(6) التأويل
خالد سعد النجار
القرآن الكريم يزود المسلم بالتصورات السليمة، والقيم الصحيحة التي يستطيع المسلم من خلالها أن يقوّم الأوضاع السلبية من حوله، وينظر بنور الله إلى ما يدور في واقعه، حتى لا يقع في الاضطراب أو التناقض.
- التصنيفات: التصنيف العام -
بسم الله الرحمن الرحيم..
إِنَّ النَّاظِرَ فِي حَالِ الْعَالَمِ الْيَوْمَ، وَخَاصَّةً فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مُسْتَوَى أَفْرَادِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ يَجِدُ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِفِتَنٍ عَظِيمَةٍ، وَمِحَنٍ جَسِيمَةٍ، تَعَاظَمَ خَطَرُهَا، وَتَطَايَرَ شَرَرُهَا، تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَوْضُوعَاتُهَا؛ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فِي الْعُقُولِ وَالأَنْفُسِ، فِي الأَعْرَاضِ وَالأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ، تَتَضَمَّنُ فِي طَيَّاتِهَا تَحْسِينَ الْقَبِيحِ، وَتَقْبِيحَ الْحَسَنِ، وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ جَاءَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ غَوَائِلِ الْفِتَنِ وَشُرُورِهَا وَمُدْلَهِمَّاتِهَا، وَقَدْ وَصَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- الْفِتَنَ بِقَوْلِهِ: "تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ، وَتَؤُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ، وَتَخْتَلِفُ الأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا، مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ، وَمَنْ سَارَ فِيهَا حَطَمَتْهُ" ثُمَّ يُوَجِّهُ -رضي الله عنه- بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اجْتِنَابِ الْفِتَنِ فَيَقُولُ: "فَلاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ، وَأَعْلاَمَ الْبِدَعِ، وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ، وَأقْدَمُوا عَلَى اللهِ مَظْلُومِينَ، وَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ" [موقف المسلم من الفتن، عبد الله الجار الله]
مما يحفظ من الفتن:
· حسم مادة التأويل؛ ذلك أن كثيراً من الفتن إنما تقع بالتأويل الفاسد الذي ينميه البغي والحسد.
قال عمر: "أخوف ما أتخوَّف على هذه الأمة قوم يتأوَّلون القرآن على غير تأويله".. وقال عبد الله بن حنطب: "أتخوَّف عليكم متعوِّذًا بالإيمان يعمل بغيره".
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "إن بين يدي الساعة أيامًا ينزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم".
· الحرص على طلب العلم الشرعي ومجالسة أهل العلم والانتفاع بهم وبتوجيهاتهم، فالحق والباطل لا يشتبه على الربانيين.. أما العلم فإنه يزيل فتن الشبهات، والعبادة تزيل فتن الشهوات، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]..
ونقل ابن حجر عن ابن أبي شيبة حديثاً عن حذيفة -رضي الله عنه- يقول فيه: "لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل".
وقال حذيفة أيضا: "إنها فتن قد أظلَّت كجباه البقر، يَهلِك فيها أكثر الناس إلا من كان يعرفها قبل ذلك".
خاصة وأنه في زمان الفتن يختلط الحابل بالنابل، وينطق الرويبضة.. روى ابن حبان في صحيحة عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لم يكن يقص في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان إنما كانت القصص زمن الفتنة". والمقود بالقصص هنا الروايات الباطلة والموضوعة، فيتعلق الناس بهذه الروايات غير الصحيحة، فيؤدي بهم هذا إلى نهج غير المنهج الحق.
وعن عيسى بن عاصم، أنَّ الوليد بن عقبة أرسلَ إلى ابن مسعود أَنِ اسكُت عن هؤلاء الكلمات: "إنَّ أصدق الحديثِ كتابُ الله، وأحسن الهَدْي هدي محمَّد، وشرَّ الأمور محدثاتُها"، فقال ابنُ مسعود: "أما دون أن يفرِّقوا بين هذه وهذه فلا"، فقام عتريس بن عرقوب فاشتملَ على السيف، ثم أتى عبدَ الله فقام عند رأسِه، فقال: هلك مَن لم يأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر، فقال عبد الله: "لا، ولكن هلَك مَن لم يَعرف بقلبِه معروفًا، ولم يُنكِر بقلبه منكَرًا"، فقال عتريس: لو قلتَ غيرَ هذا لمشيتُ إلى هذا الرجل حتى أضربه بالسَّيف حتى لا يَعْملوا للهِ بالمعصية في أجوافِ البيوت، فقال له عبد الله: "اذهَب فأَلْقِ بسيفِك وتعالَ فاقعُد في ناحيةِ هذه الحلقة".
· تقوية العلاقة بالقرآن على مستوى الأمَّة وعلى مستوى الفرد؛ قراءةً وتدبُّرًا وحفظًا وعناية وصلاة وتحكيمًا، فهو كتابُ هدايةٍ وحمايةٍ وشفاء لِما في الصُّدور من حُبِّ الشهوات أو نوازغ الشُّبهات، فمن أراد أن يَحْمي نفسه أوَّلاً، فلْيَكن له برنامَجٌ جادٌّ مع القرآن، ولْتَكن هناك جلسات ولقاءات متتالية وعلاقة متينة مع القرآن، وأخصُّها التدبُّر، وأرجاها في قيام الليل.
عن حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟. قَالَ:«فِتْنَةٌ وَشَرٌّ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَعْدَ هَذَا الشَّرِّ خَيْرٌ؟. قَالَ: «يَا حُذَيْفَةُ، تَعَلَّمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَاتَّبِعْ مَا فِيهِ" قالها ثَلاَثَ مِرَارٍ.»صحيح سنن أبي داود].
وقال حذيفة -رضي الله عنه- لعامر بن مطر: كيف أنت يا عامر إذا أخذ الناس طريقًا والقرآن طريقًا، مع أيهما تكون؟ قلت: مع القرآن؛ أحيا معه، وأموت معه، قال: فأنت إذًا.
إن القرآن الكريم يزود المسلم بالتصورات السليمة، والقيم الصحيحة التي يستطيع المسلم من خلالها أن يقوّم الأوضاع السلبية من حوله، وينظر بنور الله إلى ما يدور في واقعه، حتى لا يقع في الاضطراب أو التناقض.
· عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» [مسلم].
وفي رواية (من آخر سورة الكهف) عصم من فتنة الدجال، لما في قصة أهل الكهف من العجائب فمن علمها لم يستغرب أمر الدجال فلا يفتن، أو لأن من تدبر هذه الآيات وتأمل معناها حذره فأمن منه أو هذه خصوصية أودعت في السورة، وفيه جواز الدعاء بالعصمة من نوع معين، والممتنع الدعاء بمطلقها لاختصاصها بالنبي صلى اللّه عليه وسلم والملك.