بل ترجع إلى الخلف
محمد علي يوسف
ومن الأماني تلك الشعارات الأنيقة الفارغة التي يظن أصحابها أنهم سيقنعون الناس بكونهم مجرد آلات تسير وفق روتين محدد واتجاه ثابت كعقارب الساعة التي هي في الحقيقة أيضا ترجع..
- التصنيفات: التصنيف العام -
عقارب الساعة لا ترجع أبدا إلى الخلف:
يردد الناس دوماً هذه العبارة الأنيقة خصوصا في إطار الحديث عن المكتسبات والتقدم والترقي يرددونها في خضم زهوة الفرح بتحقيق إنجازات ونجاحات أو آمال وطموحات وأمنيات حماسة زائدة تجعل أصحاب تلك العبارة يهوون طمأنة أنفسهم ومريديهم بهذا المثال والتشبيه بعقارب الساعة التي تسير دوما في اتجاه واحد..
حسنا..
عقارب الساعة فعلا لا ترجع إلى الوراء (بإرادتها) ولا تسير عكس الاتجاه (لوحدها)! حتى لو أخّرت أو نضبت بطارياتها فإنها قد تتباطأ أو ربما تتوقف لكنها أبدا لا تعكس دورتها من تلقاء نفسها نعم نقر بهذا لكن ذلك لا يحدث فقط بشرط ينبغي أن تتضمنه تلك العبارة المبشرة وحدها..
من تلقاء نفسها..
لكن من قال أنها يستحيل أن ترجع مطلقا؟
إنها ترجع بكل بساطة لكن.. بفعل فاعل بمجرد أن تُمسك بعقارب أي ساعة حائط أو يد أو حتى ساعة "بيج بين" الشهيرة أو بمجرد أن تتحكم بالترس الذي يسيطر على حركة تلك العقارب أو حتى تنزع العقارب نفسها وتعيد تركيبها فستستطيع بكل سهولة إرجاعهم إلى الخلف ووضعهم عند الرقم الذي تريده كذلك يفعل الساعاتي وكذلك يفعل أي إنسان يريد ضبط ساعته..
فقط يتواجد مؤثر تتوافر لديه الرغبة والقدرة على تحريك تلك العقارب وستتحرك بكل أريحية ويُسر في كل الاتجاهات وربما تنزع انتزاعا ويلقى بها عرض الحائط لا توجد أي مشكلة في ذلك ولا توجد ساعة كبرت أو صغرت في الكون كله -فيما نعلم- يستحيل في حقها ذلك التراجع أو انعكاس الاتجاه..
حينما يتضح هذا المعنى سيستقيم المثال ويصح التشبيه ويستفيق الحالم من نومته ليدرك جيدا الحقيقة المُرة حقيقة كون عقارب البشر أيضا ترجع إلى الخلف التاريخ قديمه وحديثه يشهد ويذخر بما لا يحصى عدده من النماذج التي رجعت فيها عقارب الأمم إلى الخلف..
نماذج تراجعت في مختلف المستويات وعلى جميع الأصعدة سواء على المستوى الفكري والثقافي أو على المستوى الاجتماعي والأخلاقي أو على المستوى الحقوقي والحرياتي وطبعا على المستوى الديني والسياسي والاقتصادي كل أنواع العقارب قد ترجع إذا ما توفرت إرادة التراجع وتوفرت القدرة عليه ربما لا تسير عقارب الأمم على نفس النسق بحذافيره وربما لا يعيد تاريخها نفسه بتفاصيله لكن المحصلة أنها قد ترجع وتتراجع وتنعكس حركتها وتسوء أوضاعها ولا يوجد أي مانع مطلق ينفي حدوث ذلك أو على الأقل احتمالية وقوعه المشكلة فيمن يصر على ترداد الشعارات المطمئنة بلا تفكير أو نظر وتأمل «لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض» هكذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك نبه أمته ولطالما سأل ربه الثبات وتعوذ من السلب بعد العطاء ومن الحور بعد الكور وتعوذ الصالحون فقالوا {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]..
المسألة إذاً ممكنة والاحتمال قائم!:
ولقد احتشدت في القرآن والسنة نماذج لأقوام انتكسوا وغيروا وبدلوا وساء ختامهم بعد حسن ابتدائهم وانسلخوا من آيات الله بعد أن كانوا قد أتوها ولعل نداء المنافقين على المؤمنين يوم القيامة يعد من أوضح الأمثلة القرآنية لتلك الحقيقة {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} فيرد المؤمنون: {بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14]..
إنه إذاً الغرور والإغترار بالأماني:
ومن الأماني تلك الشعارات الأنيقة الفارغة التي يظن أصحابها أنهم سيقنعون الناس بكونهم مجرد آلات تسير وفق روتين محدد واتجاه ثابت كعقارب الساعة التي هي في الحقيقة أيضا ترجع..
ترجع إلى الخلف.