء الله - عددًا من فتاواهم؛ لتحرير هذه القضية التي عمَّت وطمَّت.
أقول ذلك دفاعًا عن أعراض علماء الأزهر، الذين يحاولُ بعضُ الناس أن يشوِّهها، وينعى عليهم أنهم أهل بدع وشركيات؛ فالأزهر - يا أهل الإسلام - مؤسَّسة كأي مؤسسة فيها الصالح والطالح، ولا ينبغي أن يُؤخذ الصالح بذنب الطالح، وما الفتاوى التي سأذكرها - إن شاء الله - إلا انتصارٌ لعلماءِ الأزهر ولدعوة التوحيد.
وأكرر: لسنا وحدنا في ذلك الميدان؛ لأنه دعوة الإسلام، دعوة كافة الأنبياء والمرسلين، فهي دعوة رب العالمين، وهي كلمة الله التي ينبغي أن يجاهد كلُّ مسلم لتكونَ هي العليا، فلسنا وحدنا يا قوم، بل إن ممن أفتى بأنه لا يجتمع مسجدٌ وقبرٌ في الإسلام الشيخ "عبدالمجيد سليم"، شيخ الأزهر، وممن أفتى بحرمة البناء على القبور، وتزيينها، ووضْع القناديل عليها الشيخ "محمود شلتوت"، شيخ الأزهر، وكذا لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، وممن أفتى بحرمة النَّذر للأولياء والموتى الشيخ "عبدالمجيد سليم"، شيخ الأزهر، ووزير الأوقاف "د. محمود زقزوق"، وكذا أفتى بحرمة الطواف حول القبور والتوسل بالأولياء شيخ الأزهر الشيخ "حسن مأمون"، وسأحاول أن أضمِّن هذا البحثَ شيئًا من فتاواهم - إن شاء الله.
إن مسألة بناء المساجد على القبور، والصلاة في هذه المساجد - قد خاض فيها بعض الناس بغير علم، وقالوا ما لم يقلْه مِن قبلهم عالمٌ، لا سيما وأكثر الناس لا معرفة عندهم فيه مطلقًا، فهم في غفلة عنه ساهون، وللحق جاهلون، ويدعمهم في ذلك سكوت العلماء عنهم إلا من شاء الله - وقليل ما هم - خوفًا من العامة، أو مداهنة لهم في سبيل الحفاظ على منزلتهم في صدورهم، متناسين قول الله -تعالى-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَي مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].
وقولَه -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الحسن عند ابن حبَّان والحاكم: ((مَن كتم علمًا، ألجمه اللهُ يوم القيامة بلِجَامٍ من نار)).
وكان من نتيجة هذا السكوت وذلك الجهل، أن آلَ الأمرُ إلى ارتكاب كثير من الناس ما حرَّم الله ولعَن فاعلَه - كما سيأتي - وليت الأمرَ وقف عند هذا الحد، بل صار بعضهم يتقرَّب إلى الله -تعالى- بذلك! فترى كثيرًا من محبي الخير وعمارة المساجد ينفق أموالاً طائلة على هذا الأمر، والله المستعان.
وخرج علينا مَن يَسِمُ أهل السنة بكونِهم حدثاءَ الأسنان، في رسالته الباطلة الموسومة بـ"فيض الرحمن، في الردِّ على حدثاء الأسنان"، وينقل - كذبًا وافتراءً - عن أهل العلم أنهم أباحوا بناء المساجد على القبور، والصلاةَ في هذه المساجد، وسأبين كذبه - إن شاء الله - بعد قليل، بل ويصل في التضليل إلى أعظم من ذلك؛ إذ يزعم - افتراءً وتضليلاً - أننا نكذب على العلماء، وبالأخص فضيلة الإمام الأكبر الشيخ "عبدالمجيد سليم" شيخ الأزهر السابق، حيث ادَّعى أننا نفتري على فضيلته، وأنه لم يقلْ بالتحريم، وسأوضح كذبه أيضًا - إن شاء الله - عند ذكر فتوى الشيخ في موضعها.
أقول: حيث وقع النزاع بيننا وبين غيرنا في هذه المسألة، فالواجب أن نردَّ ذلك إلى الكتاب والسنَّة، وعلى هذا أجمع المسلمون سلفُهم وخلفُهم، كما نطق بذلك الكتاب العزيز: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النساء: 59]؛ ومعنى الرد إلى الله -تعالى- الردُّ إلى كتابه، ومعنى الرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الردُّ إلى سنَّته الصحيحة بعد وفاته؛ ولذلك فإني أطيل النفس - إن شاء الله - في هذه المسألة - وبعض المسائل القليلة الأخرى التي كثُر حولها الجدل في الأزمان المتأخرة - إحقاقًا للحق، وإعذارًا إلى الله -تعالى- وقيامًا بواجب النصيحة للمسلمين، فالله المستعان، وعليه التكلان.
حكم بناء المساجد على القبور:
اعلم أخي الموحِّد - يرحمك الله - أنه لم يخالف أحد من العلماء الذين يُعتَد بخلافهم في حرمة رفع القبور والبناء عليها:
• فقد قال علامة اليمن "محمد بن علي الشوكاني" - ت: 1255هـ - في أول رسالة: شرح الصدور بتحريم رفع القبور ص17:
"اعلم أنه اتَّفق الناس سابقُهم ولاحقُهم، وأوَّلهم وآخرهم، من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - إلى هذا الوقت، أن رفع القبور والبناء عليها بدعةٌ من البدع، التي ثبت النهي عنها، واشتد وعيد الرسول لفاعلها - كما يأتي بيانه - ولم يخالفْ في ذلك أحدٌ من المسلمين"، وإليك أخي بعض أدلة الإجماع المذكور:
أحاديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد:
1- روى البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه الذي لم يقمْ منه: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، قالت: فلولا ذلك، أُبرز قبره، غير أنه خشِي أن يتخذ مسجدًا.
وقول أم المؤمنين هذا يدلُّ دلالة واضحة على السبب الذي من أجله دفنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته، ألا وهو سدُّ الطريق على مَن عسى أن يبني عليه مسجدًا، فلا يجوز - والحالة هذه - أن يُتَّخذ ذلك حجة في دفن غيره -صلى الله عليه وسلم- في البيت، يؤيِّد ذلك أنه خلاف الأصل؛ لأن السنة الدفن في المقابر؛ ولهذا قال ابن عروة في الكواكب الدراري: "الدفن في مقابر المسلمين أعجبُ إلى أبي عبدالله - يعني: الإمامَ أحمد - من الدفن في البيوت؛ لأنه أقل ضررًا على الأحياء من ورثته، وأشبه بمساكن الآخرة، وأكثر للدعاء له والترحم عليه، ولم يزلِ الصحابة والتابعون ومَن بعدهم يقبرون في الصحارى.. فإن قيل: فالنبي قُبِر في بيته، وقُبِر صاحباه معه؟ قلنا: قالت عائشة: إنما فعل ذلك لئلا يتَّخذ قبره مسجدًا؛ ولأن النبي كان يَدفن أصحابه بالبقيع، وفعلُه أولى من فعل غيره؛ وإنما أصحابه رأوا تخصيصه بذلك؛ ولأنه روي: ((يدفن الأنبياء حيث يموتون))، وصيانة لهم عن كثرة الطرق، وتمييزًا له عن غيره".
وقال ابن حجر في الفتح، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، من كتاب الجنائز، عند قول عائشة: "ولولا ذلك لأبرز قبره"؛ قال: "أي لكُشِف قبره -صلى الله عليه وسلم- ولم يُتَّخذ عليه الحائل، والمراد الدفن خارج بيته، وهذا قالته عائشة قبل أن يوسَّع المسجد النبوي؛ ولهذا لما وُسع جُعِلت حجرتها مثلَّثة الشكل محدَّدة؛ حتى لا يتأتَّى لأحد أن يصلِّي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة"؛ اهـ.
وهذا الكلام من ذلكم العالم الكبير، يدل دلالة قاطعة على كذبِ مَن ادَّعى عليه أنه يجيز الصلاة في تلك المساجد.
قال المخالف - في رسالة: "فيض الرحمن" ص4 -:
"وقال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (ج3 ص69): وقد تقدَّم أن المنع من ذلك إنما هو حال خشية أن يُصنع بالقبر كما صنع أولئك الذين لُعِنوا، وأما إذا أمِن ذلك، فلا امتناع"؛ اهـ.
ولو أكمل المخالف - هدانا الله وإياه - كلام ابن حجر، لكان حجة عليه، وهذا من التدليس المنافي للأمانة؛ فإن ابن حجر قال بعد هذا الكلام مباشرة: "قد يقول بالمنع مطلقًا مَن يرى سدَّ الذريعة - أي: تعظيم المقبور - وهو هنا متَّجه قوي"؛ اهـ.
قال المعلِّق على فتح الباري:
"هذا هو الحق؛ لعموم الأحاديث الواردة بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، ولعنِ مَن فعل ذلك؛ ولأن بناء المساجد على القبور من أعظم وسائل الشرك بالمقبورين فيها، والله أعلم"؛ اهـ.
وقال أبو العباس القرطبي في المُفهِم:
"ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأَعْلَوا حيطان تربته، وسدُّوا المداخل إليها، وجعلوها محدِقةً بقبره -صلى الله عليه وسلم- ثم خافوا أن يتَّخذ موضعُ قبره قِبْلةً إذا كان مستقبلَ المصلِّين، فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبَنَوا جدارين من ركني البر الشماليين وتحرفوهما، حتى التقيا على رأس زاوية مثلَّث من جهة الشمال؛ حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره، ولهذا الذي ذكرناه كله؛ قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره"؛ اهـ.
2- روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
3- روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما حضرته الوفاةُ، جعل يلقي على وجهه طرفَ خميصةٍ - ثوب من صوف له أعلام - له، فإذا اغتمَّ كشفَها عن وجهِه، وهو يقول: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، تقول عائشة: يحذِّر مثل الذي صنعوا.
قال ابن حجر - رحمه الله -:
"وكأنه -صلى الله عليه وسلم- علِم أنه مُرْتَحِل من ذلك المرض، فخاف أن يعظَّم قبرُه كما فعل مَن مضى، فلعن اليهود والنصارى؛ إشارةً إلى ذم مَن يفعل فعلهم"؛ اهـ.
يعني: من هذه الأمة، وسيأتي التصريح بنهيهم عن ذلك؛ فتنبه.
4- روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لما كان مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- تذاكر بعض نسائه كنيسةً بأرض الحبشة، يقال لها: مارية - وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة - فذكرْنَ من حسنها وتصاويرها، قالت: فرَفع النبي -صلى الله عليه وسلم- رأسه، فقال: ((أولئكِ إذا كان فيهم الرجل الصالح بَنَوا على قبره مسجدًا، ثم صوَّروا تلك الصور، أولئكِ شرارُ الخلق عند الله يوم القيامة)).
قال ابن رجب في فتح الباري:
"هذا الحديث يدل على تحريمِ بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصويرِ صورِهم فيها، كما يفعله النصارى، ولا ريبَ أن كل واحد منهما محرَّم على انفراده؛ فتصوير صور الآدميين يحرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده يحرم، كما دلَّت عليه نصوص أخر، يأتي ذكر بعضها... قال: والتصاويرُ التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، فتصوير الصور على مثال الأنبياء والصالحين للتبرك بها، والاستشفاع بها يحرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ أهله شرارُ الخَلق عند الله يوم القيامة، وتصوير الصور للتأسي برؤيتها، أو للتنزه بذلك والتلهي محرَّم، وهو من الكبائر، وفاعله من أشد الناس عذابًا يوم القيامة؛ فإنه ظالِم ممثِّل بأفعال الله، التي لا يقدر على فعلها غيرُه، وإنه -تعالى- ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله - سبحانه وتعالى - ولعلِّي - إن شاء الله - أزِيد مسألة التصوير هذه بيانًا في موضعها، فالله الموفِّق.
5- روى مسلم وغيره عن جُنْدُب بن عبدالله البَجَلِي - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمس - أي: بخمس ليالٍ - وهو يقول: ((قد كان لي فيكم إخوةٌ وأصدقاء، وإني أبرأُ - أي: أمتنع وأنكر - إلى الله أن يكون لي فيكم خليلٌ، وإن الله - عزَّ وجلَّ - قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيمَ خليلاً، ولو كنتُ متخذًا من أمتى خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك)).
وروى ابن أبي شيبة - بإسناد صحيح على شرط مسلم - عن عبدالله بن الحارث النجراني - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمس - أي: بخمس ليالٍ - وهو يقول: ((ألا وإن مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك)).
6- روى أحمد وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا، لَعَن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
7- روى ابن خزيمة وابن حبَّان وأحمد وغيرهم، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن من شرار الناس مَن تدركه الساعة وهم أحياء، ومَن يتَّخذ القبور مساجد)).
8- روى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُجَصَّص القبر، وأن يُقعَد عليه، وأن يُبْنَى عليه".
ولهذه الأحاديث شواهد كثيرة جدًّا من أحاديث جمعٍ من الصحابة، بلغت حدَّ التواترِ، وجزم بتواترها جمعٌ من أهل العلم، وانظر رسالة: "الأمر بالاتباع" للحافظ السيوطي الشافعي ص9، ورسالة: "زيارة القبور"؛ للبركوني الحنفي ص6.
وأبو عبدالله الكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر رقم: 109، وكنت أَوَدُّ ذكرها - والله - لولا خشية الإطالة عليك، ولكن فيما ذكرت كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
معنى اتخاذ القبور مساجد:
لقد تبيَّن من الأحاديث السابقة خطرُ اتخاذ القبور مساجد، وما على مَن فعل ذلك من الوعيد الشديد عند الله -تعالى- فعلينا أن نفقهَ معنى الاتخاذ المذكور؛ حتى نحذَرَه، والذي يمكن أن يفهم من هذا الاتخاذ، إنما هو ثلاثة معانٍ:
الأول: الصلاة على القبور، بمعنى السجود عليها.
والثاني: السجود إليها، واستقبالها بالصلاة والدعاء.
والثالث: بناء المساجد عليها، وقصد الصلاة فيها.
وبكل واحد من هذه المعاني قال طائفة من العلماء، وجاءت بها نصوص صريحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فارجع إلى تحذير الساجد؛ فقد فصَّل فيه الشيخ الألباني - رحمه الله - ذلك، ثم قال: وجملة القول: أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدِّمة، يشمل كل هذه المعاني الثلاثة، فهو من جوامع كَلِمه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
اتخاذ المساجد على القبور من الكبائر:
بعد أن تبيَّن معنى الاتخاذ الوارد في الأحاديث السالفة الذكر، يجدر بنا أن نتبين منها حكم الاتخاذ المذكور، فإذا تأملنا هذه الأحاديث، ظهر لنا - وبقوة - أن الاتخاذ المذكور حرام، بل كبيرة من الكبائر؛ لأن اللعنَ الوارد فيها، ووصفَ المخالفين بأنهم شرار الخلق عند الله تعالى - لا يمكن أن يكون في حق مَن يرتكب ما ليس كبيرة، كما لا يخفى.
مذاهب العلماء في المسألة منقولة من كتبهم المعتمدة دون تلبيس أو تحريف لكلامهم:
اعلم - أخي الموحِّد - أنه قد اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك، ومنهم مَن صرح بأنه كبيرة، وهاك تفصيلَه:
1- مذهب الشافعي أنه كبيرة؛ فقد قال في الأم، باب ما يكون بعد الدفن:
"وأكره أن يبنى على القبر مسجدٌ، أو يصلَّى عليه..".
وينبغي هنا قبل أن أسترسل في ذكر مذاهب العلماء، أن أنبِّه على أنه لا بدَّ من الانتباه للمعاني الحديثة التي طرأت على الألفاظ العربية التي تحمل معاني خاصة معروفة عند العرب، هي غير هذه المعاني الحديثة، كما ينبغي الانتباه إلى تطور المصطلحات؛ حتى لا يُحَمَّلَ كلامُ العلماءِ غيرَ ما يحملُه؛ فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها التي استعملت فيه في كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ولكن المتأخِّرين اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرَّم، وتركه أرجح من فعله، ثم حمل - مَن حمل منهم - كلامَ الأئمة على الاصطلاح الحادث؛ فغلط في ذلك، وأقبح غلطًا منه مَن حمل لفظ الكراهة أو لفظ "لا ينبغي" في كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على المعنى الاصطلاحي الحادث؛ ولذلك كثيرًا ما ينادي أهل العلم: "ضبْط المصطلح: ضرورة علمية، وفريضة شرعية"؛ فالكراهة عند السلف يراد بها التحريم؛ ولذلك قال الحافظ السيوطي الشافعي في الأمر بالاتباع: "فأما بناء المساجد عليها، وإشعال القناديل، والشموع، أو السُّرج، فصرَّح عامة علماء الطوائف بالنهي عن ذلك، ولا ريب في القطع بتحريمه"؛ اهـ.
وقال: "فهذه المساجد المبنية على القبور يتعين إزالتها.. هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المعروفين، وتُكره الصلاة فيها من غير خلاف"؛ اهـ.
وقال النووي الشافعي في المجموع، في باب الجنائز:
"اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهورًا بالصلاح أو غيره؛ لعموم الأحاديث"؛ اهـ.
وجاء في فتاواه ما نصه:
"مسألة: مقبرة مسبلة للمسلمين، بنى إنسان فيها مسجدًا، وجعل فيها محرابًا، هل يجوز ذلك؟ وهل يجب هدمه؟
الجواب: لا يجوز ذلك، ويجب هدمه"؛ اهـ.
وقال في شرح مسلم:
"قال الشافعي في الأم: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويؤيِّد هذا قوله - أي في الحديث -: ((ولا قبرًا مشرفًا - مرتفعًا - إلا سوَّيته)).
وفي فيض القدير عن العراقي الشافعي:
"لو بنى مسجدًا بقصد أن يُدفَن في بعضه، دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه، لم يصحَّ الشرط؛ لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدًا"؛ اهـ.
وقال ابن حجر الهيثمي الشافعي في شرح المنهاج كما في روح المعاني (8 226):
"وقد أفتى جمعٌ بهدم كلِّ ما بقَرافة مصرَ من الأبنية، حتى قبَّة الشافعي - عليه الرحمة - التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدمُ ذلك، ما لم يخشَ منه مفسدة، فيتعيَّن الرفع للإمام؛ أخذًا من كلام ابن الرفعة في الصلح"؛ اهـ.
هذا وقد صرَّح - رحمه الله - بأن هذا الفعل كبيرة؛ فقال في الزواجر عن اقتراف الكبائر:
"الكبيرة الثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة والتسعون:
اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السُّرج عليها، واتخاذها أوثانًا، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها... ثم ساق بعض الأحاديث المتقدِّمة وغيرَها، ثم قال: "تنبيه: عدُّ هذه الستة من الكبائر وقَع في كلام بعض الشافعية، وكأنه أخذ ذلك مما ذكرتُه من الأحاديث، ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجدًا منها واضح؛ لأنه لعن مَن فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل مَن فعل ذلك بقبور صلحائه شرَّ الخَلق عند الله -تعالى- يوم القيامة، ففيه تحذير لنا، كما في رواية: "يحذِّر ما صنعوا"؛ أي: يحذر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك، فيُلْعَنوا كما لُعِنوا، ومن ثَمَّ قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا، ومثلها الصلاة عليه للتبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهرٌ من الأحاديث المذكورة لِما علمت، قال بعض الحنابلة: قَصد الرجلِ الصلاةَ عند القبر متبركًا به عينُ المحادَّة لله ورسوله، وابتداع دين لم يأذن به الله؛ للنهي عنه إجماعًا، فإن أعظمَ المحرمات وأسباب الشرك الصلاةُ عندها، واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها، والقول بالكراهة محمول على غير ذلك - لعله يشير إلى قول الشافعي الذي ذكرته أولاً - إذ لا يُظَنُّ بالعلماء تجويز فعلٍ تواترَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعنُ فاعله، وتجب المبادرة لهدمها، وهدم القباب التي على القبور؛ إذ هي أضرُّ من مسجد الضرار؛ لأنها أسِّست على معصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنه نهى عن ذلك، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفُه ونذره"؛ انتهى كلام ابن حجر - رحمه الله.
2- مذهب الحنفية: الكراهة التحريمية:
قال الإمام محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - في الآثار، عند كلامه على أحكام القبر:
"نكره أن يُجَصَّص، أو يطين، أو يجعل عنده مسجد.. وهو قول أبي حنيفة".
وقال العيني الحنفي في البناية:
"وكره أبو حنيفة أن يبنَى على القبر، أو يصلَّى إليه، أو يصلَّى بين القبور".
وإذا أطلق الإمام أبو حنيفة الكراهةَ، فمراده كراهة التحريم، وعند محمد وأبي يوسف بمعنى المحرَّم، كما نص على ذلك علماء الحنفية، وانظر: تكملة فتح القدير لابن الهمام أول كتاب الكراهة، وانظر أصله "الهداية" للمرغياني الحنفي المطبوع معه.
وقال ابن عابدين الحنفي في حاشيته:
"أما البناء عليه، فلم أرَ مَن اختار جوازه".
وقال الإمام البركوني الحنفي، في زيارة القبور ص6 - عند كلامه على أحكام القبور -:
"وقد صرَّح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها".
وقال الشيخ أحمد الرومي الحنفي - كما في المجالس الأربعة من مجالس الأبرار، ص366 -:
"المساجد المبنيَّة على القبور، فإن حكم الإسلام فيها أن تهدَم كلها حتى تسوَّى بالأرض، وكذا القباب التي بُنِيت على القبور يجب هدمها؛ لأنها أسِّست على معصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومخالفته، وكل بناء أسِّس على معصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومخالفته، فهو بالهدم أَولى من مسجد الضِّرار؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن البناء على القبور، ولعَن المتخذين عليها مساجد، فيجب المبادرةُ والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولعَن فاعله".
3- مذهب المالكية: التحريم:
قال الإمام القرطبي المالكي - في تفسير الآية 21 من سورة الكهف -:
"اتخاذ مساجد على القبور، والصلاة فيها، والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنّة من النهي عنه - ممنوعٌ لا يجوز"، ثم ذكر الأحاديث التي فيها النهي عن ذلك، ثم قال: "قال علماؤنا: وهذا يُحَرِّم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد".
وقال ابن عبدالبر المالكي الأندلسي في التمهيد 1 - 128 - بعد ذكره لحديث عائشة في ذكر كنيسة الحبشة، وقد ذكرت هذا الحديث آنفًا -:
"هذا يُحَرِّم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء والصالحين مساجد".
وكلام ابن عبدالبر - رحمه الله - يدل دلالة قاطعة على مذهبه، وما نقله المعارض في رسالته - "فيض الرحمن" - بشأن تجويز الصلاة في المقبَرة، لا يعارض تحريمه الصلاةَ في المسجد إذا بُنِي على مقبَرة، وكلام إمام المذهب في ذلك واضح، قال ابن عبدالباقي في شرح الموطأ - كما في التيسير ص295 -:
"روى أشهب عن مالك، أنه كرِه لذلك أن يدفن الميتُ في المسجد".
4- مذهب الحنابلة: التحريم ووجوب هدم هذه المساجد:
قال ابن القيم الحنبلي في زاد المعاد 3 - 22:
"... وعلى هذا؛ فيُهْدَم المسجد إذا بُنِي على قبر، كما يُنْبَش الميت إذا دُفِن في المسجد، نصَّ على ذلك الإمام أحمد وغيره، فلا يَجتَمِع في دين الإسلام مسجدٌ وقبرٌ، بل أيهما طرأ على الآخر مُنِع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معًا لم يجُزْ، ولا يصح هذا الوقف، ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد؛ لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، ولعنِه من اتخذ القبر مسجدًا، أو أوقد عليه سراجًا، فهذا دين الإسلام الذي بعث اللهُ به رسولَه ونبيه، وغربتُه بين الناس كما ترى!".
وقال البهوتي في المنتهى وشرحه 1 - 353:
"ويحرُم إسراجها؛ أي: القبور... ويحرم التخلي على القبور وبينها، ويحرم جعلُ مسجد عليها وبينها".
وقال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص775:
"فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم، يتعيَّن إزالتُها بهدمٍ أو غيره، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين، وتُكرَه الصلاة فيها من غير خلاف أعلمُه، ولا تصحُّ عندنا في ظاهر المذهب؛ لأجل النهيِ واللعن الوارد في ذلك، ولأجل أحاديثَ أُخَرَ".
فتبيَّن - بحمد الله تعالى - مما نقلتُه عن العلماء أن مذاهبَ الأئمة الأربعة متفقة على ما أفادته الأحاديث المتقدمة، من تحريم بناء المساجد على القبور، وقد نقل اتفاق العلماء على ذلك أعلمُ الناس بأقوالهم، ومواضعِ اتفاقهم واختلافهم، ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد سئل - رحمه الله - بما نصه:
"هل تصح الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبرٌ، والناس تجتمع فيه لصلاتَي الجماعة والجمعة أم لا؟ وهل يمهد القبر، أم يعمل عليه حاجز أو حائط؟
فأجاب:
الحمد لله، اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجدٌ على قبر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك))، وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غيِّر؛ إما بتسوية القبر، وإما بنبشِه إن كان جديدًا.. فالمسجد الذي على القبر لا يصلَّى فيه فرض ولا نفل؛ فإنه منهي عنه"؛ (الفتاوى1 - 107، و2 - 192).
وقد تبنَّت دار الإفتاء المصرية فتوى شيخ الإسلام هذه، فنقلتْها عنه في فتوى لها أصدرتها، تنص على عدم جواز الدفن في المسجد، فليراجعها من شاء في مجلة الأزهر (ج11، ص501 - 503)، وفي المجلة نفسها مقالٌ آخر في تحريم البناء على القبور مطلقًا، وسأنقل - إن شاء الله - بعض فتاوى علماء الأزهر في هذه المسائل، فالله المستعان.
وقال ابن تيمية - في الاختيارات العلمية ص52 -:
"ويحرم الإسراج على القبور، واتخاذ المساجد عليها وبيْنها، ويتعيَّن إزالتُها، ولا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين"، ونقله ابن عروة الحنبلي في الكواكب الدراري، وأقره.
وهكذا نرى أن العلماء كلَّهم اتفقوا على ما دلت الأحاديث من تحريم اتخاذ المساجد على القبور؛ فليحذرِ المؤمنون من مخالفتهم، والخروج عن طريقتهم؛ خشيةَ أن يشملهم وعيدُ قول الله -تعالى-: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
و﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].
شبهات وجوابها:
قد كان كل ما سبق كافيًا لتحذر الأمةُ من هذا الداء العضال، لولا أن الله -تعالى- قدَّر - وهو الحكيم الخبير - أن يَخرج على الناس علماءُ سوء، يزيِّنون لهم المعصية، ويأخذون بأيديهم إلى الهاوية، ويخاطبون أهواءهم بشبهات أَوْهَى من بيوت العنكبوت، يستمسكون بها، ويجالدون عليها، ويعادُون من أجلها، بَيْدَ أن الله تعالى - وهذه سنته التي لا تتبدل ولا تتغير - يُقيِّض برحمته مَن يُزِيل هذه الشبهات، ويبيِّن فسادَها لكل مَن يبتغي الحق؛ ذلك لئلا يكونَ للناسِ على الله حجَّة، وقد أثيرت حول مسألتنا هذه - رغم وضوح دلائلها - الكثيرُ والكثيرُ من الشبهات، لكنها جميعَها - بفضل الله تعالى - لا تثبت عند التحقيق، ولا تقوى على مقاومة الحق الساطع، فالحمد لله على كل نعمة.
ومن بين هذه الشبهات، قول بعضهم: إذا كان من المقرَّر شرعًا تحريمُ بناء المساجد على القبور، فهناك أمور كثيرة تدل على خلاف ذلك، وإليك بيانها:
أولاً: قوله -تعالى-: ﴿ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ﴾ [الكهف: 21].
فالقائلون نصارى كما في التفاسير، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتِهم، وشريعةُ مَن قبلنا شريعة لنا إذا حكاها الله، ولم يعقبها بما يدل على ردِّها، كما في هذه الآية.
ثانيًا: كون قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مسجده الشريف، ولو كان ذلك لا يجوز، لَمَا دفنوه في مسجده!
ثالثًا: صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجد الخَيْف مع أن فيه قبرَ سبعين نبيًّا، كما قيل.
رابعًا: ما ذُكر في بعض الكتب أن قبرَ إسماعيل - عليه السلام - وغيره في الحِجْرِ من المسجد الحرام، وهو أفضل مسجدٍ يتحرَّى المصلِّي الصلاةَ فيه.
خامسًا: بِناء أبي جَنْدَل - رضي الله عنه - مسجدًا على قبر أبي بَصِير - رضي الله عنه - في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الاستيعاب لابن عبدالبر.
سادسًا: زعَم بعضُهم أن المنعَ من اتخاذ القبور مساجدَ، إنما كان لعلة خشية الافتتان بالمقبور، ثم زالت برسوخ التوحيد في قلوب المؤمنين، فزال المنع؛ فكيف التوفيق بين هذه الأمور، وبين التحريم المذكور؟
والجواب على ذلك باختصار من "تحذير الساجد"؛ فارجع إليه لزامًا؛ لزيادة تفصيل لا بدَّ منه.
أما الشبهة الأولى:
فالجواب عنها من ثلاثة وجوه:
الأول: أن الصحيحَ المتقرِّر في علم الأصول أن شريعة مَن قبلنا ليست شريعة لنا؛ لأدلة كثيرة، منها:
ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أعطيتُ خمسًا لم يُعطَهنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي))، ومنها: ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبُعِثت إلى الناس كافة))؛ فإذا تبيَّن هذا، فلسنا ملزَمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جوازَ بناء المسجد على القبر كان شريعةَ مَن قبلنا، وانظر إن شئتَ المطوَّلات من كتب علم الأصول، وخاصة الإحكام لابن حزم.
الثاني: هَبْ أن الصواب قولُ مَن قال: "شريعة مَن قبلنا شريعة لنا"؛ فذلك مشروطٌ عندهم بما إذا لم يَرِد في شرعنا ما يخالفه، وهذا الشرط معدومٌ هنا؛ لأن الأحاديث تواترت في النهي عن البناء المذكور - كما سبق - فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعةً لنا.
الثالث: لا نسلِّم أن الآية تُفِيد أن ذلك كان شريعةً لمن قبلنا؛ إذ غاية ما في الآية أن جماعة من الناس قالوا: ﴿ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ﴾ [الكهف: 21]؛ فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين، وعلى التسليم بذلك، فليس فيها أنهم كانوا مؤمنين صالحين، متمسِّكين بشريعة نبيٍّ مرسَل، بل الظاهر خلاف ذلك؛ قال ابن رجب - في فتح الباري شرح صحيح البخاري، في شرح حديث: ((لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) -:
"وقد دلَّ القرآن على مثل ما دلَّ عليه هذا الحديث - وذكر الآية - ثم قال: فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستندَه القهرُ والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل، المتَّبعين لِما أنزل اللهُ على رسله من الهدى".
هذا، وقد حكى أهل التفسير - كابن جرير، وابن الجوزي، وغيرهما في القائلين ذلك - قولين: "أحدهما: أنهم المسلمون منهم، والثاني: أهلُ الشرك منهم، فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك، هم أصحابُ الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذِّر ما فعلوا، وقد روِّينا عن عمر بن الخطاب: أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمَر أن يُخفَى عن الناس، وأن تُدفَن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، فيها شيء من الملاحم وغيرها" [تفسير ابن كثير (5/ 147)].
وقال العلامة الألوسي في روح المعاني (5 - 31):
"واستُدلَّ بالآية على جواز البناء على قبور العلماء، واتخاذ مسجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي، وهو قولٌ باطلٌ عاطل، فاسد كاسد.
فقد روى...."
ثم ذكر بعضَ الأحاديث المتقدمة، وأتبعها بكلام الهيثمي في الزواجر مقرًّا له عليه - وقد سبق أن ذكرته - ثم نقل عنه ما ذكرته قبلُ من كتاب شرح المنهاج، ثم قال - رحمه الله -:
"وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رُشْد أن يذهب إلى خلاف ما نطَقت به الأخبارُ الصحيحة والآثار الصريحة؛ معوِّلاً على الاستدلال بهذه الآية؛ فإن ذلك في الغواية غاية، وفي قلة النُّهى نهاية، ولقد رأيت مَن يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها، وبنائها بالجصِّ والآجُرِّ، وتعليق القناديل عليها، والصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها، والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة إلى غير ذلك، محتجًّا بهذه الآية الكريمة، وبما جاء في بعض روايات القصة من جعْل الملك لهم في كل سنة عيدًا، وجعله إياهم في توابيت من ساج، ومقيسًا البعض على البعض، وكل ذلك محادة لله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وابتداع دين لم يأذَن به الله - عز وجل.
ويكفيك في معرفة الحق تتبُّع ما صنع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قبره، وهو أفضلُ قبر على وجه الأرض، والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له، والسلام عليه، فتتبَّع ذلك وتأمَّل ما هنا وما هناك، والله - سبحانه - يتولانا ويتولاك".
وقد ضرب الشيخ الألباني - رحمه الله - مثلاً رائعًا - لشَد ما أعجبني - لمن يستدل بهذه الآية على خلاف الأحاديث المتقدمة، بمن يستدل على جواز صنع التماثيل والأصنام، بقوله -تعالى- في الجن الذين كانوا مذلَّلين لسليمان - عليه السلام -: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ [سبأ: 13]، يستدل بها على خلاف الأحاديث الصحيحة التي تحرم التماثيل والتصاوير، ثم قال: وما يفعل ذلك مسلمٌ يؤمن بحديثه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأما الشبهة الثانية:
وهي أن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجده كما نرى اليوم، ولو كان ذلك حرامًا لم يدفن فيه.
فالجواب: أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم، فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - فإنهم لما مات -صلى الله عليه وسلم- دفنوه في حجرته التي كانت بجوار مسجده، وهذا أمرٌ مقطوعٌ به عند العلماء، ولا خلاف في ذلك بينهم، وإنما فعل الصحابة ذلك؛ كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجدًا، كما سبق بيانه في حديث عائشة، ولكن وقع بعدهم ما لم يكن في حسبانهم؛ ذلك أن الوليد بن عبدالملك أمَر بهدم المسجد النبوي، وإضافة حُجُرِ أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه، فأدخل فيه حجرة عائشة، فصار القبر بذلك في المسجد - كما في تاريخَي ابن جرير وابن كثير - ولم يكن في المدينة أحدٌ من الصحابة حينذاك، خلافًا لِما توهم بعضهم - كما قال الحافظ محمد بن عبدالهادي في الصارم المُنكِي ص136 - فدخول القبرِ المسجدَ تَمَّ حين لم يكن في المدينة أحدٌ من الصحابة، وذلك على خلاف غرضِهم الذي رمَوا إليه حين دفنوه في حجرته -صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز لمسلم يعرف هذه الحقيقة أن يحتجَّ بما وقع بعد الصحابة؛ لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة، ولفهم الصحابة منها، وهو مخالف أيضًا لصنيع عمر وعثمان حين وسَّعا المسجد، ولم يُدخِلا القبر فيه.. ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد - عفا الله عنه - ولئن كان مضطرًّا إلى توسيع المسجد، فإنه كان باستطاعته أن يوسِّعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرَّض للحجرة الشريفة، ومع هذه المخالفة الصريحة للأحاديث المتقدِّمة وسنة الخلفاء الراشدين، فإن المخالفين لَمَّا أدخلوا القبر النبوي في المسجد الشريف احتاطوا للأمر شيئًا ما، فحاولوا تقليلَ المخالفة ما أمكنهم - كما قال النووي في شرح مسلم - بَنَوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلا يظهرَ القبر، فيصلي إليه العوام، ويؤدِّي إلى المحذور، ثم بنَوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا؛ حتى لا يتمكَّن أحد من استقبال القبر"؛ اهـ.
وكأنه يشير إلى أن ظهور القبر في المسجد ولو من وراء النوافذ والحديد والأبواب - لا يزيل المحذور، ولعل ما فعله المخالفون من هذا الاحتياط كان ردَّ فعل طبيعي لإنكار علماء السلف عليهم مخالفتَهم للأحاديث الصحيحة.
وأما الشبهة الثالثة:
وهي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلَّى في مسجد الخَيْف، وقد ورد في الحديث أن فيه قبر سبعين نبيًّا.
فالجواب: إننا لا نشكُّ في صلاته -صلى الله عليه وسلم- في هذا المسجد، ولكننا نقول: إن ما ذكر في الشبهة من أنه دفن فيه سبعون نبيًّا لا حجَّة فيه من وجهين؛ الأول: أننا لا نسلِّم بصحة الحديث المشار إليه؛ لأنه لم يروِه أحد ممن عُنِي بتدوين الحديث الصحيح، ولا صحَّحه أحد ممن يوثَق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين، ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه؛ فإن في إسناده مَن يروي الغرائب؛ وذلك مما يجعل القلبَ لا يطمئن لصحة ما تفرد به.. وقد تناول هذا الحديثَ الشيخُ الألباني بالدراسة، ثم قال: "وجملة القول: أن الحديث ضعيفٌ، لا يطمئن القلب لصحته... فإن أبَوا إلا أنه صحيح، فالجواب عنه من الوجه الثاني وهو: أن الحديثَ ليس فيه أن القبورَ ظاهرةٌ في مسجد الخَيْف، وقد عقد الأزرقي في تاريخ مكة - (406 - 410) - عدَّة فصول في وصفِ مسجد الخَيْف، فلم يذكرْ أن فيه قبورًا بارزة، ومن المعلوم أن الشريعة إنما تبنِي أحكامها على الظاهر، فإذْ ليس في المسجد قبورٌ ظاهرة، فلا محظور في الصلاة فيه ألبتة؛ لأن القبور مندرسة، ولم يَعرِفها أحدٌ، بل لولا هذا الخبر - الذي عُرِفَ ضعفه - لم يخطر في بال أحد أن في أرضه سبعين قبرًا؛ ولذلك لا يقع فيه تلك المفاسد التي تقع عادة في المساجد المبنية على القبور الظاهرة والمشْرِفة.
وأما الشبهة الرابعة:
وهي ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل - عليه السلام - وغيره في الحِجْر من المسجد الحرام، وهو أفضل مسجد يُتَحرَّى الصلاة فيه، فالجواب: لا شك أن المسجد الحرام أفضل المساجد، والصلاة فيه بمائة ألف صلاة، لكن هذه الفضيلة أصيلة فيه منذ رفَع قواعدَه إبراهيمُ مع ابنِه إسماعيلَ - عليهما السلام - ولم تطرأ هذه الفضيلة عليه بدفن إسماعيل فيه، وهذا على فرض أنه دفِن فيه، ومَن زعم خلاف، ذلك فقد ضلَّ ضلالاً بعيدًا، وجاء بما لم يقلْه أحد من السلف الصالح، ولا جاء به حديث تقوم به الحجة.
فإن قيل: لا شك فيما ذكرت، ودفن إسماعيل فيه لا يخالف ذلك، ولكن ألا يدل هذا - على الأقل - على عدم كراهة الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟
فالجواب: كلا، ثم كلا، وهاك البيان من وجوه:
الأول: أنه لم يثبت في حديث مرفوع أن إسماعيل أو غيره من الأنبياء دُفِنوا في المسجد الحرام، ولم يرِدْ شيء من ذلك في كتاب من كتب السنة المعتمدة، وذلك من أعظم علامات كون الحديث ضعيفًا، بل موضوعًا عند بعض المحقِّقين؛ فقد نقل السيوطي في التدريب عن ابن الجوزي: ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديثَ يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع، قال: ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجًا عن دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة؛ اهـ.
وغاية ما رُوِي في ذلك آثارٌ معضلات، بأسانيد واهيات موقوفات، أخرجها الأزرقي في أخبار مكة، فلا يُلتفت إليها وإن ساقها بعض المبتدعة مساقَ المسلَّمات.
الوجه الثاني:
أن القبورَ المزعومَ وجودُها في المسجد الحرام غيرُ ظاهرةٍ ولا بارزة؛ ولذلك لا تُقصَد من دون الله -تعالى- فلا ضررَ من وجودها في بطن أرض المسجد، فلا يصحُّ حينئذٍ الاستدلالُ بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض؛ لظهور الفَرْق بين الصورتين، وبهذا أجاب الشيخ علي القاري في مرقاة المصابيح 1 - 456؛ فالعبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة، وأما ما كان في باطن الأرض من القبور، فلا يرتبط به حُكْمٌ شرعي من حيث الظاهر، بل الشريعة تتنَزَّه عن مثل هذا الحُكْم؛ لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلَّها مقبرةُ الأحياء.
صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلَأُ الرُّحْ
بَ فَأَيْنَ القُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ
خَفِّفِ الوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ
أَرْضِ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الأَجْسَادِ
سِرْ إِنِ اسْطَعْتَ فِي الْهَوَاءِ رُوَيْدًا
لاَ اخْتِيَالاً عَلَى رُفَاتِ العِبَادِ
ومن البيِّن الواضح أن القبر إذا لم يكن ظاهرًا معروفًا مكانُه، فلا يترتَّب من وراء ذلك مفسدة ظاهرة، كما هو مشاهد؛ حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرِفة، حتى ولو كانت مُزَوَّرَة، لا عند القبور المندرسة، ولو كانت حقيقية، فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين، وهذا ما جاءت به الشريعة - كما سبق - فلا يجوز التسويةُ بينهما، والله المستعان.
وأما الشبهة الخامسة:
وهي بِناء أبي جَنْدَل - رضي الله عنه - مسجدًا على قبر أبي بَصِير - رضي الله عنه - في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فشبهةٌ لا تساوي حكايتها، ولولا أن بعضَ ذوي الأهواء من المعاصرين اتَّكأ عليها في رد الأحاديث المحكَمة، لَما سمحت لنفسي أن أُسَوِّدَ الصفحات في سبيل الجواب عنها، وبيان بطلانها!
والكلام عليها من وجهين:
الأول: رد ثبوت البناء المزعوم من أصله؛ لأنه ليس له إسنادٌ تقوم به الحجة، ولم يَروِه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرهم، وإنما أورده ابن عبدالبر في ترجمة أبي بَصِير من الاستيعاب 4/ 21 - 23 مرسلاً، ثم إن لفظة: "وبنى على قبره مسجدًا"، ذكرها ابن عبدالبر بعد أن نصَّ على أنها من كلام ابن عقبة، وابن عقبة لم يسمع من الصحابة، فهذه الزيادة معضلة - والمخالفون عندما يستدلون بهذه القصة يحذفون من كلام ابن عبدالبر قولَه: "وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر.."، وهذا هو التلبيس بعينه - بل هذه الزيادة منكرة؛ لمخالفتها رواية البخاري في صحيحه، وأحمد في مسنده، موصولة من طريق عبدالرزاق عن مَعْمر، وكذا أوردها ابن إسحاق في السيرة عن الزهري مرسلاً - كما في المختصر لابن هشام - فدلَّ كل ذلك على أنها منكَرة؛ لإعضالها، وعدم رواية الثقات لها، والله الموفِّق.
الوجه الثاني:
أن ذلك لو صح لم يجُزْ أن تُرَدَّ به الأحاديثُ الصريحة في تحريم بناء المساجد على القبور؛ وذلك لأمرين:
أولهما: أنه ليس في القصة أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- اطَّلع على ذلك وأقره.
وثانيهما: أنه لو فرضنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علِم بذلك وأقرَّه، فيجب أن يُحمَل ذلك على أنه قبل التحريم؛ لأن الأحاديث صريحةٌ في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرَّم ذلك في آخر حياته - كما سبق - فلا يجوز أن يُتركَ النصُّ المتأخِّر من أجل النص المتقدِّم - على فرض صحته - عند التعارض، وهذا بيِّن لا يخفى، نسأل الله -تعالى- أن يحميَنا من اتباع الهوى.
وأما الشبهة السادسة:
وهي الزعم بأن المنع إنما كان لعلة، وهي خشية الافتتان بالمقبور، وقد زالت، فزال المنع!
فلست أعلم أحدًا من العلماء ذهب إلى القول بهذه الشبهة إلا الغماري في كتابه: "إحياء القبور"؛ فإنه تمسّك بها، وجعلها عُمدته في رد الأحاديث المتقدِّمة - وغيرها - واتفاق الأمَّة عليها.
والجواب أن يُقال: أَثبِت العرشَ ثم انقش!
أَثبِت أولاً أن الخشية المذكورة هي وحدَها علةُ النهي، ثم أَثبِت أنها قد انتفت، ودونَ ذلك خَرْطُ القَتَاد.
فأما الأول، فلا دليل عليه مطلقًا، نعم من الممكن أن يُقال: إنها بعض العلة، وأما حصرها فيها فباطل؛ إذ من الممكن أن ينضاف إليها أمور أخرى معقولة، كالتشبُّه بالنصارى، والإسراف في صرف المال فيما لا فائدة فيه شرعًا، وغير ذلك مما قد يبدو للباحث الناقد.
وأما زعمهم أن العلة انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين، فهو زعم باطل أيضًا، وبيانه من وجوه:
الأول: أن الزعم بُنِي على أصل باطل، وهو أن الإيمان بأن اللهَ هو المنفرد بالخَلق والإيجاد كافٍ في تحقيق الإيمان المُنجِّي عند الله، وليس كذلك؛ فإن هذا التوحيد - وهو المعروف عند العلماء بتوحيد الربوبية - كان يقرُّ به المشركون، ولم يُدخِلْهم في الإسلام؛ لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية والعبادة.. ومن مقتضيات هذا التوحيد الذي أنكروه: تركُ الاستغاثة والاستعانة بغير الله، وتركُ الدعاءِ والذبح لغير الله، وغير ذلك مما هو خاصٌّ بالله من العبادات، فمَن جعل شيئًا من ذلك لغير الله، فقد أشرك به، فالإيمان المنجِّي إنما هو الجمع بين الربوبية والألوهية، وإفراد الله بذلك.
فإذا تبيَّن هذا، عُلِم أن الإيمان الصحيح غير راسخٍ في نفوس كثير من المؤمنين بتوحيد الربوبية، ولا أريد أن أبعد بك - أخي الحبيب - في ضرب الأمثلة، لكن نظرة سريعة للواقع اليوم، تُنبِيك!
وإن كانوا يريدون بالمؤمنين الصحابة، فلا شك أنهم كانوا مؤمنين حقًّا، عالِمين بحقيقة التوحيد الذي جاءهم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن الشريعة عامَّة أبديَّة، فلا يلزم من انتفاء العلة - لو ثبت - بالنسبة إليهم أن ينتفي الحكمُ بالنسبة لمن بعدهم؛ لأن العلة لا تزال قائمة، والواقع أصدقُ شاهد على ذلك.
الوجه الثاني:
النبي -صلى الله عليه وسلم- حذَّر من اتخاذ المساجد على القبور في آخر حياته، بل في مرض موته، فمتى زالت هذه العلة؟
إن قيل: زالت عقب وفاته، فهذا نقض لِما عليه جميع المسلمين من أن الصحابة خير الناس؛ لأن القول بذلك يستلزم أن الإيمان لم يكن قد رسخ بعدُ في نفوس الصحابة، وإنما رسخ بعدَ وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولذلك لم تزُلِ العلَّة وبقِي الحُكم، وهذا مما لا يقول به أحد؛ لوضوح بطلانه.
وإن قيل: زالت قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم.
قلنا: كيف ذلك، وهو إنما نهى عن ذلك في آخر نفَس من حياته - صلى الله عليه وسلم؟ ويؤيِّده:
الوجه الثالث: أنه في حديث ابن مسعود - وقد سبق - استمرارُ الحُكم إلى يوم القيامة.
الوجه الرابع: أن الصحابة إنما دفنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجرته، خشية أن يُتخذ قبره مسجدًا - كما في حديث عائشة - فهذه الخشية إما أن يقال: إنها كانت منصبة على الصحابة أنفسهم، أو على من بعدهم، فإن قيل بالأول، قلنا: فالخشية على من بعدهم أَولى، وإن قيل بالثاني - وهو الصواب - فهو دليل قاطع على أن الصحابةَ كانوا لا يرون زوال العلة المستلزمَ زوالَ الحكم، لا في عصرهم، ولا فيما بعدهم، فالزعم بخلاف رأيهم ضلالٌ بيِّن، ويؤيده:
الوجه الخامس: أن العمل استمر من السلف على هذا الحُكم ونحوه؛ مما يستلزم بقاء العلة السابقة، وهي خشية الوقوع في الفتنة والضلال، فلو أن العلة المشار إليها كانت منتفيةً لَما استمر العملُ على مدلولها، وهذا بيِّن لا يخفى والحمد لله، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
• روى مسلم وغيره عن أبي الهيَّاج الأسدي - رحمه الله - قال: "قال لي علي - رضي الله عنه -: "ألا أبعثُك على ما بَعثنِي عليه رسول الله؟ ألا تدَعَ تمثالاً إلا طَمَستَه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته"، وفي وصية ابن مسعود - رضي الله عنه - عند الإمام أحمد بسند قوي -: ".. ولا تجعلوا على قبري بناءً.."، وهناك كثير من هذا القَبيل ذكره الشيخ الألباني، ثم قال:
فثبت أن القول بانتفاء العلة المذكورة وما بُني عليه كله باطل؛ لمخالفته نهج السلف الصالح، مع مصادمته للأحاديث الصحيحة، والله المستعان.
حكمة تحريم بناء المساجد على القبور:
من الثابت في الشرع أن الناس منذ أول عهدهم كانوا أمَّة واحدة على التوحيد الخالص، ثم طرأ عليهم الشرك، والأصل في هذا قوله -تعالى-: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ [البقرة: 213].
فإذا تبيَّن هذا، فإن من المهم جدًّا أن يعلم المسلم كيف طرأ الشرك على المؤمنين بعد أن كانوا موحِّدين.
لقد ورد عن جماعة من السلف رواياتٌ كثيرةٌ في تفسير قول الله -تعالى- في قوم نوح: ﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح: 23].
جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس: أن هؤلاء الخمسة أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هَلَكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عُبدت"، ونحوه في تفسير ابن جرير وغيره عن غير واحد من السلف.. فاقتضت حكمة الله -تعالى- وقد أرسل محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خاتَمَ الرسل، وجعل شريعته خاتمة الشرائع - أن ينهى عن كل الوسائل التي يُخشَى أن تكون ذريعة - ولو بعد حين - لوقوع الناس في الشرك الذي هو أكبر الكبائر؛ فلذلك نهى عن بناء المساجد على القبور، كما نهى عن شد الرِّحَال إليها، واتخاذها أعيادًا، والحلفِ بأصحابها؛ إذ كل ذلك يؤدِّي إلى الغلو بها، وعبادتها من دون الله -تعالى- لا سيما عند انطفاء العلم، وكثرة الجهل، وقلة الناصحين، وتعاوُنِ شياطين الجن والإنس على إضلالِ الناس، وإخراجهم من عبادة الله - تعالى.
ولا يخفى أنه إذا كان من المسلَّم عند معشر المسلمين أن من حكمة النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة هو سدُّ الذريعة، وعدم التشبه بالمشركين الذين يعبدون الشمس في تلك الأوقات، فالذريعة في التشبُّه بهم في بناء المساجد على القبور والصلاة فيها أقوى وأوضح، ألا ترى أننا حتى اليوم لم نجد أي أثر سيئ لصلاة بعض الناس في هذه الأوقات المنهي عنها، بينما نرى أسوأ الآثار للصلاة في هذه المساجد والمشاهد المبنية على القبور؛ من التمسح بها، والاستغاثة بأصحابها، والنَّذْر لها، والحلِف بها، بل والسجود لها أحيانًا، وغير ذلك من الضلال مما هو مُشاهَد معروف، فاقتضت حكمتُه -تعالى- تحريمَ كل هذه الأمور، حتى يُعبد الله -تعالى- وحده ولا يُشرَك به شيء، فيتحقَّق بذلك أمره -تعالى- بدعائه وحده في قوله: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18].
وإن مما يَأسَف له كلُّ مسلم طاهرُ القلب أن يجد كثيرًا من المسلمين قد وقعوا في مخالفة شريعة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي جاءت بالابتعاد عن كل ما يُخل بالتوحيد، ثم يزداد أسفًا حين يرى قليلاً أو كثيرًا من المشايخ يُقرُّونهم على تلك المخالفة، بدعوى أن نياتهم طيبة.
ويشهد الله أن كثيرًا منهم قد فسدت نيَّاتهم، وران عليها الشركُ؛ بسبب سكوت أمثال هؤلاء المشايخ، بل تسويغهم كل ما يرونه من مظاهر الشرك بتلك الدعوى الباطلة.
أين النية الطيبة يا قوم من أناسٍ كلما وقعوا في ضيق جاؤوا إلى ميت يرونه صالحًا، فيدعونه من دون الله، ويستغيثون به، ويطلبون منه العافية والشفاء وغير ذلك مما لا يُطلب إلا من الله، وما لا يَقدِر عليه إلا الله؟ بل إذا حدث لأحدهم مكروهٌ نادى: يا ألله، يا بدوي، أو يا رفاعي، أو غير ذلك، بينما هؤلاء المشايخ قد يعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع يومًا بعض الصحابة يقول له: ما شاء الله وشئت، فقال: ((أجعلتني لله ندًّا؟!))، فإذا كان هذا إنكارَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مَن آمن به؛ فرارًا من الشرك، فلماذا لا ينكر هؤلاء المشايخ على الناس قولَهم: يا ألله، يا بدوي، أو يا رفاعي، أو غير ذلك، مع أنه في الدلالة على الشرك أوضح وأظهر من كلمة: ما شاء الله وشئت؟!
ولماذا نرى العامَّة يقولون - دون أي تحرُّج -: "توكلنا على الله وعليك، وما لنا غير الله وأنت"؟ ذلك لأن هؤلاء المشايخ إما أنهم مثلُهم في الضلال، وفاقدُ الشيء لا يعطيه، وإما أنهم يدارونهم، بل يداهنونهم؛ كي لا يُوصَموا ببعض الوصمات التي تقضي على وظائفهم ومعاشاتهم، غير مبالين بقول الله -تعالى-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].
يا حسرةً على المسلمين، لقد كان المفروض فيهم أن يكونوا دعاةً لجميع الناس على دين التوحيد، وسببًا لإنقاذهم من الوثنية وأدرانها، ولكن بسبب جهلهم بدينهم، واتباعهم أهواءهم، عادوا مضربَ مثلٍ للوثنية من قِبل المشركين أنفسهم، فصاروا يصفونهم بأنهم كاليهود في بنائهم المساجد على القبور؛ فقد جاء في كتاب "دعوة الحق" للشيخ عبدالرحمن الوكيل - رحمه الله - ص (176 - 177): "وقد سجَّل على المسلمين هذه الوثنيةَ المستشرقُ الإنكليزي اللئيم "إدوارد لين"، في كتابه: المصريون المحدَثون"، ثم ذكر الشيخ كلامه هناك، فارجع إليه.
علم الكفار الغربيون هذه الضلالة التي وقع فيها كثيرٌ من المسلمين - لا سيما الشيعة منهم - فاستغلوها حتى في تحقيق المطامع الاستعمارية؛ فقد قال فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري في فتوى له في النهي عن زخرفة القبور، وبناء القباب والمساجد عليها - ليس من الإسلام ص174 محمد الغزالي -: "وبهذه المناسبة أذكر أن أحد كبار الشرقيين حدَّثني عن بعض أساليب الاستعمار في آسيا: أن الضرورة كانت تقضي بتحول القوافل الآتية من الهند إلى بغداد عبر تلك المنطقة الواسعة إلى اتجاه جديد، للمستعمِر فيه غاية، ولم تُجْدِ أي وسيلة من وسائل الدعاية في جعل القوافل تختاره.. وأخيرًا اهتدَوا إلى إقامة عدة أضرحة وقِبَاب على مسافات متقاربة في هذا الطريق.. وما هو إلا أن اهتزت الإشاعاتُ بمن فيها من الأولياء، وبما شوهد من كراماتهم، حتى صارت تلك الطريق مأهولةً مقصودة عامرة..".
فتاوى مهمة في تحريم إقامة الأضرحة، وتزيينها، ووضع القناديل عليها، والنَّذر لساكنيها:
قبل أن أدخل إلى مسألة الصلاة في المساجد المقبورة، أذكر في ختام هذه المسألة بعض الفتاوى التي قد كنتُ وعدت بها، وقد ذكرت في الكلام عن مذهب الحنابلة في المسألة الأولى فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكرتُ أنه قد تبنَّت دار الإفتاء المصرية فتوى شيخ الإسلام هذه، فنقلتْها عنه في فتوى لها أصدرتها، تنص على عدم جواز الدفن في المسجد، فليراجعها مَن شاء في مجلة الأزهر ج11 ص501 - 503، وذكرتُ أيضًا أن في المجلة نفسها مقالاً آخر في تحريم البناء على القبور مطلقًا، فلا داعي لإعادتها مرة أخرى.
فتوى الشيخ عبدالمجيد سليم شيخ الجامع الأزهر، ومفتي الديار المصرية:
(الهدي النبوي: عدد50 لسنة 1359هـ)، قال:
"كتبت وزارة الأوقاف ما يأتي: يوجد بوسط مسجد "عز الدين أيبك" قبران ورد ذكرُهما في الخطط التوفيقية، وتقام الشعائر أمامهما وخلفهما.. وقد طلب رئيس خدم هذا المسجد إلى محافظة مصر دفنه في أحد هذين القبرين؛ لأن جده الأكبر الذي جدَّد بناء المسجد مدفونٌ بأحدهما.. فنرجو التفضل ببيان الحكم الشرعي في ذلك.
الجواب: اطلعنا على كتاب الوزارة رقم 2723 المؤرخ 21/ 3/ 1940، المطلوب به بيان الحكم الشرعي فيما طلبه رئيس خدم مسجد "عز الدين أيبك" من دفنه في أحد القبرين الذين بهذا المسجد، ونفيد أنه قد أفتى شيخُ الإسلام ابن تيمية بأنه لا يجوز أن يُدفن في المسجد ميت، لا صغير ولا كبير، ولا جليل ولا غيرُه؛ فإن المساجد لا يجوز تشبيهُها بالمقابر.
وقال في فتوى أخرى: إنه لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غيِّر: إما بتسوية القبر، وإما بنبشه إن كان جديدًا.. إلخ؛ اهـ؛ وذلك لأن الدفن في المسجد إخراجٌ لجزء من المسجد عما جُعِل له من صلاة المكتوبات وتوابعها من النَّفل والذِّكر وتدريس العلم، وذلك غير جائز شرعًا، ولأن اتخاذ قبر في المسجد على الوجه الوارد في السؤال، يؤدِّي إلى الصلاة إلى هذا القبر أو عنده، وقد وردت أحاديثُ كثيرة دالةٌ على حظر ذلك".. ثم ذكر - رحمه الله - كلام شيخ الإسلام في الاقتضاء ص158، وكلام ابن القيم الذي ذكرته من قبل، وكلام النووي في شرح المهذب ج5 ص316، ثم قال:
"وقد نصَّ الحنفية على كراهة صلاة الجنازة في المسجد؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من صلَّى على جنازة في المسجد، فلا أجرَ له))؛ وعلَّل صاحب الهداية هذه الكراهة بعلتين:
إحداهما: أن المسجد بُنِي لأداء المكتوبات؛ يعني: وتوابعها من النوافل، والذِّكر، وتدريس العلم، وإذا كانت صلاة الجنازة في المسجد مكروهة للعلة المذكورة كراهة تحريم - كما هو إحدى الروايتين، وهي التي اختارها قاسم وغيره - كان الدفنُ في المسجد أَولى بالحظر؛ لأن الدفن في المسجد فيه إخراج الجزء المدفون فيه عمَّا جُعل له المسجد من صلاة المكتوبات وتوابعها، وهذا مما لا شك في عدم جوازه شرعًا.. وبما ذكرنا عُلم الجواب عن السؤال متى كان الحال؛ اهـ.
وحيث إن المخالف ادَّعى أننا نكذب على الشيخ في هذه الفتوى، فإليك أخي توثيقَها:
• فمصدرها: موسوعة فتاوى دار الإفتاء المصرية ولجنة الفتوى بالأزهر الشريف.
• وموضوعها: الدفن في المسجد غير جائز.
• ورقم الفتوى: 319 بموسوعة الأزهر الشريف.
• والمفتي: فضيلة الشيخ: عبدالمجيد سليم.
• وتاريخ الفتوى: 17من جمادى الأولى 1359هـ - 22 من يونيه1940م.
• والمبادئ:
1- لا يجوز دفن الموتى في المساجد.
2- إذا دفن الميت في المسجد نُبِش عند الإمام أحمد.
وبهذا يتبيَّن مَن الذي يدلِّس على العلماء، ومَن الذي يكذب عليهم!
تنبيه: الحديث الذي ذكره الشيخ - رحمه الله - أخرجه أبو داود (3191)، بلفظ: ((فلا شيء عليه))؛ وحسنه الألباني بلفظ: ((فلا شيء له))، وقد ثبت - مسلم 973 - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلَّى على سُهيل بن بيضاء في المسجد؛ ولذا أجاب العلماء عن هذه اللفظة بعدة أجوبة:
منها: أن الحديث ضعَّفه الإمام أحمد.
ومنها: أنه على فرض ثبوته، فإن لفظة "له" بمعنى "عليه"؛ وانظر شرح مسلم للنووي 7/ 56 - 57.
فتوى لجنة الفتوى بالأزهر في تحريم إقامة الأضرحة وتشييد القبور:
تلقَّت لجنة الفتوى بالأزهر السؤال التالي:
دفن المرحوم العارف بالله الشيخ منصور هيكل بطابق علوي، ودفن قبْلاً والده المرحوم العلامة الشرقاوي بالطابق الأرضي من المقبرة، ويراد نقل الأول إلى مقام شيِّد له، وبالأرض رطوبة ضاربة بالجدران، ظاهرة للعيان، حتى إن الجدران لا تمسك مواد البناء فيها - الإسمنت - فهل من أئمة المسلمين مَن يجيز نقل الميت بعد دفنه؟
رأي لجنة الفتوى:
اطَّلعت اللجنة على هذا، وتفيد بأنه إذا كان الحال كما ذُكِر به، جاز نقل هذا الميت إلى مكان لآخر، ولكن لا يجوز شرعًا نقله إلى ضريحٍ أو قبَّة، كما يصنعه بعضُ الناس لمن يعتقدون فيه الولاية والصلاح؛ فإن هذا نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكَرت اللجنة حديث أبي الهيَّاج الأسدي الذي سبق، وحديث جابر؛ قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجصَّص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه"؛ رواه أحمد، ومسلم، والنَّسائي، وأبو داود، والترمذي وصحَّحه، ولفظه - أي الترمذي -: "نهى أن يبنَى على القبر، أو يزاد عليه، أو يجصَّص، أو يكتب عليه".
قال الشوكاني في شرحه للحديث الأول:
"ومِن رفعِ القبور الداخلِ تحت الحديث دخولاً أوليًّا القببُ والمشاهد المعمورة على القبور.. وكم سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد، يَبكِي لها الإسلام؛ منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنُّوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر، فجعلوها مقصدًا لطلب الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدُّوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة فإنهم لم يَدَعُوا شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.. إلى آخر ما قال في صفحة: 325 من الجزء الثالث.
وجملة القول: إن اللجنة ترى تحريمَ نقل هذا الميت إلى ضريح أو قبر ذي قبة؛ للأحاديث التي ذكرها الشوكاني وغيرُه، وهي مفاسد تمس العقيدة، وتُخل بالإيمان الصحيح"؛ اهـ.
وفي مجلة الهدي النبوي:
"يسرنا أن ننشر هذه الفتوى القيمة، الصادرة عن لجنة تعتبَر المرجع الرسمي الوحيد في الشؤون الدينية، نقلاً عن جريدة الأساس عدد 13/ 12؛ لعل الناس عندما يسمعونها يثوبون إلى رشدهم، ويرجعون إلى الحق في أمور دينهم، خصوصًا ما يتعلق منها بالعقائد التي هي مناطُ إيمانِ المرء أو كفرِه؛ ذلك بأن النهيَ عامٌّ شامل، لكل تمثال مقام، أو قبر مرتفع، سواء كان تمثالاً لعظيم، أو ضريحًا لآخر، أو قبة لولي مزعوم، كل ذلك منكَر، بل شرك لم يأذن به الله.. وإذا عَرَفنا أن الإسلام إنما جاء لمصلحة العباد وسعادتهم في دنياهم قبل آخرتهم، أدركنا لماذا شدَّد النكيرَ على إقامة هذه المباني فوق الموتى.
فتوى الشيخ عبدالمجيد سليم في أن النَّذْر للأولياء حرامٌ بإجماع العلماء.
السؤال: سيِّدة لها حصة في صندوق النذور والصدقات بضريح أحد الأولياء، قد تنازلت عنها لأولاد بنتها، فهل يصح هذا التنازل شرعًا، وهل هذه النُّذور تورَّث؟
الجواب: اطَّلعنا على السؤال، ونُفِيد بأنه قد جاء في "البحر" - قبيل باب الاعتكاف من الجزء الثالث نقلاً عن الشيخ قاسم في شرح الدرر - ما نصه: وأما النَّذر الذي نذره أكثر العوامِّ على ما هو مشاهد، كأن يكون لإنسان غائب أو مريض أو له حاجة، فيأتي قبر بعض الصلحاء، فيقول: يا سيدي فلان، إن عُوفِي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من النقود كذا، أو من الطعام كذا، فهذا النَّذر باطل بالإجماع؛ لوجوه:
• منها: أنه نَذر لمخلوق، وهو لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون للمخلوق.
• ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك.
• ومنها: أنه ظنَّ أن الميت يتصرف في الأمور دون الله -تعالى- واعتقاد ذلك كفر، اللهم إلا إن قال: يا ألله، إني نذرتُ لك إن شفيتَ مريضي أو رددتَ غائبي أن أُطعِم الفقراء الذين بباب الولي الفلاني، أو دراهم لمن يقوم بشعائره، إلى غير ذلك مما يكون فيه نفع للفقراء؛ والنذر لله - عز وجلَّ.
وذكر الولي إنما هو محلٌّ لصرف النَّذر لمستحقيه، القاطنين برباطه، أو مسجده، فيجوز بهذا الاعتبار؛ إذ مصرف النَّذر الفقراء، وقد وُجد المصرف، ولا يجوز أن يصرف ذلك لغني غير محتاج، ولا لشريف ذي منصب؛ لأنه لا يحل الأخذُ ما لم يكن محتاجًا فقيرًا، ولا لذي النسب لأجل نسبه ما لم يكن فقيرًا، ولا لذي علمٍ لأجل علمه ما لم يكن فقيرًا، ولم يثبت في الشرع جواز الصرف للأغنياء؛ للإجماع على حرمة النذر للمخلوق، ولا ينعقد ولا تشغل الذمة به، ولأنه حرامٌ بل سُحت، ولا يجوز لخادم القبر أخذُه، ولا أكلُه، ولا التصرف فيه بوجه من الوجوه، إلا أن يكون فقيرًا، أو له عيال فقراء، وهم مضطرون، فيأخذونه على سبيل الصدقة المبتدأة، فأخذه أيضًا مكروه ما لم يَقصِد الناذرُ التقرب إلى الله -تعالى- وصرفه إلى الفقراء، بقطع النظر عن نذر الشيخ، فإذا عُلم هذا؛ فما يُؤخذ من الدراهم وغيرها، ويُنْقل إلى أضرحة الأولياء تقربًا إليهم، فحرام بإجماع المسلمين، ما لم يقصِدوا صرْفَه للفقراء الأحياء قولاً واحدًا"؛ اهـ.
والظاهر لنا أن هؤلاء العوامَّ، وإن قالوا بألسنتهم: إني نذرت لله، أو تصدقت لله، فقصدهم في الواقع - ونفس الأمر - إنما هو التقرُّب إلى الأولياء، وليس مقصدُهم التقربَ إلى الله وحده، ولقد صدق فضيلة الشيخ عبدالرحمن قراعة - رحمه الله - إذ يقول في رسالته التي ألفها في النذور وأحكامها: "ما أشبهَ ما يقدِّمون من قربان، وما ينذِرون من نذور، وما يعتقدون في الأضرحة وساكنيها، بما كان يصنع المشركون في الجاهلية، وما يغني عنهم نفي الشرك عنهم بألسنتهم، وأفعالهم تُنْبِئُ عما يعتقدون من أن هؤلاء الأولياء لهم نافعون، ولأعدائهم ضارُّون"؛ اهـ.
وجاء في سبل السلام، ما نصه:
"وأما النذور المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات، فلا خلاف في تحريمها؛ لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر، وهذا هو الذي كان يفعله عبَّاد الأوثان بعينه، فيحرم كما يحرم النَّذر على الوثن، ويحرم قبضه؛ لأنه إقرار على الشرك، ويجب النهي عنه، وإبانة أنه من أعظم المحرمات، لكن طال الأمر حتى صار المعروف منكرًا والمنكرُ معروفًا"؛ اهـ.
وقد أطال القولَ في ذلك الشوكانيُّ في رسالته المسماة "شرح الصدور في تحريم رفع القبور"، ولولا خشية الملل لذكرناه، وما ذكرناه فيه الكفاية.
مما ذكر يتبيَّن أن نَذر العوامِّ لأرباب الأضرحة، أو التصدق لهم تقربًا إليهم - وهو ما يقصده هؤلاء الجهلة مما ينذرونه - حرامٌ بإجماع المسلمين، والمال المنذور أو المتصدَّق به، يجب ردُّه لصاحبه إن عُلم، فإن لم يُعلَم، فهو من قَبِيل المال الضائع الذي لا يُعلَم له مستحق؛ فيصرف على مصالح المسلمين، أو على الفقراء، ولا يتعيَّن فقير لصرفه إليه، فليس لفقير معين - ولو كان خادمًا للضريح، أو قريبًا لصاحبه - حقٌّ فيه قبل القبض، فمَن قبض منهما شيئًا وكان فقيرًا فإنما تملَّكه بالقبض، ولا يجوز لغني أن يتناول منه شيئًا، فإذا تناول منه شيئًا لا يملكه، وجب ردُّه على مصارفه.
من هذا يُعلَم أنه ليس للمتنازلةِ المذكورة حقٌّ فيما يوضَع في الصندوق المذكور من الأموال، فإن تنازلت فإنما تتنازل عن شيء لم يثبتْ لها شرعًا، وعلى أن لها حقًّا فيه، فليس هذا الحق من الحقوق التي تقبلُ التنازلَ والتمليك، أو التي تُنقَل بالإرثِ عنها لورثتها، وبهذا عُلِم الجواب على السؤال، والله أعلم؛ [نُشرت بمجلة الهدي النبوي عدد 2 لسنة 1364هـ].
• فتوى الشيخ حسن مأمون في حكم زيارة الأضرحة والطواف بالمقصورة والتوسل بالأولياء:
سئل فضيلة الشيخ حسن مأمون مفتي الديار المصرية - أصبح شيخًا للأزهر بعد ذلك - سؤالين هامَّين:
س: ما حكم الشرع في زيارة أضرحة الأولياء، والطواف بالمقصورة، وتقبيلها، والتوسل بالأولياء؟
الجواب: أودُّ أن أذكر أولاً أن أصلَ الدعوة الإسلامية يقوم على التوحيد، والإسلام يحارب جاهدًا كل ما يقرِّب الإنسان من مزالق الشرك بالله، ولا شكَّ أن التوسل بالأضرحة والموتى أحدُ هذه المزالق، وهي رواسبُ جاهلية، فلو نظرنا إلى ما قاله المشركون عندما نَعَى عليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- عبادتهم للأصنام، قالوا له: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]؛ فهي نفس الحجَّة التي يسوقها اليوم الداعون للتوسل بالأولياء؛ لقضاء حاجة عند الله، أو التقرب منه، ومن مظاهر هذه الزيارة أفعالٌ تتنافى كليَّة مع عبادات إسلامية ثابتة؛ فالطواف في الإسلام لم يُشرَع إلا حول الكعبة الشريفة، وكل طواف حول أي مكان آخرَ حرامٌ شرعًا، والتقبيل في الإسلام لم يسنَّ إلا للحجر الأسود، وحتى الحجر الأسود، قال فيه عمر وهو يقبِّله: "والله لولا أني رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبِّلك ما فعلتُ"؛ فتقبيل الأعتاب أو نُحاس الضريح أو أي مكان به، حرامٌ قطعًا.
وتأتي بعد ذلك مسألةُ الشفاعة، وهذه في الآخرة غيرُها في الدنيا، فالشفاعة ارتبطت في أذهانِنا بما يحدث في هذه الحياة من توسط إنسان لآخر أخطأ عند رئيسه، ومَن بيده الأمر، يطلب إليه أن يغفرَ له هذا الخطأ، وإن كان هذا المخطئ لا يستحقُّ العفو والمغفرة، غير أن الله -تعالى- قد حدَّد طريق الشفاعة في الآخرة، فهذه الشفاعة لن تكون إلا لمن يرتضي اللهُ أن يشفعوا، ولأشخاص يستحقون هذه الشفاعة، وهؤلاء أيضًا يحدِّدهم الله؛ إذًا فكل هذا متعلق بإذن الله وحُكمه، فإذا نحن سبقنا هذا الحُكم بطلب الشفاعة من أيٍّ، فهذا عبث؛ لأننا لا نستطيع أن نعرف مَن سيأذن اللهُ لهم بالشفاعة، ومَن يشفِّعهم فيهم، وعلى ذلك يتَّضح أن كل زيارة للأضرحة والطواف حولها، وتقبيل المقصورة والأعتاب، والتوسل بالأولياء، وطلب الشفاعة منهم؛ كل هذا حرامٌ قطعًا، ومنافٍ للشريعة، وفيه إشراك بالله، وعلى العلماء أن ينظموا حملة جادة لتبيانِ هذه الحقائق؛ فإن الكثيرَ من العامة، بل ومن الخاصة ممن لم تُتَح لهم المعرفة الإسلامية الصحيحة - يقعون فريسةَ هذه الرواسب الجاهلية، التي تتنافى مع الإسلام، وإذا أُخِذَ الناسُ بالرفق في هذا الأمر، فلا بد أنهم سوف يستجيبون للدعوة؛ لأن الجميع حريصون - ولا شكَّ - على التعرُّف على حقائق دينهم.
س: هل يجوز النَّذر لغير الله؛ مثل أن يَنذر أحدُهم نتاجَ ماشيته، أو رِيعَ أرضه، أو مبلغًا من المال لأحد الأولياء؟ وهل يُقر الإسلام هذه النذور؟
الجواب: وردت الآيات صريحةً في أن النذر لا يجوز إلا لله، والنذرُ لغير الله شرك، فالنذر طاعة، ولا طاعة لغير الله"؛ [نشرتها مجلة الإذاعة في 7/ 9/ 1957م].
فتوى وزير الأوقاف ببطلان النذر لأصحاب الأضرحة والأولياء والصالحين:
نشرت جريدة الأخبار - في العدد (2733)، بتاريخ 13 ذي القعدة 1417هـ، الموافق 22/ 3/ 1997م - خطابًا من معالي وزير الأوقاف "أ.د. محمود حمدي زقزوق" موجهًا إلى الصحفي أحمد رجب، وقد تضمَّن الخطابُ فتوى هامة تتعلَّق بالنَّذر لغير الله، وقد جاء في الفتوى:
أود أن أوضِّح أن النذر لأصحاب الأضرحة والأولياء والصالحين باطلٌ بإجماع الفقهاء؛ لأنه نَذْر لمخلوق، والنذر عبادة، وهي لا تكون لمخلوق؛ وإنما تكون للخالق، والنَّذر لله من العبادات القديمة، ويُعَدُّ وسيلةً من وسائل التقرُّب إلى الله، وقد أقرَّ الإسلامُ النذر لله، وجعل الوفاء به ملزمًا، أما النذر لغير الله، فإنه فضلاً عن أنه باطل وغير مشروع، فإنه لا يجوز الوفاء به، ومن جانبنا نقوم بتوجيه أئمةِ المساجد إلى توضيح ذلك لجماهير الناس"؛ اهـ.
وهناك فتوى للشيخ "محمود شلتوت" شيخ الأزهر - رحمه الله - بيَّن فيها حُكم الاحتفال بالموالد للموتى، وحُكم وضع الشموع والقناديل على مقاماتهم؛ فأشفى، ولولا طولها لذكرتها لروعتها، وهناك أيضًا فتوى الشيخ "أحمد حسن الباقوري" - وزير الأوقاف - في حكم تزيين القبور، وإقامة الأضرحة عليها، نقلتها جريدة الأهرام في 14/ 2/ 1955م - وقد ذكرت جزءًا منها سابقًا عن استخدام أعداء الدين لهذا الأمر في الأغراض الاستعمارية - لكنها طويلة أيضًا؛ فلا داعيَ لذِكرها، فما ذكرت يشفي ويكفي، والله المستعان.
حكم الصلاة في المساجد المقبورة:
بعد أن تبيَّن لنا أن تحريم بناء المساجد على القبور حكمٌ ثابت مقرَّر إلى يوم الدين، وأن ما أُثِير من الشبهات حول هذا الحُكم، فهو كخيوط العنكبوت، لا وزن له ولا قيمة، وبعد أن عَرَفنا كذلك حكمة التحريم - يحسُن إرداف ذلك بمسألة أخرى هي من لوازم الحُكم المذكور، ألا وهي حكم الصلاة في هذه المساجد المبنية على القبور.
إن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهيَ عن الصلاة فيها؛ من باب أن النهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن الغاية المقصودة منها بالأَولى والأحرى، فيَنتُج من ذلك أن الصلاة في هذه المساجد منهيٌّ عنها، والنهي في مثل هذا الموضع يقتضي البطلان كما هو معروف عند العلماء، مثال ذلك: إذا نهى الشارعُ عن بيع الخمر، فالنهي عن شُربه داخل في ذلك كما لا يخفى، بل النهي عنه من باب أَولى؛ فالأحاديث الصحيحة السابقة صريحةُ الدلالة في تحريم بناء المساجد على القبور، وأنه لا يجتمع في شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- مسجد وقبر، وأما شمولها للنهي عن الصلاة في المساجد المبنية على القبور، فدلالتها على ذلك أوضح؛ وذلك لأن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها كما سبق.
ومن البيِّن جدًّا أن النهيَ عن بناء المساجد على القبور ليس مقصودًا بالذات، كما أن الأمر ببناء المساجد في الدور والمحلات ليس مقصودًا بالذات، بل ذلك كلُّه من أجل الصلاة فيها سلبًا أو إيجابًا، يوضح ذلك المثال الآتي: لو أن رجلا بنَى مسجدًا في مكان قَفْرٍ غير مأهول، ولا يأتيه أحد للصلاة فيه، فليس لهذا الرجل أي أجر في بنائه لهذا المسجد، بل هو عندي آثم؛ لإضاعته المال، ووضعه الشيء في غير محله، فإذا أمر الشارع ببناء المساجد، فهو يأمر ضمنًا بالصلاة فيها؛ لأنها هي المقصودة بالبناء، وكذلك إذا نهى عن بناء المساجد على القبور، فهو ينهى ضمنًا عن الصلاة فيها؛ لأنها هي المقصودة بالبناء أيضًا، وهذا بيِّن لا يخفى على العاقل - إن شاء الله.
ولو لم يَرِدْ شيء من هذه الأحاديث المحرِّمة لإقامة المساجد على القبور؛ لكان الواجب على المسلمين الامتناعُ من ذلك، والتحذير منه؛ لأن ذلك من أعظم ذرائع الشرك الذي دبَّ في جسد الأمة؛ إذ صرفت العبادات؛ من الدعاء، والنذر، والذبح، والاستغاثة، والتوكل، والرجاء إلى المقبورين دون الله؛ فإقامةُ المساجد على القبور من أعظم الوسائل المُفضِية إلى الشرك.
قال في فتح المجيد:
"ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لَعَن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فاعليه تحذيرًا لأمته أن يفعلوه معه -صلى الله عليه وسلم- ومع الصالحين من أمته - قد فعله الخَلْقُ الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربةً من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات، وما شعروا أن ذلك محادَّة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وقال القرطبي: "وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدِّية إلى عبادة مَن فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام".
واعلم - أرشدك اللهُ للصواب - أن المخالف قد ذكر في رسالته "فيض الرحمن" ص 5: أن مذهبَ الأئمة الأربعة هو جواز الصلاة في المقبرة، ولم ينسُبْ أيَّ قول يدل على ذلك إلى أي كتاب من كتب المذاهب المعتمدة، وهذا كذبٌ صريح على العلماء - كما سترى إن شاء الله.
وذكر المخالف أيضا ص [4 - 5] ما نصه:
"لتعلم أن العلماء لم يمنعوا الصلاة في هذه المساجد، بل بعضهم أجاز الصلاة في المقبرة"؛ اهـ.
والجواب عنه أن يُقال:
إن المخالف حكى الإجماع على جواز الصلاة في المساجد المقبورة، وهذا كذبٌ على الله ورسوله.. قال السيوطي الشافعي في الأمر بالاتباع ص 61: "فهذه المساجد المبنية على القبور يتعيَّن إزالتُها، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المعروفين، وتُكره الصلاة فيها من غير خلاف"؛ اهـ.
فيا ترى، أيَّ الإجماعين نتَّبع؟! وأي الفريقين يكذب على العلماء؟!
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة الحنبلي: "وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه".
ثم لا أدري لماذا الخُبث في الاستدلال بنقل المسألة محلِّ النزاع إلى مسألة أخرى يُطِيق المخالف فيها الكلام؟
إن ذلك يبيِّن - بوضوح - فسادَ النية، وخُبْثَ الطوية.
نعم، إن بعض العلماء أجاز الصلاة في المقبرة، ولكن هل هذا هو موضوع الرسالة الأساسي؟ كلا، إن الموضوع الأساسي هو حُكم الصلاة في المساجد المقبورة، وليس في مقبرة خارج المسجد فقط، وإن كان الصواب الذي نَدِين به لله -تعالى- بطلانَ الصلاة في المقبرة، ولو كانت خارج المسجد، وهو مذهب الحنابلة؛ قال شيخ الإسلام في شرح العمدة لابن قدامة ص [434 - 435]: "في الصلاة في المواضع المنهي عن الصلاة فيها، وفيها روايتان: إحداها: وهي ظاهر المذهب: أنها لا تصح ولا تجوز.. - ثم صحح ابن تيمية تلك الرواية بقوله: - والأول أصح؛ لأن قوله: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام))؛ [أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي] إخراجٌ لها عن أن تكون مسجدًا، والصلاة لا تصح إلا في مسجد؛ أعني: فيما جعله اللهُ لنا مسجدًا، وهذا خطاب وضع وإخبار، فيه أن المقبرة والحمام لم يُجْعَلا محلاًّ للسجود، كما بيَّن أن محل السجود هو الأرض الطيبة، فإذا لم تكن مسجدًا كان السجود واقعًا فيها في غير موضعه، فلا يكون معتدًّا به، كما لو وقع في غير وقته، أو إلى غير جهته، أو في أرض خبيثة - كأماكن قضاء الحاجة - ثم قال - رحمه الله - في ص 437: فإن هذا كالإجماع من الصحابة؛ قال أنس: "كنت أصلِّي وبين يدي قبر، وأنا لا أشعر، فناداني عمر: القبرَ القبر، فظننت أنه يعني القمر، فرفعت رأسي إلى السماء، فقال: إنما يعني القبر، فتنحَّيت عنه"؛ رواه سعيد وابن ماجه وغيرهما، وذكره البخاري في صحيحه"؛ اهـ.
• أما حكم الصلاة في المساجد المقبورة، فقد حكى الإجماع على عدم الجواز السيوطيُّ، وابن تيمية، وغيرهما، بل قد صرَّح الحنابلة ببطلان الصلاة، وخالفهم الجمهور؛ فأجازوا الصلاة مع تحريم الفعل، قال النووي في المجموع [5/ 316 - 317]: "قال الشافعي والأصحاب: وتكره الصلاة إلى القبور، سواء كان الميت صالحًا أو غيره".
ومؤكد أن قول الجمهور بالكراهة يكون في حالة الصلاة في المساجد المقبورة اتفاقًا، دون قصد للقبر؛ لأن الدليل الذي يثبت به البطلان هو النهي عن بناء المسجد على القبر، وهذا النهي لا يتصور إلا مع تحقُّق قصد البناء؛ فيصح القول بأن قصد الصلاة فيها يبطلها، وأما القول ببطلان الصلاة فيها دون قصد، فليس عليه نهيٌّ خاص يمكن الاعتمادُ عليه فيه، ولا يمكن أن يُقاس عليه قياسًا صحيحًا، بله أولويًّا، ولعل هذا هو السبب في ذهاب الجمهور إلى الكراهة دون البطلان.
أقول هذا معترفًا بأن الموضوع يحتاج إلى مزيد من التحقيق، وأن القول بالبطلان محتمل، لا سيما وأن في الصلاة في هذه المساجد تشبُّهًا باليهود والنصارى الذين كانوا - ولا يزالون - يقصدون التعبد في تلك المساجد المبنية على القبور؛ ولأن الصلاة فيها ذريعة لتعظيم المقبور فيها تعظيمًا خارجًا عن حد الشرع، وسدُّ الذرائع قاعدةٌ أصيلة من قواعد الإسلام، فيمكن القول ببطلان الصلاة في هذه المساجد احتياطًا وسدًّا للذريعة، لا سيما ومفاسد المساجد المبنية على القبور ماثلة للعيان - كما سبق مرارًا.
أما إن كان المصلي يقصد التبرك بالصلاة فيها، كما يفعله كثير من العامَّة، وغير قليل من الخاصة، ففي هذه الحالة لم يصحِّحها أحد، فلا شك في تحريم الصلاة فيها بل بطلانها؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعَن مَن فعل ذلك، فالنهي عن قصد الصلاة فيها أَولى، والنهي هنا يقتضي البطلان كما سبق.
وإليك - أخي الموحِّد - ذكر بعض مَن قال ذلك:
• قال الحافظ أبو موسى: قال الإمام أبو الحسن الزعفراني: "ولا يصلَّى إلى قبر ولا عنده، تبركًا وإعظامًا له؛ للأحاديث".
• وقال الملا علي القاري الحنفي في المرقاة [2/ 372] - عند شرحه لحديث: ((لا تصلوا إلى القبور)) - قال: "ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر، أو لصاحبه حقيقة، لكَفَر المعظِّم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم".
• وقال الحافظ السيوطي في الأمر بالاتباع ص 63 - عند كلامه على أحكام القبور -: "فأما إن قصد الإنسانُ الصلاة عندها، أو الدعاء لنفسه في مهامِّه وحوائجه متبركًا بها، راجيًا للإجابة عندها، فهذا عين المحادَّة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه وشرعه، وابتداع دين لم يأذنْ به الله ولا رسوله، ولا أئمة المسلمين المتبِعين آثاره وسنته".
• هذا وقد حكم صاحب الفيض ص 12:
أن إثارة مثل هذه المسائل تدخل تحت الفتن، وتضليل الأمة، وتجهيل العلماء قاطبة؛ إلخ..
فقارن أخي بين حُكمه، وبين ما ذكره السيوطي، والنووي، والزعفراني، وغيرهم - تعلم مَن المُضَلِّل، ومَن المخالف لإجماع المسلمين.
تنبيه:
اعلم أن كراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور مطردة في كل حال، سواء كان القبر أمامه أو خلفه، يمينه أو يساره، فالصلاة فيها - على أقل الأحوال - مكروهة، وكراهتها على كل حال، لكنها تشتد إذا كانت الصلاة إلى القبر؛ لأنه في هذه الحالة ارتكب المصلي مخالفتين: الأولى في الصلاة في هذه المساجد، والأخرى: الصلاة إلى القبر، وهي منهيٌّ عنها مطلقًا - سواء كان في المسجد، أو في غير المسجد - بالنص الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما تقدم.
شبهات والرد عليها:
الشبهة الأولى: اتهام المخالف - في الصفحة الأخيرة من الفيض - لنا بمخالفة الإجماع، مع أنه لم يذكر إجماعًا صحيحًا، ولكنه رمانا بدائه وانسلَّ!
ولذا؛ فسأضع أمامك الآن - بعون الله تعالى - عدة إجماعات صحيحة - إن شاء الله - ينكرها المخالف، أو يَغُضُّ الطرْف عنها، مُلَبِّسًا على المسلمين؛ لينال بذلك - إن لم يتب - الحظَّ الأوفر، والنصيب الأوفى من قوله -تعالى-: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]:
1- الإجماع على تحريم البناء على القبور، وقد ذكره الشوكاني، والسيوطي، وقد ذكرتها من قبل.
2- الإجماع على تحريم إيقاد المصابيح والأنوار عند القبور:
قال علامة الشَّام محمد جمال الدين القاسمي - في إصلاح المساجد، الباب الرابع ص 210 -: "وقال في شرح الإقناع: مَن نذر إسراجَ بئر أو مقبرة أو جبل أو شجرة، أو نذر له، أو لسكانه المضافين إلى ذلك المكان، لم يجُزِ الوفاء به إجماعًا، كما ذكر البركوني الحنفي ذلك الإجماع في زيارة القبور ص 6".
3- الإجماع على تحريم الصلاة في المسجد الذي بني على قبر، وقد سبق أن ذكرتُ حكاية السيوطي لهذا الإجماع.
4- الإجماع على أنه لا يجوز دفن الميت في المسجد؛ قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى [22/ 194 - 195]: "اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر، وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد".
5- الإجماع على وجوب إزالة المسجد المبني على القبر، أو إزالة صورة القبر من المسجد، وسبق أيضًا أن ذكرت حكاية السيوطي هذا الإجماع.
6- الإجماع على أن الذهاب إلى القبور بقصد التعبد لله -تعالى- بالصلاة عندها، أو الذبح لله عندها، أو دعاء الله عندها، أو بغير ذلك من العبادات - أن ذلك كله من البدع المنهي عنها.
روى ابن حزم في المحلى [4 - 32] النهي والتغليظ على الصلاة في المقبرة، أو عند القبر عن جمع من الصحابة، ثم قال: "فهؤلاء: عمر، وعلي، وأبو هريرة، وأنس، وابن عباس، ما نعلم لهم مخالفًا من الصحابة".
وقد سُئل شيخ الإسلام عمن يأتي إلى قبر نبي أو غيره من الصلحاء، ثم يدعو في كشف كربته.. فأجاب - كما في مجموع الفتاوى [27/ 151 - 152] -: "الحمد لله رب العالمين، ليس ذلك بسنة، بل هو بدعة؛ لم يفعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحدٌ من أصحابه، ولا أئمة الدين، بل لا يعرف هذا عن أحد من أهل العلم والدين، من القرون المفضلة التي أثنى عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لا من أهل الحجاز، ولا من اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا المغرب، ولا خُرَاسان، وإنما أُحدِث بعد ذلك، ومعلوم أن كل ما ليس بسنة، ولم يستحبَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من هؤلاء الذين يَقتدي بهم المسلمون في دينهم؛ فإنه يكون من البدع المنكرات، فمَن اتخذ عملاً من الأعمال عبادة ودينًا، وليس ذلك في الشريعة واجبًا ولا مستحبًّا، فهو ضال باتفاق المسلمين".
7- الإجماع على أن الطواف بالقبور تقربًا إلى الله -تعالى- محرم:
قال الكناني الشافعي في هداية السالك: الزيارة [3 - 1391]:
"ولا يجوز أن يُطاف بقبره -صلى الله عليه وسلم- ولا ببناء غير الكعبة الشريفة بالاتفاق".
8- الإجماع على أنه لا يستحب السفر من أجل زيارة القبور:
قال البركوني الحنفي - في زيارة القبور ص 22 عند كلامه عن مفاسد الغلو في القبور -: "ومنها السفر إليها مع التَّعب الأليم، والإثم العظيم، فإن جمهور العلماء قالوا: السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعةٌ، لم يفعلها أحدٌ من الصحابة والتابعين، ولا أمَر بها رسول رب العالمين، ولا استحبَّها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك قربة وطاعة؛ فقد خالف السنَّة والإجماع - أي: الإجماع على عدم الاستحباب - ولو سافر إليها بذلك الاعتقاد - أي: اعتقاد أن السفر مستحب - يحرم بإجماع المسلمين، فصار التحريمُ من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدًا لا يسافر إليها إلا لذلك".
قال شيخ الإسلام - كما في مجموع الفتاوى [27 / 308] -:
"وليس من علماء المسلمين من قال: يستحب السفرُ لزيارة القبور؛ وعليه فمن أصر على فعل شيء من هذه الأمور المحرمة، أو دعا إلى فعلها، فقد عرَّض نفسه لعقوبة الله في الدنيا والآخرة، والبعد عن هذه الأمور التي حذر منها نبيُّنا - عليه الصلاة والسلام - علامةٌ على محبته -صلى الله عليه وسلم- وفعلُها محادة له ومخالفة لسنته، وردٌّ لها.. كما أن في فعل هذه الأمور المحرمة تقديمًا لأقوال المشايخ وعادات الآباء والأجداد على سنة الحبيب محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- وفعلاً لِما يُبغضه - عليه الصلاة والسلام - أشد البغض، وعليه فمَن فعل ذلك، وأصرَّ على فعله بعد علمه بنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- ولعنه مَن فعل ذلك؛ فتلك علامة على استهانته بسنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعدم مبالاته بمخالفتها، وهذا أكبر برهان على نقص محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- كما أن فعل ذلك من أعظم أسباب الوقوع في الشرك الأكبر..".
الشبهة الثانية: قول المخالف في الصفحة الأولى من الفيض: "اعلم أنه لا يوجد على ظهر الأرض مسلمٌ يصلي لولي من أولياء الله..".
والجواب: أن هذا من تخبطه، فهو يستجلب عطف الناس ويستجيش مشاعرهم، ويلمزنا بأننا نتَّهم كل مَن يصلي في هذه المساجد بأنهم يصلُّون إلى الأولياء.
والرد على ذلك: أنه قد مرت بك - أخي المسلم - الأدلةُ من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- في سبب نهيه عن الصلاة في هذه المساجد، وهو خشية أن يعظَّم المقبور، ويُتبرَّك بالصلاة عند قبره، ويؤكِّد ذلك قول عائشة: "ولولا ذلك لأبرز قبره"؛ وقد ذكرت تعليق الحافظ ابن حجر على قولها، فراجعه مرة أخرى في أول حديث.
قال الإمام الشافعي في الأم [2 - 278]:
"كره - أي: النبي صلى الله عليه وسلم - والله أعلم أن يعظِّمَه أحدٌ من المسلمين؛ يعني يتخذ قبره مسجدًا، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على مَن يأتي بعده".
وقال السيوطي - في الأمر بالاتباع ص 62 -:
"المقصود الأكبر للنهي إنما هو مظنَّة اتخاذها أوثانًا - كما ورد عن الإمام الشافعي - وهذه العلة التي لأجلها نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي التي أوقعت كثيرًا من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو ما دونه".
وقال الإمام النووي في شرح مسلم [5 - 13]:
"قال العلماء: إنما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا؛ خوفًا من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، فربما أدَّى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأمم الخالية".
واعلم - أخي الحبيب - أن هناك فرْقًا بين مَن يصلي في تلك المساجد بنيَّة خالصة لله دون تعظيم للمقبور - وقد حُكِيَ الإجماعُ على عدم جواز هذا الفعل - وبين مَن يصلي بقصد التبرك بالصلاة عندها، فهذا له حُكم آخر، بالإضافة إلى بطلان الصلاة.
قال الملا علي القاري الحنفي في المرقاة [2 - 372] عند شرحه لحديث: ((لا تصلُّوا إلى القبور))؛ قال: "ولو كان هذا التعظيم حقيقةً للقبر أو لصاحبه، لكَفَر المعظِّم.."، وقد سبق هذا القول.
واعلم - أخي أيضًا - أن هذا التعظيمَ مداره على القلوب، ولا يعلم ما تنطوي عليه القلوب إلا الذي يعلم السر وأخفى.
الحكم السابق يشمل جميع المساجد إلا المسجد النبوي.
قال الألباني - رحمه الله -:
"اعلم أن الحُكم السابق يشمل جميع المساجد؛ كبيرها وصغيرها، قديمها وحديثها؛ لعموم الأدلة، فلا يستثنى من ذلك مسجدٌ فيه قبر إلا المسجد النبوي الشريف؛ لأن له فضيلة خاصة لا توجد في شيء من المساجد المبنية على القبور؛ وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين وغيرهما: ((صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام؛ فإنه أفضل))، ولقوله -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين وغيرهما - أيضًا -: ((ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة))، ولغير ذلك من الفضائل، فلو قيل بكراهة الصلاة فيه، كان معنى ذلك تسويته مع غيره من المساجد، ورفع هذه الفضائل عنه، وهذا لا يجوز كما هو ظاهر.. وهذا المعنى استفدناه من كلام ابن تيمية في بيان سبب إباحة صلاة ذوات الأسباب في الأوقات المنهي عنها، فكما أن الصلاة أبيحت في هذه الأوقات؛ لأن في المنع منها تضييعًا لها، بحيث لا يمكن استدراكُ فضلها لفوات وقتها، فكذلك يقال في الصلاة في مسجده -صلى الله عليه وسلم- ثم وجدتُ ابن تيمية صرَّح بذلك في كتابه: الجواب الباهر في حكم زوار المقابر: "والصلاة في المساجد المبنية على القبور منهي عنها مطلقًا، بخلاف مسجده -صلى الله عليه وسلم- فإن الصلاة فيه بألف صلاة؛ فإنه أسِّس على التقوى، وكانت حرمته في حياته -صلى الله عليه وسلم- وحياة خلفائه الراشدين قبل دخول الحجرة فيه، وإنما أدخلت بعد انقراض عصر الصحابة"، ثم قال: "وكان المسجد قبل دخول الحجرة فيه فاضلاً، وكانت فضيلة المسجد بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بناه لنفسه وللمؤمنين، يصلِّي لله فيه هو والمؤمنون إلى يوم القيامة، ففضِّل ببنائه له، فكيف وقد قال: ((صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام))، وقال: ((لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا))؟ وهذه الفضيلة ثابتةٌ له قبل أن تدخل فيه الحجرة، فلا يجوز أن يظن أنه صار بدخول الحجرة فيه أفضلَ مما كان، وهم لم يقصدوا دخول الحجرة فيه؛ وإنما قصدوا توسيعه بإدخال حُجَر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخلت الحجرة فيه ضرورة، مع كراهة مَن كره ذلك من السلف"، ثم قال: "ومَن اعتقد أنه قبل القبر لم تكن له فضيلةٌ؛ إذ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي فيه والمهاجرون والأنصار، وإنما حدثت الفضيلة في خلافة الوليد بن عبدالملك لَمَّا أدخل الحجرة في مسجده - فهذا لا يقوله إلا جاهلٌ، مُفْرِط في الجهل، أو كافر، فهو مكذِّب لِما جاء به، مستحقٌّ للقتل، وكان الصحابة يدعون في مسجده، كما كانوا يدعون في حياته، لم تحدث لهم شريعة غير الشريعة التي علَّمهم إياها في حياته.. بل نهاهم أن يتخذوا قبره عيدًا، أو قبر غيره مسجدًا يصلُّون فيه لله - عز وجل - ليسدَّ ذريعة الشرك، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا، وجزاه أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته؛ فقد بلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه"