(17) أسباب تحصيل البصيرة

محمود العشري

فالتوحيد هو أعظمُ وأوجب ما ندعو إليه، ثم ندعو الناس - مع ذلك وبعده في الأهمية وفي الوقت - إلى أداء الصلاة؛ لأنه لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فمن ضيَّع الصلاة، فهو لغيرها أضيع، وكل صِلَة له بالله تَنقطِع..

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية - التوحيد وأنواعه -
(17) أسباب تحصيل البصيرة

منها - وهو أصلها -: صدْق الإيمان بالله تعالى ورسولِه -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122]، وهذا مثَلُ المؤمن والكافر.

 

ومنها: العلم النافع بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، وقال -تعالى-: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: ((طلبُ العلم فريضة على كل مسلم))؛ صحَّحه الألباني؛ ولذا كان من سمات دعوة الحق حرْصُ أفرادها على طلب العلم، ومُلازمَتُهم لحِلَقِه، ومُتابعتهم لأهله.

 

ومنها العمل بالعلم؛ فمن عمل بما عَلِم، رزقه الله عِلْم ما لم يَعلمْ، وحقيقة التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، والتقوى تقود إلى البصيرة والنور؛ قال -تعالى-: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 282]، وقال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 29].

 

ومنها: صدق اتِّباع السنة ظاهرًا وباطنًا؛ لأن هذا هو تحقيق الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومقتضاه؛ قال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28]، وهذا يَستلزم تعلُّم السنَّة، وتقديمها في الأصول والفروع على قول كلِّ أحد وهدْيه، كما قال ابن القيِّم في شأن الهِجرَة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقلب: "سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان، وحادثةٍ من حوادث الأحكام، ومنزلة من منازل القلوب إلى منبع الهُدى، ومصدر النور، المُتلقَّى من فم الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذفْ بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدَّله هذا المزكَّى، وإلا فعُدَّه من أهل الريب والتُّهمات"؛ اهـ، والاتِّباع من أصول الدعوة إلى الله -تعالى- التي لا تكون الدعوة إلى الله -تعالى- إلا به.

 

ومنها: كثرة تلاوة القرآن، وفهمه وتدبُّره، وحفْظه وتعاهُده، والاستدلال به والعمل به، فبحسَب نصيبك من القرآن يكون نصيبك من النور؛ قال -تعالى-: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].

 

ومنها: كثرة العبادة، خاصَّةً الصلاة وإطالة السجود؛ قال -تعالى-: ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19]، فكلما اقترب العبد من ربِّه، رأى الأمور على حقيقتِها، وقدَرها حقَّ قدْرِها، ووزنها بميزان الحق، وكلما أخلَد إلى الأرض ولم يَرتفِع واتَّبع هواه، الْتبَس عليه الحقُّ بالباطل، وترك الحق.

 

ومنها: الصدق والصبر - ومنه الصوم - قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه: ((الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء))، فإذا اشتبهَتْ عليك الأمور، ولم تدْرِ كيف تسير، فافزع إلى الصلاة؛ فلقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حزَبه أمر صلَّى؛ كما رواه أبو داود وأحمد وحسّنه الألباني، وأكثِرْ مِن الصدقة، وعليك بالصوم؛ فإنه نصْف الصبر.

 

ومنها: غضُّ البصر، وحفْظ الفرْج، وتجنُّب الاختلاط المحرَّم؛ فإنَّ أثَر هذا النوع من المعاصي - خصوصًا في عمى القلب - معلومٌ لدى أهل الإيمان، ألم ترَ كيف كان قومُ لوط قد حان عذابُهم وهم كما قال -تعالى-: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الحجر: 72]؟ وتأمَّلْ كيف جعل الله -تعالى- أحكامَ غضِّ البصر، وحفْظ الفرج، وعقاب الزِّنا، وآداب الاستئذان، والأمر بالحجاب، وترك الاختلاط، والأمر بالزَّواج والعفَّة، والنهي عن البغاء - في سورة النور التي تتضمن آيةَ النور عقب هذه الأحكام العظيمة؛ لذا قال السلف: مَن غضَّ بصره عن المحارم، أطلق اللهُ نورَ بصيرته.

 

وقوله - سبحانه -: ﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 108] قال ابن جرير في التفسير: معناه: وقل تنزيهًا لله -تعالى- وتعظيمًا له مَن أن يكون له شريك في مُلْكه، أو معبودٌ سواه في سلطانه.

 

وفيه التنبيه على أن أساس الدعوة هو التوحيد، وهو أول واجبٍ على المكلَّف، وأول واجب في الدعوة، وعليه يُحاسب يوم القيامة، فأصْل الأصول في دعوتنا توحيدُ الله وتنزيهُه عن الشريك والندِّ، والصاحبة والولد، والمَثيل والشبيه، وكل صفات النقْص.

 

وقوله -تعالى-: ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108] قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب: "فيه إبعادُ المسلم عن المشركين؛ لئلا يَصير منهم، ولو لم يُشرِك"؛ أي: مثل شِركهِم؛ فإن من رَضي بالشرك، فهو مُشرك وإن لم يفعلْه بنفسه؛ ففيه أصل البراءة من الشرك وأهله، وعدم انتمائه لهم، ووقوفه تحت رايتهم، وانتمائه لأحزابهم، وما أحوجَ الدعاةَ إلى هذا الأصل الذي مِن أجْلِه يُعاديهم أعداؤه، وإذا لم يُحقِّقوه في دعوتهم اختلط الإيمان بالكفْر، والحق بالباطل، فحصل الضَّلال - والعياذ بالله - وقد سبَقت هذه المسألة في بحث "لا إله إلا الله: ولاء وبراء".

 

• في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا بعث مُعاذًا إلى اليمن قال: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله))، وفي رواية: ((إلى أن يوحِّدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخَذ مِن أغنيائهم فتُردُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم، واتَّق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))، ففي هذا الحديث دليلٌ على أن التوحيد هو إخلاص العبادة لله، وترْك عبادة ما سواه، وأنه أول واجب، وأول ما يدعو إليه الرسل وأتباع الرسل، وأن أول ما يُؤمَر به الخَلق شهادة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسول الله"؛ فبذلك يَصير الكافر مُسلمًا، والعدوُّ وليًّا، والمُباح دمُه معصومًا، وفيه أن الصلاة أول واجب بعد الشهادتين، وفيه أن الزكاة واجبة، وأنها أوجب الأركان بعد الصلاة، وفيه تنبيه على التعلم بالتدرُّج، والبداءة بالأهم فالأهم، وفيه بَعْث الدعاة إلى الله، وسفرهم إلى الأقطار؛ لنشر الدعوة، وفيه قَبول خبر الآحاد في العلم والعمل؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أرسل معاذًا - رضي الله عنه - وأمره أن يدْعوهم إلى الإيمان كلِّه عِلمًا وعملاً، وفيه التحذير من الظُّلم، وفيه الاقتصار في الحُكم بإسلام الكافر إذا أقرَّ بالشهادتَين، وفيه مشروعية الدعوة قبل القتال، وإن كانت قد بلغتْهم الدعوة قبل ذلك وقوتلوا، لكن يُستحبُّ فقط في هذه الحالة؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أغار على بني المصطلق وهم غارُّون، وأما مَن لم تبلغه الدعوة فتجب، ولا يجوز قتْلهم قبل بلوغها، وإن طلبوا مُهلةً قصيرةً وسألوا عن الإسلام، أُمهلوا.

 

إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل معاذًا - رضي الله عنه - إلى اليمن وقال له: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله))، هذه الكلمة العظيمة التي حولها يُدندن كل الدعاة، هذه الكلمة التي قامت بها السموات والأرض، لماذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبدأ بها؟! ألا يحتاجون إلى الأخلاق الطيبة؟! ألا يحتاجون أن يُدعَوْا إلى الآداب وإلى المعاملات الحسنة؟! بلى، أمور كثيرة جدًّا يحتاج إليها أهلُ الكتاب وغيرهم في كل مكان، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- حدَّد خطوات الدعوة، ولم يتركْنا لاجتهادنا، أو آرائنا، أو آراء شيوخنا، قال: ((فليكنْ أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله))، فهي أول الأمر وآخِره.

 

إذًا نحن عندما نريد أن ندعو الناس، نبدأ بشهادة "أن لا إله إلا الله" وبعض الناس يعترض، ويقول لك: يا أخي، موجودة بفضل الله، نقول: إذا كانت موجودة انتهينا، ونَنتقِل إلى ما بعدها؛ فإن الحديث بيَّن ما بعدها، ولكن هل هي موجودة فعلاً؟! أناشدكم بالله، لو كانت شهادة "أن لا إله إلا الله" موجودة حقيقة في هذه الأمَّة، وليس يَنقُصها إلا أخلاق أو آداب أو معاملات أو شيء من هذا، هل يمكن أن يكون حال الأمة كما هو مُشاهَد الآن من الضعف والذلِّ والهوان والانحِطاط والفُرْقة؟!

 

إنَّ هذا لا يكون أبدًا؛ لأن الله -تعالى- كتب العزَّة والنصرَ والتوفيق والتأييد والأمن والهداية لِمَن جاء بالتوحيد وحقَّق التوحيد، وأما الذنوب، فلا يخلو مجتمع أو أمة منها، ولكن حقيقة الأمر أن التوحيد وحقيقة شهادة "أن لا إله إلا الله" ضعيفة، بل مفقودة في بعض المجتمعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإذًا أول ما نبدأ به إذا ذهبْنا إلى أيِّ بيئة، أو أي إنسان، فليكن أول ما ندعو إليه شهادة "أن لا إله إلا الله".

 

وانظر أيها الحبيب إلى عُنواننا، وكيفية دخولنا في الإسلام، أليس بشهادة "أن لا إله إلا الله"؟!

فهي رمزنا وشعارنا وعنواننا، وانظر كذلك عند الاحتضار: نعلِّم المُحتضر ونلقِّنه شهادة "أن لا إله إلا الله"؛ فهي أول الأمر وآخِره، أول ما نبدأ به شهادة "أن لا إله إلا الله"، وآخِر ما ندعو إليه شهادة "أن لا إله إلا الله"، وما بينهما كله دعوة إلى شهادة "أن لا إله إلا الله"، وإن دعوت إلى صلاة أو زكاة أو أي شيء من هذا القبيل، فهو لأنه من حقوق وواجبات ومكمِّلات شهادة "أن لا إله إلا الله".

 

وإذا قلنا: إن أول شيء ندعو إليه هو شهادة "أن لا إله إلا الله"، فكلمة (أول) هنا تَحتمِل معنيَين، كلاهما حق؛ الأول: أول ما نبدأ به قبل غيره، كما تقول: أول الشيء؛ أي: الذي لا يَسبقه غيرُه، والثاني: أهم ما ندعو إليه، وفي الحقيقة هي الأول من جهة البداية، وهي الأول من جهة الأهمية؛ فهي أول الأمر وآخِره.

 

ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((فإن هم أطاعوك لذلك))، فإذا لم يُطيعوا ماذا نفعل؟ لا ندعوهم لشيء مما بعدها، وتظل المعركة بيننا في الشهادة؛ فمَن دعوناه إلى شهادة "أن لا إله إلا الله" ولم يُطِع، فالأمر على ثلاثة اختيارات عرَضها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمَر قُواد جُيوشه بها، وفعل الصحابة بعده كذلك؛ إما الإسلام، وإما السيف، وإما الجزية، وما عندنا غير هذه الثلاثة، ما عندنا أخوَّة إنسانية تخلط الكفار على المؤمنين، ويُقال: "أسرة دولية، أو أسرة إنسانية"! هذا ليس من شريعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ما بيننا وبينهم إلا السيف، والله يَكتُب النصر لمن يشاء، وقد وعَد وتأذَّن بأن ينصر عباده المتقين: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج: 40]، فهذا شيء، أو الإسلام إذا قبلوه، فهذا هو المطلب الأساسي، فإذا قبلوه، فلا حاجة إلى جهادهم أو الجزية، بل لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فأولاً: الإسلام، فإن أبَوا، فالسيف أو الجزية، يُعطونها بصَغار وذلٍّ وخضوع والتزام بأحكام الإسلام؛ قال -تعالى-: ﴿ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29]، ما عندنا حكم آخَر خلاف هذه الثلاثة، أما حالة الصلح أو الهدنة، فتلك حال مؤقتة، لكن الأحكام الثلاثة هي الأحكام الدائمة المبدئية، فإذا ما اصطلحنا مع بعض الكفار فترةً من الزمن، فهو شيء آخَر، وهؤلاء الكفار يُسَمَّوْنَ حينئذٍ: المصالَحون أو المعاهَدون مثلاً، ولكن الأصل أن هذا الصلح سيَنتهي؛ إما أن يُسْلِمُوا وتنتهي القضية، أو يُكابروا ويجحدوا ويُعاندوا، فالقتال أو دفع الجزية، لا بدَّ من ذلك، فهذه مُعامَلة ربانية إلهية، وهي التي تجب بين المسلمين والكافرين.

 

إذًا بعد أن نبيِّن لهم التوحيد، ويستجيبوا لكلمة الإخلاص، يكون البيان بعد ذلك للركْن الثاني ثم الثالث، وهذه المسألة ينبغي لكل إنسان وكل طالب علم أن يتفطَّن لها؛ فالشهادتان والصلاة والزكاة دائمًا يَحصُل بينهم الاقتران، ويُدْعى إليهم بالترتيب، وهكذا يجب أن يكون منهج الدعوة؛ قال -تعالى-: ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 11]، وفي حديث ابن عمر: ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا "أن لا إله إلا الله"، ويُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة))، وليس في هذا تقليلٌ من أهمية الصيام، ولكن لأنه عبادة خفيَّة، فلا يُمكن أن تُبنى عليه الأحكام، وكذلك الحج؛ لأنه مرة واحدة في العمر، لكن إجراء أحكام الإسلام أو أخذ أحكام الإسلام لا يكون إلا بهذه الثلاثة؛ الشهادتين، والصلاة، والزكاة، فهذه الثلاثة أهم الأركان؛ ولذا دعا إليها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأمر معاذًا - رضي الله عنه - أن يدعوَ إليها.

 

إذًا أيها الإخوة الكرام، نحن كلنا - إن شاء الله - طلاب علم، وكلنا نريد الحق - إن شاء الله - وهدفنا الحق في دعوتنا، ونرجو أن نكون مُخلِصين جمعيًا فيها، فنبدأ بما بدأ الله -تعالى- به، وندعو إلى ما دعا الله -تعالى- إليه؛ في أسرتنا، وفي مجتمعنا، وفي أي مكان نذهب إليه، هذا منهج الدعوة؛ ندعو أولاً إلى الله -تعالى- لا ندعو إلى غيره، وبإخلاص، وعلى بصيرة، وندعو إلى أن يوحَّد اللهُ، وألا يُعبَد إلا هو - عزَّ وجلَّ - قال -تعالى-: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، وهذه الدعوة هي دعوة جميع الرسل الذين أرسلهم الله، فكان كلُّ رسول منهم يَفتتح دعوته لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].

 

فالتوحيد هو أعظمُ وأوجب ما ندعو إليه، ثم ندعو الناس - مع ذلك وبعده في الأهمية وفي الوقت - إلى أداء الصلاة؛ لأنه لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فمن ضيَّع الصلاة، فهو لغيرها أضيع، وكل صِلَة له بالله تَنقطِع، كما قال الإمام الراشد خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فيما كتبه لعُمَّاله: "واعلموا أن أهمَّ أمركم عِندي الصلاة، فمن ضيَّعها، فهو لغيرها أضيع"، فمن ضيَّع الصلاة، فلن يكون عابدًا لله -تعالى- بل يكون مُستكبِرًا على الله، هادِمًا "لا إله إلا الله"، ناقِضًا لها، وإن كرَّر حروفها ولاكَها بِلسانه الغافلِ آلاف المرات، فلن يُغني عنه ذلك اللَّوْك شيئًا؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها، فقد كفَر)).

 

ثم ندعو إلى الزكاة والأخلاق والآداب والمُعاملات، لا نقلِّل من أهميَّتِها، ولكنها بعد ذلك؛ لأن الإنسان إذا وحَّد الله -تعالى- حق التوحيد، وعرَفه -تعالى- حقَّ المعرفة، وصلّى الصلاة كما أمر الله، وزكى ماله وتصدَّق، فهذا في الحقيقة لن يرتكب - بإذن الله - شيئًا من المحرَّمات، وإن وقع فيها، فهو على سبيل الخطأ العابر؛ فإن الإنسان إذا تحقَّق لديه هذا الأصل، فقد تحقَّقت القاعدة القوية التي سيَبني عليها إيمانه، والتي تكون محورًا لكل الأعمال، ومرجعًا لها، فهذه هي الأصول؛ ولذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح - يُرسل السرِية من الجيش، فيأمرهم أن ينتظروا، فإن سمعوا الأذان وإلا أغاروا، هذا من أحكام الدعوة، فإن سمعوا المؤذِّن في هذه القرية، وقام الناس للصلاة، انتهى الأمر، وإلا أغاروا عليهم، فالمجتمع الذي لا يؤذَّن فيه يستحق أن يجاهَد؛ لأنه لا يَكفي اسمُ الإسلام، ولا يُفيد مجرَّد القول بأن الإنسان مسلم، فهذا دين، ولا بد أن يصدق الإنسان، فإذا قال: أنا مسلم، فعليه أن يشهد "أن لا إله إلا الله"، ويرفع بها صوته، ويُنادي بها، ويجتمع مع المسلمين في بيوت الله لتحقيقها وأداء الصلاة.

 

هذه هي عبادة الله؛ فإن كان الأمر غير ذلك، فيجب أن يُجاهَدوا؛ فلو صلّى قوم فرضًا مثلاً، ولكن تركوا الأذان، فقد وجَب جهادهم على المسلمين، إذًا هذه الشعائر عظيمة، ونحن لا نستهين بها كما عند بعض الناس، بل نقدرها حقَّ قدرها، ونقول: إن رفْع كلمة الله ورفْع الأذان والصَّدْع بشهادة "أن لا إله إلا الله" في الآفاق، هذا مطلب وشعيرة عظيمة، والاجتماع في بيوت الله لإقامة الصلاة هذا أيضًا شعيرة عظيمة، فلا يقول المرء: نصلِّي بعض الأوقات في المسجد ولا يهمُّ البعض الآخَر، لا يا إخوة، المسألة أهمُّ مما يتصوَّر كثير من الناس.

 

ولا يتسع المجال للتفصيل فيما يتعلق بأحكام صلاة الجماعة، وصفة الأمة المسلمة التي تُقيم شعائر الله -تعالى- كما أمَر، وكما أمر رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

• في الصَّحيحين عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعليٍّ - رضي الله عنه -: ((فوالله لأن يَهديَ الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم))، وحُمْر النَّعَم؛ أي: الإبل الحُمْر، وهي أنفس الأموال عند العرب، وهذا التشبيه - كما قال النووي - للتقريب للأفهام، وإلا فذرَّة من الآخِرة خيرٌ من الأرض بأسْرِها وأمثالها معها، ففي هذا الحديث عِظَم ثواب من اهتدى على يدَيه رجل واحد؛ كما في حديث أبي هريرة مرفوعًا عند مسلم: ((مَن دعا إلى هدًى كان له مِن الأجر مثلُ أجور من اتَّبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثْم مثل آثام من اتَّبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)).

 

الخوف من الشرك:

قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، وقال الخليل - عليه السلام -: ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35]، قال إبراهيم التيمي: "فمن يَأمَن البلاء بعد إبراهيم؟!"، يعني إذا كان إبراهيم خاف على نفسه وبَنِيه من عبادة الأصنام، فدعا اللهَ أن يجنِّبهم ذلك، فلا يأمنُ الوقوعَ في الشرك بعده إلا من هو جاهل ولم يَخلُص منه.

 

قال -تعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، في هذه الآية ردٌّ على الخوارج والمعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يُخلَّدون في النار؛ لأنه جعل الذنوب قسمَين: شرْكًا، وما دونه؛ فالشرك لا يُغفَر لمن مات عليه ولم يَتبْ منه، وما دون الشرك، فهو في المشيئة، ومآلُ من كان في المشيئة إلى المغفرة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الشفاعة المتَّفق عليه: ((لم يَبْقَ إلا مَن حبَسه القرآن))، ومَن كان في المشيئة فالقرآن لم يَحبِسْه في النار، ولا يجوز تأويلهم الآية على التائب، فيقولوا: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وقد بيَّن لنا من يشاء أن يغفر لهم في آيات أخرى؛ كقوله -تعالى-: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82]، فإن هذه الآية ليستْ في التائبين؛ لأن التائب من الشرك مغفورٌ له بالإجماع، وهل كان جلُّ الصحابة قبل إسلامهم إلا مُشركين؟! فإنَّ لازم كلامهم الفاسد أن مَن أشرَك مرَّةً في حياته لم يُغفَر له؛ لأن ما دون الشرك هو الذي يُغفر بالتوبة على زعمهم، فالشرك إذًا لا يُغفر، وهذا باطل، فبطَل قولُهم، والآية صريحة في أن مَن مات مُصرًّا على الكبائر - أي: بغير توبة - لا يكفُر، ولا يخلَّد في النار، وإنما الذي يُكفِّره ويخلِّده في النار الاستحلال؛ لأنه شركٌ بالله في الحكْم والتشريع؛ كما قال -تعالى-: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31]، وروى مسلم وأحمد عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن لقي اللهَ لا يُشرِك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقِيَه يُشرك به شيئًا دخل النار))، ففي الحديث قُرْبُ الجنة والنار، وأن من أشرك بالله شيئًا دخل النار، وإن كان من أعبدِ الناس.