نحو استشراف أمثل لمسيرة الصحوة السلفية بعد أحداث الخليج الأخيرة
هيثم الحداد
لقد آن الأوان أن تراجع الصحوة الإسلامية بشقها السلفي مواقفها من كثير من القضايا التي اعتقد أتباعها في وقت ما أنها من المسلمات، مثل بعض القضايا التي ألحقت بالتوحيد والعقيدة، وبعض مسائل السياسة مثل الانتخابات التي يسمونها خطأ بالديموقراطية، وبعض المسائل الاجتماعية، وغير ذلك.
- التصنيفات: التصنيف العام - قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد، فما من شك أن الأمة تمر في هذه الأيام بمرحلة عصيبة، إذ بلغت درجة غير مسبوقة من التفرق والاحتراب الداخلي، والضعف المعنوي والمادي، في سلسلة من الإخفاقات المؤلمة، والتي كان من آخرها تلك المواقف الأخيرة التي اتخذتها بعض الدول ذات الثقل القيادي الإسلامي، وما صاحبها من تأييد من قبل دعاتها وعلمائها الرسميين الذين طالما حملوا راية الدعوة السلفية – تبعا لبلادهم -؛ تلك المواقف كانت لها نتائج سلبية كبيرة جدا على مسيرة الدعوة الإسلامية على وجه العموم، وعلى الشق السلفي من الصحوة الإسلامية على وجه الخصوص، فقد تسببت في اهتزاز الثقة الإسلامية العالمية بتلك القيادة، وتصدع بعض التجمعات الدعوية وانهيار بعضها، إضافة إلى توقف كثير من المشاريع الدعوية، الأمر الذي يحتم علينا التعامل مع هذا الواقع الجديد، واتخاذ خطوات جريئة لحماية الدعوة الإسلامية من تداعيات هذه الأحداث، وهذه بعض الإجراءات – نظمتها من خلال محاور للعمل - التي أرى أنه من الضروري اتخاذها للتعامل الإيجابي مع هذه المستجدات وما أفرزت من واقع جديد، الأمر الذي إذا نجحت الصحوة عموما وشقها السلفي خصوصا في التعامل معه فستحيله من محنة إلى منحة ربانية لتقوية عود الصحوة، وانضاجها، وتحريرها من القيود التي فرضت عليها بسبب ارتباطها الوثيق بتلك الدول، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وأنوه هنا إلى أني حينما أخص بالذكر الصحوة الإسلامية بشقها السلفي، لست من أنصار الالتفاف حول المسميات، ولا من مؤيدي الفرقة بين الجماعات الإسلامية، وإنما لا يعدوا الأمر واقعا يجب أن نتعامل معه، بدل أن نغمض أعيننا أمامه، وسيرى القارئ أني سأنعي على هذه الفصيل من الصحوة عدم قدرته على الاندماج الكافي مع بقية فصائل الصحوة من أجل تحقيق الوحدة الإسلامية المأمور بها شرعا، قبل أن تكون مطلبا عقليا واستراتيجيا {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
المحور الأول: صناعة العلماء، وإعادة الاعتبار لدورهم الحقيقي:
1- على الدعوة الإسلامية العالمية، ولا يقتصر الخطاب هنا على الشق السلفي منها، العمل الجاد على صناعة علماء عالمييين، متحرربن من القطرية الضيقة الخاضعة لحسابات سياسية شخصية، أو حزبية ضيقة، متمكنين من علوم الشريعة، وعدد من العلوم الأخرى – مما سنذكرها الآن – وذلك حتى يتمكن هؤلاء من خلال هذا التكوين المتكامل، والحرية – ولو نسبية - من الانطلاق للعالمية، وفضاء الإسلام الواسع، وهذا لا يعني أبدا إهمال صناعة العلماء المحلييين لكل بلد وقطر.
2- لا بد من مراعاة الدور الحقيقي العالمي والشمولي لعلماء الشريعة عند صناعتهم، فأبو بكر رضي الله عنه سيد العلماء، وخيرهم، وعمر بعده، وعثمان، وعلي، ثم معاوية، ومروان بن الحكم، وعمرو بن عبد العزيز، رضي الله عنهم جميعا... ثم الأئمة الأربعة كان لكل واحد منهم دور شمولي وسياسي، وهكذا مشى على دربهم ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين، أمثال ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، وغيرهم.
صحيح أن العالم لن يكون متخصصا في السياسة أو الإعلام لكنه لا بد أن يكون ملما بقدر كاف منهما يؤهله للمساهمة في قيادة الأمة بنور الوحي، فقد سئم المسلمون من العلماء الذين لا يفقهون في السياسية شيئا، وبالتالي فإنهم يصلحون من جوانب ويفسدون من جوانب أخرى، ولذلك فلا بد عند صناعة هؤلاء العلماء من مراعاة التكوين الشمولي لهم والذي يشمل أخذهم بعدد من العلوم الأخرى كما أشرنا سابقا، ومن أهمها:
أ. علم السياسية، وبعد الأخذ بالعلم لا بد أن تكون لهؤلاء العلماء مشاركات سياسية ولو بشكل يسير بقدر المستطاع وبحسب ظروف كل بلد.
ب. علم القانون بصرف النظر عن مصدره شرعيا كان أو غير شرعي، فالقانون هو النظام السائد في العالم وفي أغلب الدول.
ج. علم الإعلام، مبادئه وفنونه، فالإعلام هو وسيلة التواصل مع الجماهير.
د. علم الاجتماع: لأن علم الاجتماع هو علم الحراك بين الأفراد، والمجتمعات، والتأثير والتأثر، فهو من أهم ما يحتاج إليه المؤثرون؛ العلماء.
هـ. علم الاقتصاد: فالاقتصاد هو عامود المجتمعات، فكيف لا يعرف عنه الفقيه شيئا.
و. علم الإدارة، فضعف تأثير كثير من العلماء بسبب ضعف أدائهم الإداري.
3- لا بد من العمل على استقلال العلماء من جميع النواحي، ماليا، معنويا، سياسيا، اجتماعيا بأكبر قدر ممكن، ثم دعم أولئك الذين لديهم قابليهم للاستقلال ولو بدرجات متفاوتة.
المحور الثاني: المؤسسات الدعوية:
ظهر جليا من خلال تداعيات أزمة الخليج الأخيرة سهولة التضييق على المؤسسات الدعوية التي لها ارتباط بالأنظمة الشمولية، ولذلك فإنه يتوجب على المؤسسات الدعوية تجاوز هذه الأنظمة، والعمل بعيدا عنهم، حتى تستقل بإدارتها أولا، ثم بمصادر دعمها المالي، والأهم من ذلك كله أن لا تكون بوقا لتلك الأنظمة، فتنطق بالباطل، أو تكتم الحق رعاية لمصالحها {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 41، 42].
المحور الثالث: الخطاب الدعوي:
كان ارتباط الصحوة بشقها السلفي بعدد محدود من العلماء كبيرا جدا، حتى صبغت تلك الدعوة بمذهبهم الفقهي، الأمر أثار هذا حفيظة أرباب المذاهب الأخرى في البلاد الأخرى، وربما سبب ذلك عداوة لما اشتهر بالدعوة السلفية، نعم لقد التفت بعض الغيورين من أبناء الصحوة لهذه المشكلة، لكن يظهر أنه لم يكن بشكل كاف، وكان لذلك آثار سلبية من ناحيتين رئيسيتين:
أولهما في طبيعة المواد الشرعية التي كانت محل اهتمام الصحوة بشقها السلفي.
ثانيهما في الآراء الفقهية التي تم تبنيها.
ويمكننا أن نلخص طبيعة المواد الدينية التي انصب عليها اهتمام الصحوة السلفية بأنها المواد المحصورة في العبادات الشخصية الظاهرة، أو في مسائل العقيدة التي تميز علماء بلاد معينة عن غيرهم، بحجة اتباعهم للسلف، على حساب غيرها، من العبادات القلبية، التي هي أصل الدين، كحب الله، والخوف منه، والتوكل عليه، والثقة به، والأخلاق، وأصول الاعتقاد الأخرى، والقواعد الكلية للشريعة في أبواب السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والقيم العليا كالعدل، والرحمة، والإحسان.
وهذه الأيام تنجلي لتكشف لنا أن الصحوة بشقها السلفي أغفلت إلى حد ما بناء منظومة القيم التي يمكن أن تصلح المجتمعات بشكل جذري يمكِّنها من التمييز بين ما يصلح لها ولدينها، ويساهم في بناء نهضة الأمة، وهو ما يمكن أن نسميه ب (التدين المجتمعي)، وبين ما يصلح الأفراد في دينهم وحياتهم الشخصية وهو ما يمكن أن نسميه ب (التدين الشخصي)، دون أن يكون له كبير أثر على الإصلاح السياسي، أو إصلاح المجتمعات، وقد يكون ذلك التركيز على ديانة الناس الشخصية دون التركيز على القيم الاجتماعية الكلية، من أسباب قبول العلمانية في المجتمعات العربية والإسلامية.
ولهذا فعلى تلك الصحوة أن تعيد النظر في خطابها في ضوء ما تقدم، فتتخذ منهجا قرآنيا في دعوتها، وحركتها، فالقرآن ركز على بناء الإنسان وفق منظومة إيمانية كلية، وابتعد عن القضايا الجزئية التفصيلية:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 71، 72].
وعليها أن تحيي في المجتمعات، تلك القيم الكلية التي دعا إليها القرآن، لأنها بمثابة أطواق النجاة التي تنقذ الغرقى من لجج الباطل:
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
أما بالنسبة للآراء الفقهية للصحوة السلفية، فقد تمحورت بشكل كبير حول ترجيحات ثلة قليلة جدًا من العلماء ومن ثم تم تهميش جمهور كبير من علماء الأمة الآخرين، بقصد أو بدون قصد، وتعلق الناس بتلك الشريحة من العلماء، حتى إذا ما أخفقوا في تحقيق تطلعات الناس، أصيب بعض الناس بالإحباط، واحتار الآخرون في أمرهم، ولم تكن أمام أعينهم قامات علمية أخرى يتم اللجوء إليها بسبب ما حدث لها من تهميش، فازداد عمق المصيبة.
ولتفادي تبعات هذا الخطأ، والوقوع فيه مرة أخرى، فعلى الصحوة الإسلامية وضع الأمور في نصابها، وإعادة الاعتبار لعلماء الأمة، من كل البلاد، ومن كل المذاهب الفقهية والعقدية، ليشمل ذلك علماء الأشاعرة، والماتريدية، وجميع المنتسبين لأهل السنة بمعناه الواسع، ما داموا من أهل القوة في الحق قولا وعملا، ولو خالف ذلك توجهات الأنظمة السياسية التي يعيشون في ظلها.
لقد آن الأوان أن تراجع الصحوة الإسلامية بشقها السلفي مواقفها من كثير من القضايا التي اعتقد أتباعها في وقت ما أنها من المسلمات، مثل بعض القضايا التي ألحقت بالتوحيد والعقيدة، وبعض مسائل السياسة مثل الانتخابات التي يسمونها خطأ بالديموقراطية، وبعض المسائل الاجتماعية، وغير ذلك.
لا بد أن يعي الجميع أن أشاعرة اليوم غير أشاعرة الأمس، وقل ذلك في غيرهم، بل لا بد أن يستحضر الجميع أن "الصراع" بين فرق أهل القبلة، أو قل أهل السنة الذي جرى في الماضي، حصل في سياق وواقع مختلف بالكلية عن السياق والواقع الذي نعيشه هذه الأيام، وليس من الحكمة إهمال السياقات والواقع عند العمل بأحكام الشريعة، فقد تكون – أعني تلك السياقات والواقع - عللا تدور تلك الفتاوى معها وجودا وعدما، فلا يصح أن نتعامل مع حالة الصراع تلك وما نفخ فيها من أقوال، وفتاوى وكأنما هي أحكام ثابتة صالحة لكل زمان ومكان.
المحور الرابع: هوية الصراع:
أثبتت أحداث ما سمي بالربيع العربي، وأحداث الخليج التالية له، أن لدينا معسكرين اثنين؛ من يحمل هم الأمة، فيعمل على نهضتها لتصبح كما وصفها الله جل وعلى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}فيعمل على وحدتها وفق شرع الله ولو بالإجمال، فيريدها عزيزة، قوية، مستقلة القرار، متطلعة لتحرير الإنسان من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه بأصحاب المشروع الإسلامي.
وأما الثاني فهو المعسكر الذي لا يبحث إلا عن الحفاظ على مصالحه أو مصالح دولته القطرية في أحسن الأحوال، بصرف النظر عن مصالح الأمة العليا، ولذلك تراه تابعا للقوى التي تحميه، ويخاف الاستقلال عن التبيعة لها، ولا يمانع في التضحية بغيره من المسلمين من أجل ذلك، وهو في حقيقته أقرب إلى العبودية للعباد منه للعبودية لرب العباد، ويمكننا أن نطلق على هؤلاء بأعداء المشروع الإسلامي، سواء قصدوا ذلك أم لم يقصدوه.
هذان هما المعسكران الرئيسيان، وبهذا يظهر جليا أن الخلاف بينهما هو الخلاف في أصل العقيدة، هل نخضع عبودية لله، أم نخضع عبودية لغيره؟ هل نواليه ونوالي أولياءه أم نوالي أعداءه، ونتولى عنه؟
وأما المعسكر الأول فالإسلاميون هم السواد الأعظم فيه، وقد يخالطهم غيرهم من المخلصين، وعلى الإسلاميين قبولهم، واستيعابهم، والتعاون والتعاضد معهم، فهو تصديق لقوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، فالضابط كما نصت عليه الآية، هو مقصود التعاون، بصرف النظر عن المتعاون معه.
وأما المعسكر الثاني فسواده الأعظم من أصحاب الدنيا، وأعداء الأمة في دينها، وربما انضم إليهم عدد من الإسلامين إما لغفلة أو غلبة هوى والعياذ بالله.
وقد استيقظت الأمة قريبا فإذا بالبعض من "حملة الراية السلفية" فيما يظن بهم، يتحالفون مع أكثر العرب انحلالا مع تترسهم بالتصوف وهو منهم براء، ضد أقرب الناس لهم عقيدة وديانة بل وسلفية، تغليبا لما يظنون أنه من مصالحهم العليا، أفلا يجب على المخلصين من أبناء الأمة لم شعثهم، ورأب تصدعاتهم، والتنسيق فيما بينهم، طلبا لوحدة الصف على ما بينهم من اختلاف، عملا بقول الله جل وعلا {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، وعملا بقول رسوله صلى الله عليه وسلم «وهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ».
المحور الخامس: الحراك الاجتماعي والسياسي للدعوة:
ما من شك أن الدعوة الإسلامية في شتى البلاد قد اقتحمت كثيرا من المناطق التي كانت محظورة عليها قبل مدة يسيرة من الزمن، فعلى الصعيد الاجتماعي أبلت الدعوة بلاء حسنا على المستوى الاجتماعي على وجه العموم، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تقدم ذكره، وقد اقتحمت الدعوة كذلك المجال الإعلامي وكان لها دور بارز فيه، ولا أريد أن أستطيل في الحديث عنه لأن ذلك يتضمن القيام بعملية تقييم له، قد نختلف وقد نتفق في نتائجها، بل ربما صحة معطياتها، فلا داعي لهذا الأمر، ولتقم كل جماعة، أو حركة، أو مؤسسة، بتقييم أنشطتها، وقل مثل ذلك في جوانب وأنشطة حياتية أخرى، لكن في ظني أن ما يحتاج إلى مراجعة بشكل أكثر دقة وصرامة، هو الحراك السياسي للدعوة والصحوة الإسلامية، بدأ من الاهتمام بالعمل السياسي، ثم الانخراط فيه، فلقد اتسمت الدعوة بحالة من الانفصال بين اتجاهات الدعوة، فثم اتجاهات ترفض العمل السياسي بالكلية، وثمت من ينخرط فيه بقوة، وليس بين الفريقين وسط، ومن هنا أدعوا الفريقين لا سيما من يرفض العمل السياسي بقوة، متأثرا بموقف علماء الخليج أن يراجع من مواقفه، مستحضرا في ذهنه أسباب فشل الثورات العربية، وأهما غياب البعد السياسي لأولئك الثوار.
وختاما: فهذه بعض المعالم، أسأل الله أن ينفع بها، ومن فقه الدعوة أن تقيم المراحل السابقة، وتستشرف المراحل اللاحقة، فالحياة تدافع {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [آل عمران: 139، 141].
وأؤكد على ماقلته في افتتاح المقال أننا إذا أحسنا التعامل مع تلك المغيرات، فإننا نحيلها عندئذ إلى معالم قدرها الله علينا من أجل تصحيح مسيرتنا تهيئة لنا لدور ريادي أكبر، {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ}.