(3) مما يحفظ من الفتن

خالد سعد النجار

الحلم في الفتن وعند تقلب الأحوال محمود أيما حمد، ومثنىً عليه أيما ثناء؛ لأنه بالحلم يمكن رؤية الأشياء على حقيقتها، ويمكن بالحلم أن نبصر الأمور على ما هي عليه.

  • التصنيفات: التصنيف العام -
(3) مما يحفظ من الفتن

بسم الله الرحمن الرحيم..

إِنَّ النَّاظِرَ فِي حَالِ الْعَالَمِ الْيَوْمَ، وَخَاصَّةً فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مُسْتَوَى أَفْرَادِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ يَجِدُ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِفِتَنٍ عَظِيمَةٍ، وَمِحَنٍ جَسِيمَةٍ، تَعَاظَمَ خَطَرُهَا، وَتَطَايَرَ شَرَرُهَا، تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَوْضُوعَاتُهَا؛ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فِي الْعُقُولِ وَالأَنْفُسِ، فِي الأَعْرَاضِ وَالأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ، تَتَضَمَّنُ فِي طَيَّاتِهَا تَحْسِينَ الْقَبِيحِ، وَتَقْبِيحَ الْحَسَنِ، وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ جَاءَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ غَوَائِلِ الْفِتَنِ وَشُرُورِهَا وَمُدْلَهِمَّاتِهَا، وَقَدْ وَصَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- الْفِتَنَ بِقَوْلِهِ: "تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ، وَتَؤُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ، وَتَخْتَلِفُ الأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا، مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ، وَمَنْ سَارَ فِيهَا حَطَمَتْهُ"  ثُمَّ يُوَجِّهُ -رضي الله عنه- بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اجْتِنَابِ الْفِتَنِ فَيَقُولُ: "فَلاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ، وَأَعْلاَمَ الْبِدَعِ، وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ، وَأقْدَمُوا عَلَى اللهِ مَظْلُومِينَ، وَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ" [موقف المسلم من الفتن، عبد الله الجار الله]

 

مما يحفظ من الفتن:

· إذا ظهرت الفتن، أو تغيرت الأحوال؛ فعليك بالرفق والتؤدة والأناة والحلم، وإياك والعجلة والتسرع.

 

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما كان الرفق في شيء؛ إلا زانه, ولا نزع من شيء إلا شانه». [صحيح الجامع: 5654].. «شيء» كلمة نكرة أتت في سياق النفي، والأصول تقضي بأنها تعم جميع الأشياء؛ يعني: أن الرفق محمود في الأمر كله.

 

وقد جاء في الصحيح أيضا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله»؛ قاله عليه الصلاة والسلام لعائشة الصديقة بنت الصديق، وبوّب عليه البخاري في الصحيح؛ قال؛ «باب الرفق في الأمر كله».

 

وقال أبو حاتم البستي: "الرافق لا يكاد يُسْبَق، كما أن العَجِل لا يكاد يَلْحَق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم، كذلك من نطق لا يكاد يسلم، والعَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويَحْمد قبل أن يُجَرِّب، ويَذُم بعد ما يحمد، يعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم، والعَجِل تصحبه الندامة وتعتزله السلامة، وكانت العرب تُكَنِّي العجلة أم الندامات".

 

ومن جميل ما يُذكر في التأني، قول حفص بن غيَّاث لسفيان الثوري رحمهما الله: يا أبا عَبْد الله إن الناس قد أكثروا في المهدي فما تقول فيه؟ قال: "إن مرَّ على بابك فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه".

 

عليك بالرفق، ولا تعجل، ولا تكن مع المتعجَّلين إذا تعجَّلوا، ولا مع المتسرعين إذا تسرعوا، وإنما عليك بالرفق؛ فخذ بالزين، وخذ بالأمر المزين، وخذ بالأمر الحسن، وإياك ثم إياك من الأمر المشين، وهو أن ينزع من قولك أو فعلك الترفق في الأمر كله.

 

وفي شأن الأناة قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة» فالتأنّي من أحمد الخصال، ولهذا قال جلّ وعلا: «وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً» [الإسراء:11].. قال أهل العلم: هذا فيه ذمُّ للإنسان، حيث كان عجولاً؛ لأن هذه الخصلة؛ من كانت فيه؛ كان مذموماً بها.

 

كذلك الحلم في الفتن وعند تقلب الأحوال محمود أيما حمد، ومثنىً عليه أيما ثناء؛ لأنه بالحلم يمكن رؤية الأشياء على حقيقتها، ويمكن بالحلم أن نبصر الأمور على ما هي عليه.

 

قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم:60] أي لا يحملنك على الخفة والطيش.

 

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتُؤَدَة [أي: عليكم بالأناة والبعد عن العجلة]، فإنك أَن تكون تابعًا في الخير، خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر".

 

ثبت في «صحيح مسلم» من حديث الليث بن سعد عن موسى بن عُلًيّ عن أبيه: أن المستورد القرشي –وكان عنده عمرو بن العاص رضي الله عنه-؛ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس). قال عمرو بن العاص له [أي للمستورد القرشي]: أبصر ما تقول! قال: وما لي أن لا أقول ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن كان كذلك؛ فلأن في الروم خصالاً أربعاً: الأولى: أنهم أحلم الناس عند الفتنة. الثانية: أنهم أسرع الناس إفاقةً بعد مصيبة... وعد الخصال الأربع وزاد عليها خامسة.

 

قال أهل العلم: هذا الكلام من عمرو بن العاص لا يريد به أن يثني على الروم والنصارى، ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة لأنهم عند حدوث الفتن هم أحلم الناس؛ ففيهم من الحلم ما يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها؛ لأجل أن لا تذهب أنفسهم، ويذهب أصحابهم، لأنهم يعلمون أن الفتنة إذا ظهرت؛ فإنها ستأتي عليهم؛ فلأجل تلك الخصلة فيهم بقوا أكثر الناس إلى قيام الساعة.

 

· تجنب استقصاء كامل حقك عند انتشار الفتن، والصبر على بلواها واحتساب الأجر عند الله، فعن المقداد بن الأسود قال: وأيم الله لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فَوَاهًا). [أبو داود] واها كلمة توضع للتلهف على الشيء مع الإعجاب به.

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أمتي أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والبلايا». [السلسلة الصحيحة -الألباني 959].. (أمتي هذه) يحتمل إرادة أمة الإجابة (أمة مرحومة) أي جماعة مخصوصة بمزيد الرحمة وإتمام النعمة، موسومة بذلك في الكتب المتقدمة (ليس عليها عذاب في الآخرة، إنما عذابها في الدنيا الفتن) التي منها استيفاء الحد ممن يفعل موجبه، وتعجيل العقوبة على الذنب في الدنيا، أي: الحروب و الْهَرْج فيهما بينهم (والزلازل) جمع زلزلة وأصلها تحرك الأرض واضطرابها، ثم استعملت في الشدائد والأهوال. (والقتل والبلايا) لأن شأن الأمم السابقة يجري على طريق العدل وأساس الربوبية، وشأن هذه الأمة يجري على منهج الفضل والألوهية، فمن ثم ظهرت في بني إسرائيل النياحة والرهبانية، وعليهم في شريعتهم الأغلال والآصار، وظهرت في هذه الأمة السماحة والصديقية، ففك عنهم الأغلال ووضع عنهم الآصار.