الجذور التاريخية للعلمانية في كردستان؟
حينما كانت الدولة العثمانية إسلامية كان الجميع يعيشون في ظلها إخوة متحابين عملاً بالحديث النبوي الشريف: «لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى».
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
العلمانية ذلك المصطلح الذي أثار من الجدل والصراع منذ بداية القرن العشرين ما لم يثره مصطلح آخر في المجتمعات الإسلامية؛ حتى غدت ثنائية العلماني والإسلامي أكثر الثنائيات تداولاً، وأعتاها تأبياً على التجاهل أو التناسي، فضلاً عن الإهمال والتلاشي، والمجتمع الكردي أو بالأحرى كردستان لم يكن بدعاً في هذا المجال.
فكانت غالبية أراضي كردستان واقعة تحت حكم دولة الخلافة العثمانية، وكان يطلق عليها كردستان العثمانية، فيما كان الجزء الأصغر واقعاً تحت سيطرة الدولة القاجارية، ويطلق عليها كردستان الإيرانية.
وعندما بدأت الأفكار الأوربية الحديثة الخاصة بالعلمانية والديمقراطية والقومية تصل تباعاً إلى عاصمة الخلافة العثمانية (الأستانة/ إسطنبول)، فلا غرو أن تأثر بها المثقفون الكرد من موظفين وضباط وطلاب المعاهد العالية، كما أن سيطرة جمعية الاتحاد والترقي على مقاليد الأمور في 1908- 1909م وعزل السلطان عبد الحميد الثاني، والمناداة بالجنس التركي، كل ذلك أفضى إلى تساؤل النخبة المثقفة الكردية وغيرها عن مدى شرعية هذه الدولة التي كانوا لا يزالون يعدونها دولة الخلافة التي يجب عليهم إطاعة أوامرها في حدود الشرع الإسلامي.
ظهور الجميات الكردية:
يبدو جلياً أن أول جمعية كردية قد ظهرت في تلك الحقبة عام 1908م، وهي: جمعية التعاون والترقي الكردية، التي كان جل أعضائها من أبناء رؤساء العشائر ومن المثقفين الكرد، وكانت مبادئها تجمع بين الإسلام والقومية، وقد بعث مؤسسو الجمعية رسالة إلى السفير البريطاني في الأستانة تضمنت الأسباب التي دفعتهم إلى تشكيل الجمعية، مطالبين منه إشعار حكومته بذلك ودعوتها إلى تقديم العون والمساعدة للشعب الكردي لتحقيق أهدافهم. ومع ذلك فإنها كانت تتوقع مد يد العون من فرنسا في تلك الحقبة، لأنهم كانوا متأثرين إلى حد ما بالأفكار الديمقراطية لمبادئ الثورة الفرنسية (حرية - إخاء - مساواة) نتيجة العلاقات التاريخية بين الباب العالي والحكومة الفرنسية، واعتماد النظام القضائي العثماني على التشريعات الفرنسية والسويسرية بعد إقرار نظام الإصلاحات العثماني الذي أقر في منتصف القرن التاسع عشر جراء ضغوط أوربية بشأن كيفية التعامل مع الأقليات غير الإسلامية واعتبارهم مواطنين؛ كل ذلك مما زاد من جرعات المنتجات الحضارية غير الإسلامية في الساحتين السياسية والثقافية للمثقفين المسلمين العثمانيين من شتى الأعراق: التركية والعربية والكردية وغيرها.
وفي التاسع من أغسطس 1912م قرر بعض الطلاب الكرد الدارسين في معهد (خلق ألي زراعي) وأكاديمية الطب في إسطنبول تأسيس جمعية (هيفي الكردية/ أمل الكرد)، وكان لعائلة (جميل باشا) من ديار بكر الدور الأساسي في تأسيس هذه الجمعية التي كان لها دور أساسي في الحياة السياسية الكردية فيما بعد، وفي إيقاظ الشعور القومي الكردي. وعقدت الجمعية مؤتمرها الأول في مدينة لوزان السويسرية في عام 1913م وانتخب فيها (ممدوح سليم) سكرتيراً للجمعية، حيث هاجم في كلمته الافتتاحية مواقف بعض رؤساء العشائر الكردية تجاه القضية القومية، كما انتقد الدعوات المطالبة بعدم تدخل الشباب الكردي في السياسة. وبرغم القيود التي فرضتها السلطات العثمانية على جمعية هيفي؛ إلا إن أعضاءها قرروا مواصلة نشاطهم الثقافي والسياسي بهدف تعريف الشعوب العثمانية بالهوية الكردية، فأصدروا في العام نفسه 1913م مجلة (روزي كورد/ شمس الكرد) التي كانت ذات اتجاه قومي وثقافي في آن واحد، حيث تناولت في أعدادها الصادرة طبيعة الحركة الكردية ونضال الشعب الكردي من أجل الحرية والاستقلال ضمن الدولة العثمانية، لاسيما بعد أن سمحت الحكومة العثمانية للقوميات غير التركية بالتعبير عن آرائها.
إلى جانب هاتين الجمعيتين، تأسست في الرابع من نوفمبر 1913م في كردستان إيران وبالتحديد في مدينة خوي جمعية (جيهانداني/ العالمية) من قبل (عبد الرزاق بدرخان باشا) هدفها نشر الجانب التعليمي والثقافي بين سكان المدينة، ويبدو أن السبب في تشكيل الجمعية خارج الأراضي العثمانية هو أن عبد الرزاق بدرخان كان ملاحقاً من قبل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بتهمة العلاقة مع روسيا، وفيما بعد ألقت السلطات العثمانية القبض عليه سنة 1916م في مدينة رواندوز في كردستان العراق وحكمت عليه بالإعدام بتهمة التخابر مع دولة أجنبية (روسيا القيصرية).
ومن الجدير بالذكر أن حزب خويبون (الاستقلال) يعتقد أنه أول حزب كردي قومي ليبرالي تأسس عام 1927م في مدينة بحمدون اللبنانية، عبر توحيد أربع منظمات كردية، بدعم أرمني وفرنسي، وكان من أبرز قادته الأمراء من أسرة بدرخان باشا (جلادت بن أمين عالي بن بدرخان باشا) وأخوه (كاميران بدرخان)، وبعض الشخصيات من أسرة جميل باشا وبعض رؤساء العشائر الكردية المتنفذة في سوريا، وبهذا الصدد فإن زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (عبد الرحمن قاسملو- قتل عام 1989م على يد المخابرات الإيرانية في النمسا) هاجم هذا الحزب بقوله: «بالنظر لضيق مصالح قادة الحزب [خويبون] لم يناشد الحلفاء الحقيقيين [الاتحاد السوفيتي]، بل اعتمد على تأييد الدول الاستعمارية [فرنسا] التي كانت ترى المسألة الكردية وسيلة للضغط السياسي على تركيا».
وفي السياق ذاته فقد تأسس حزب (هيوا/ الأمل) المحافظ من شخصيات عشائرية ومثقفين في كردستان العراق عام 1939م بزعامة (رفيق حلمي) ذي الميول البريطانية.
أسباب تغير أيدلوجيات الأحزاب الكردية من الليبرالية إلى اليسار:
هناك أسباب عديدة لتغير أفكار وأيدلوجيات الأحزاب والمنظمات الكردية تباعاً من الليبرالية إلى اليسار أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها، يبدو أن أهمها خسارة النازية بقيادة هتلر وبروز الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى مؤثرة، والتي كان الحزب الشيوعي يقود مقاليد الحكم فيها، وقرب كردستان جغرافياً منه، والدعم السوفيتي للقوى الديمقراطية (اليسارية) في كردستان إيران على حد تعبير السياسي الكردي الإيراني (عبد الرحمن قاسملو)، حينما تأسس الحزب الديمقراطي الكردي في جمهورية مهاباد في كردستان إيران عام 1945م، وما تلاها من تأسيس الحزب الشقيق له (الديمقراطي الكردي) في كردستان العراق في 16 أغسطس عام 1946م، حيث كانت مصطلحات الماركسية والاشتراكية واضحة في بنود وبرامج هذه الأحزاب التأسيسية الكردية، التي كانت غالبيتها أو جلها الأعظم ماركسية أو يسارية، لأنها تشكلت من تيارات وحركات شيوعية أو يسارية، لاسيما بعد انتصار الاتحاد السوفيتي على ألمانيا الهتلرية عام 1945م، وتأسيس جمهورية مهاباد في كردستان إيران عام 1946م المدعومة سوفيتياً، بعكس الحقبة الأولى حيث كانت غالبية الأحزاب والمنظمات الكردية قومية محافظة أو ليبرالية تعتمد على دعم المستعمرين البريطاني أو الفرنسي.
كما لا يمكن نسيان دور الحزب الشيوعي العراقي (تأسس عام 1934م) وفرعه الكردي (شورش/ الثورة) في الترويج للفكر الماركسي - اللينيني (الإلحاد) ومعاداة الإسلام كدين ونظام معاً، عن طريق التهجم على علماء الإسلام (الشيوخ والملالي) واعتبارهم سند الرجعية، في حين أن الأحزاب الليبرالية تعادي الإسلام كنظام حياة، وتنادي بفصل الدين عن الحياة.
لذا فإن المراقب والمتتبع يرى بوضوح أن العلمانية التي تنادي بها الطبقة الحزبية والمثقفة على الأبجديات الماركسية - اللينينية والماوية هي علمانية متشددة (لائكية) على الطراز الفرنسي أو الأتاتوركي؛ التي تحاول استئصال جذور الإسلام من كردستان، بشتى السبل؛ حتى وصل الأمر بها إلى اتهام الإسلاميين المعتدلين بالإرهاب، بل واتهام الإسلام وعقائده وتشريعاته بالتخلف والظلامية! إلى غيرها من مفردات قاموسهم الأسود.
وللأمانة فإن الأفكار العلمانية قد غزت المجتمع الكردي مثله في ذلك مثل بقية المجتمعات الإسلامية المحيطة به، لأسباب عديدة قد لا يكون المجتمع الكردي بدعاً في هذا المجال، فضلاً عن ذلك أن الأحزاب الكردية العلمانية بشتى أصنافها من قومية ويسارية (اشتراكية وماركسية) كان لها دور كبير في تعزيز القيم المناوئة للإسلام ديناً ونظام حياة، خاصة بعد سيطرتها على مقاليد الأمور في كردستان العراق اعتباراً من سنة 1992م وحتى كتابة هذه الأسطر.
ويبدو واضحاً أن الحزبين الرئيسين الديمقراطي الكردستاني (حدك) والاتحاد الوطني الكردستاني (آوك)، وبعيداً عن صراعهما على السلطة، كانا في مواجهة الإسلاميين منهمكين في نضال خفي حول التوجه الذي يجب أن تتخذه الحركة القومية الكردية، وكذلك حول تحديد هوية وتوجه حكومة إقليم كردستان العراق، فالقيادة الكردية كانت تتباهى دائماً بتزعمها حركة قومية علمانية ديمقراطية. وبالفعل كما يوضح أحد الباحثين العراقيين الماركسيين (فالح عبد الجبار) فإن «الفكر القومي الكردي كان يتميز بصبغة إثنية علمانية تتناقض تناقضاً صارخاً مع الفكر الإسلامي الذي انتشر في العالم العربي... وأصبحت مقاتلة الإسلاميين المتشددين مشروعاً مشتركاً لـ(حدك) و(آوك) للفوز بدعم الكرد من ذوي الفكر العلماني، والنجاح في الوقت نفسه في تحسين صورة الكرد في أعين الولايات المتحدة وتوحيد الصفوف معها عشية حرب العراق».
وفي عام 2002م أعلن (برهم صالح) رئيس حكومة إقليم كردستان/ إدارة الاتحاد الوطني الكردستاني أن «كردستان ستصبح منارة للديمقراطية في المنطقة». وفي السياق نفسه ذكرت صحيفة Kurdish Globe في 9 مايو 2007م: «بدأت في مارس 2007م حملة جمع تواقيع دعماً لفكرة علمنة دستور إقليم كردستان [العراق]».
وعلى الوتيرة نفسها؛ تقول ناشطة كردية في مجال حرية المرأة (هوزان محمود) في لقاء مع صحيفة (هاولاتي/ المواطن) في عددها الصادر في 31 مارس 2010م التي تصدر في مدينة السليمانية أن «قانون الأحوال الشخصية الحالي يحافظ على العادات الأبوية والدينية المحافظة والتي فيها تمييز ضد المرأة. لقد فشلت الحكومة فشلاً ذريعاً في مجال تحقيق المساواة وحقوق المرأة والحقوق والحريات الفردية. فهم يصرون على تطبيق الشريعة الإسلامية والمحافظة على التقاليد القومية والقبلية والدينية بدلاً من القانون العائلي المعاصر. إن مشكلاتنا الأساسية تكمن في الطبقة الحاكمة التي تقسم المجتمع على أساس الجنس والدين والقومية والعرق».
وهذه الحملة التي قادتها ناشطات كرديات أخريات بدعم خفي من الأحزاب العلمانية الكردية الحاكمة وغير الحاكمة، بالإضافة إلى الجمعيات الغربية المطالبة بحقوق المرأة، وعن حملة منظمة بواسطة الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، فضلاً عن المنتديات الثقافية والمحاضرات الأسبوعية المتنوعة للطبقة المثقفة كاتحاد الأدباء والكتاب وغيرهم، التي كانت تتهجم على ثوابت الإسلام دون خوف أو وجل، في الوقت الذي كان الرقيب يحسب كل همسة تخص الأقليات الدينية غير الإسلامية بالويل والثبور وعظائم الأمور؛ ما جعل البرلمان المحلي (المجلس الوطني الكردستاني) يحاول إصدار تشريعات قانونية تتنافى مع ثوابت الإسلام، كمنع تعدد الزوجات، التي كانت محل استياء التيار الإسلامي والتقليدي على استحياء، برغم تقاطعه التام قانونياً ودستورياً مع الدستور العراقي الذي أقره حوالي 78% من سكان العراق بما فيه إقليم كردستان، حول عدم إصدار أي قانون يتعارض مع بدهيات الإسلام وثوابته.
كما يجب أن لا ننسى جهود المنصرين البروتستانت والكاثوليك في الترويج لبضاعتهم في كردستان العراق، لاسيما بعد حرب الخليج الأولى والثانية. وكانت الحكومة المحلية الكردية تمنح قطع أراضٍ لهؤلاء المنصرين لبناء كنائسهم ومدارسهم التنصيرية عليها، وتمنح مؤسساتهم الموافقات الأصولية لفتح المعاهد والمدارس والمكتبات وطبع الكتب باللغات العربية والكردية بلهجتيها الرئيستين (الكرمانجية الشمالية والجنوبية)، وأن الكثير من أبناء المسؤولين يتعلمون في هذه المدارس التنصيرية وغيرها من المدارس الأجنبية الموجودة في الإقليم برغم خطورتها على النشء بحجة تعليم اللغة الإنجليزية. حتى وصل الأمر بأحد المسؤولين الكبار في حكومة الإقليم إلى القول أنه «يحب أن يرى كرداً دخلوا في المسيحية على أن يراهم مسلمين متشددين».
ومن الجدير بالإشارة أنه تم فتح جامعتين أمريكتيتين في مدينتي السليمانية ودهوك على التوالي، وتم صرف مبالغ طائلة لإنشاء بنايات ومنشآت الجامعتين من ميزانية الحكومة المحلية ومن الهبات والتبرعات التي أغدق فيها بعض أغنياء مدينة السليمانية تحديداً، وهاتان الجامعتان تذكران بجامعتي بيروت والقاهرة التي أنشأها المرسلون البروتستانت الأمريكيون في العالم العربي، الأولى في بيروت قبل أكثر من قرن، لإنشاء جيل جديد يتربى على قيم وأخلاق الغرب ولكي يتبوأ مكانه في عملية قيادة المجتمع العربي فيما بعد، والأمر كذلك بالنسبة للمجتمع الكردي بعد قرن كامل تقريباً.
وفي الثامن من ديسمبر عام 2015م تم ولأول مرة على مستوى الشرق الأوسط، افتتاح الجامعة الكاثوليكية في بلدة عينكاوه المسيحية إحدى ضواحي العاصمة أربيل، برعاية السيد نيجيرفان بارزاني رئيس حكومة إقليم كردستان.
وتستطيع هذه الجامعة الاستفادة من خدمات 215 جامعة كاثوليكية والتي توجد في أكثر من 65 دولة حول العالم، كما جدد التأكيد على أن هذه الجامعة مفتوحة للجميع ولا تفرق بين أي طالب يدرس فيها.
كما عبر المطران بشارة وردة رئيس أساقفة أربيل عن شكره لرئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني ورئيس حكومة الإقليم نيجيرفان بارزاني والمسؤولين لدعمهم فتح الجامعة الكاثوليكية.
ومن جهة أخرى فإن الهيئات التنصيرية تحاول بشتى السبل الضغط على المؤسسات التشريعية والتنفيذية ومنظمات المجتمع المدني في إقليم كردستان العراق بقصد تغيير قانون الأحوال الشخصية المبني على الشريعة الإسلامية، للسماح للكرد المرتدين لتغيير هويتهم الإسلامية إلى الهوية النصرانية، وكذلك الأمر بالنسبة لعوائلهم التي تنصرت، ومن ثم جعله قانوناً ساري المفعول في - إشارة إلى حرية المعتقد والضمير - وعدم اعتبارهم مرتدين وفقاً لأصول العقيدة الإسلامية التي لا تزال سارية المفعول في جميع أنحاء العراق، بما فيها إقليم كردستان.
مسارب العلمانية في كردستان:
لا يمكن إجراء أي مناقشة للتاريخ السياسي الكردي أو لغيره من الشعوب العثمانية، أو للأفكار القومية أو العلمانية من دور ذكر جمعية (العثمانية الفتاة) التي كانت شديدة التأثر بالمفكرين الفرنسيين الذين سبقوا الثورة الفرنسية الكبرى، وكانت أعمال هؤلاء قد ترجمت من قبل إلى اللغة التركية، مثل جان جاك روسو ومونتسيكيو، وسواهما. وكانت النزعة القومية الليبرالية عند جماعة (العثمانية الفتاة) ما تزال متلبسة لبوس المفاهيم الإسلامية التقليدية.
وعلى سبيل المثال فإن (علي سوافي) أحد مفكري جماعة (العثمانية الفتاة) دعا إلى القيام بـ«إصلاح ديني بوصفه نقطة انطلاق إحياء الدولة الإسلامية والقانون الإسلامي». ونجد أن هذه الجماعة شرحت أن «حب الوطن من الإيمان» اعتماداً على حديث نبوي، مثلما أكدت أن الدستورية ليست سوى مبدأ الشورى في ثوب آخر. وكان هذا التداخل بين الديني والدنيوي سبباً في توصيف علي سوافي بأنه (لاهوتي ليبرالي) أو (ثوري معمم). وأن هذا المثقف بالذات هو الذي قطع الصلة بالوطنية العثمانية، مباشرة عقب الحرب البروسية - الألمانية - الفرنسية عام 1870م، لينتقل بالكامل إلى مفهوم القومية (التركية) المختلف عن الولاء الإسلامي العثماني. وهذا ما أفصحت عنه بوضوح (جمعية تركيا الفتاة) التي خلفتها.
توجت هذه الحركة أو الثورة كما تحلو للاتجاهات العلمانية تسميتها بسنوات كثيرة من النشاط السري في الدولة العثمانية، بعد انبثاق جمعية الاتحاد والترقي منها والتي كان أتباعها من أصول قومية متنوعة وذوي مطامع متناقضة غالباً. إلا إنه برغم هذه الفروق كان يوحدهم إعجابهم المشترك بالمؤسسات الغربية وكراهيتهم الشديدة للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وكان الأعضاء الرئيسون للجمعية الذين هربوا من الدولة العثمانية واستقروا في أوربا متشبعين بالأفكار الاجتماعية والسياسية الغربية، وكانوا متأثرين خاصة بأفكار المساواة والتحرر التي دعت إليها الثورة الفرنسية عام 1789م والنزعة القومية المتشددة بعيد عام 1848م، إثر صعود الحركات القومية الألمانية والإيطالية وقتذاك في سبيل تحقيق الذات القومية في أمة/ دولة، ومذهب الوضعية الكونتية (نسبة إلى المفكر الفرنسي أوغست كونت).
وتأثرت جمعية الاتحاد والترقي بوصفها منظمة تآمرية سرية، بعدد من الجمعيات السرية الأوربية خصوصاً: الكاربوناري الإيطالية، والمنظمة الثورية المقدونية الدولية، والماسونيين.
هذه الحركة، كما هو معروف طورت اتجاهين: لا مركزي، يستهدف إعطاء المجموعات الإثنية (القومية) غير التركية حقوق استقلال ذاتي (بما في ذلك العرب والكرد)، واتجاه آخر مركزي متشدد (الاتحاد والترقي) ويركز على الإصلاح الدستوري للدولة المركزية.
لعب الكرد أو الأشخاص من أصل كردي دوراً مهماً في الجمعية (الاتحاد والترقي) منذ تأسيسها على يد الطلاب عام 1889م، وكان اثنان من الأعضاء المؤسسين لجمعية الاتحاد والترقي الأولى هما: إسحاق سكوتي، وعبد الله جودت كرديين، وانضم كرد بارزون إلى الحركة وشاركوا مشاركة فعالة في نشاطاتها، واعتقل عدد من أعضائها عام 1895م وأرسلوا إلى المنفى ومنهم: إسحاق سكوتي الذي نفي إلى جزيرة رودس التابعة لليونان، وعبد الله جودت الذي نفي إلى طرابلس الغرب في ليبيا.
واشترك كردي آخر هو الشيخ عبد القادر بن الشيخ عبيد الله النهري (قائد الثورة الكردية لعام 1880م ضد الدولة القاجارية الإيرانية) في مؤامرة فاشلة لجمعية الاتحاد والترقي للانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني عام 1896م، وقد أعدم في يونيو عام 1925م بتهمة المشاركة في ثورة عام 1925م الكردية بقيادة الشيخ سعيد بيران ضد السلطات التركية الكمالية.
قبل قيام حركة الاتحاد والترقي بالسيطرة على مقاليد الأمور في الدولة العثمانية عام 1909م، فإن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني قد أنشأ سنة 1892م تشكيلاً عسكرياً يدعى بالفرسان الحميدية، وقد أدخل في هذا التشكيل الآلاف من رجال القبائل الكردية للاستفادة من شجاعتهم وفروسيتهم في قتال الروس والأرمن المتمردين على سلطة الخلافة الإسلامية الذين كانوا يعيشون جنباً إلى جنب مع الكرد. لاسيما بعد تمرد الأرمن الشهير عام 1894م في شرق الأناضول ودعم الروس لهم. ولكن بعد سقوط السلطان عبد الحميد ودعوة جمعية الاتحاد والترقي إلى الطورانية وسياسة التتريك جعلت أبناء القوميات الأخرى من العرب والكرد والألبان يتوجسون خوفاً منها، ويطالبون بحقوقهم القومية أسوة بالأتراك.
حينما كانت الدولة العثمانية إسلامية كان الجميع يعيشون في ظلها إخوة متحابين عملاً بالحديث النبوي الشريف: «لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى»، لذلك بدأ المثقفون والضباط الأكراد الذين كانوا يعيشون في إسطنبول العاصمة، القيام بنشاطات سياسية وثقافية من أجل تشكيل جمعيات وحركات قومية، وفيما بعد أحزاب سياسية بالمطالبة بالحقوق القومية الكردية في ظل الدولة العثمانية.
وهذا ما حفز النخب الكردية على تلقي خطاب القومية الجديد أسوة بالدول الأوربية.
وعلى أية حال فإن جمعية الاتحاد والترقي قامت بانقلابها الشهير في يوليو 1908م ضد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1876-1909م) الذي كانت له آثار عميقة في مصائر شعوب البلدان التي شكلت الدولة العثمانية.
الحركة الثقافية الكردية في ظل الاستعمار الفرنسي:
في دمشق التي كانت واقعة آنذاك تحت سلطة الاستعمار الفرنسي نشر العضو القيادي في حزب (خويبون/ الاستقلال) الأمير (جلادت أمين عالي بدرخان - المتوفى سنة 1952م)، والهارب من تركيا لأسباب سياسية، مجلة (هاوار/ النداء) باللهجة الكرمانجية وبالأحرف اللاتينية في مايو 1932م في دمشق، وطور الأبجدية اللاتينية على غرار الأبجدية التركية الجديدة التي وضعها (مصطفى أتاتورك) عام 1928-1929م، بوصفها مناسبة أكثر للغة هندو-أوربية كالكردية.
وفي السياق نفسه قامت المنظمات والأحزاب الكردية في سوريا بفتح دورات سرية في منطقة الجزيرة (شمال شرق سوريا) لتعليم اللغة الكردية قراءة وكتابة بالحروف اللاتينية أسوة بأكراد تركيا الأكثر ملاءمة مع اللغة الكردية، يدعم ذلك قول المستشرق والمبشر الفرنسي الدومنيكاني (توماس بوا المتوفى عام 1974م): «إن الكتابة باللاتينية التي تطمح بأن تصبح شاملة، تشجع التبادل الثقافي والتقني والتجاري، كما يصير بإمكان الشرقيين تعلم اللغات الغربية بسهولة، لينضموا إلى ركب العالم المتمدن، وبالمقابل يصير في وسع الغربيين تعلم اللغة الكردية بسهولة»، بينما يقول باحث وضابط استخبارات فرنسي آخر (بيير روندو): «إن واقع اختيار المثقفين الأكراد للأحرف اللاتينية جعلهم يبتعدون عن الأوساط الثقافية العربية والإيرانية... ليتموضعوا بوضوح في حقل علماني»، وبالمقابل دافع بعض مؤيدي آل بدرخان من الملالي والشيوخ المنخرطين في القضية القومية الكردية مثل الشيخ (عبد الرحمن غريزي) عن «ألفباء» آل بدرخان بقوله: «لم ينزل الله علينا تعاليمه بأحرف وصور بل بالكلام»، فقرر الأخوان جلادت بدرخان وكاميران بدرخان عقب ذلك برغم ميولهما العلمانية ترجمة القرآن الكريم بأحرف لاتينية.
وقد أثارت الألفباء الكردية التي وضعت في سوريا ردات فعل متنوعة ليس في العراق وحده، فالقوميون العرب رأوا في مسار اللَتننة اتجاهاً خطيراً، لاسيما تلك التي بدأها العقيد الكردي العراقي (توفيق وهبي) في العراق بالتعاون مع المستعمر البريطاني وتحديداً مع المستشار البريطاني في وزارة الداخلية العراقية في العهد الملكي (أدموندز - مؤلف كتاب كرد وعرب وترك)، وقد نشرا معاً بعض البحوث والدراسات، لا شك أن القاموس الإنجليزي - الكردي كان من أهمها.
ويبدو أن التعاون والتنسيق بين الشخصيتين الكرديتين جلادت بدرخان وتوفيق وهبي لم يصل إلى نتيجة، بسبب الخلاف حول الألفباء الكردية ما بين اللهجتين الكرمانجية الشمالية (البهدينانية) والكرمانجية الجنوبية (السورانية)، والخلاف بين الدولتين المستعمرتين فرنسا وبريطانيا حول أجندتهما في هذا المجال، ففرنسا كانت تدعم الكرد وباقي الأقليات الدينية والمذهبية في سوريا على أمل تقسيم سوريا إلى عدة دول كما هو معلوم، أما بريطانيا فهي التي ألحقت ولاية الموصل ذات الغالبية الكردية بالعراق وفق معاهدة 1926م، وكانت تحاول الاستفادة من نفط شمال العراق دعماً لمكانتها الحربية.
وعلى أية حال فإن الفرنسيين داوموا على تشجيع آل بدرخان على اللتننة من خلال المستشرق الفرنسي (روجيه لسكوت) بوصفها مظهر تقدم ومدنية، وذلك حتى نهاية الانتداب الفرنسي على سوريا في العام 1946م.
وفي الجانب الكردي، رأى المنضوون تحت راية حزب (خويبون) والحلقات القريبة منه في هذه العملية خطوة إلى الأمام على طريق التقدم، في حين أثارت الأوساط الإسلامية المحافظة أحكامها المسبقة ضد هذا التغيير الذي رأته مساساً بالقرآن الكريم وبالدين الإسلامي، وبوحدة المجتمع المسلم.
وفي الوقت الحاضر فإن النخبة الثقافية الكردية وغالبية قيادات وكوادر الأحزاب الكردية العلمانية في جميع أجزاء كردستان يكنون احتراماً وتقديراً لآل بدرخان (جلادت وأخوه كاميران) على ما بذلوه من جهود في خدمة القضية الكردية من النواحي السياسية والثقافية، وبأنهم كانوا الرواد نحو نقل المجتمع الكردي إلى مضمار التقدم والمدنية والحداثة.
دور الأحزاب والتيارات السياسية في تعزيز العلمانية في كردستان:
كما في كل البلدان الإسلامية، يوجد في كردستان تيارات علمانية: تيار متطرف استئصالي - شامل (لائكي) هو الغالب، وتيار معتدل (جزئي)، ومن بين المذاهب العلمانية هناك: القوميون واليساريون والماركسيون.
القوميون: أكبر حزبين في كردستان العراق هما: الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي تأسس سنة 1946م الذي يتزعمه مسعود البارزاني ابن الملا مصطفى البارزاني، وتغلب النزعة القومية المحافظة على الحزب، مع وجود ميول يسارية جاءت بفعل الجذور التاريخية لمؤسسيه: (حمزة عبد الله - الشيوعي القديم) و(إبراهيم أحمد - اليساري)، وانضمام عدد من القيادات الشيوعية والماركسية واليسارية إليه في حقب مختلفة بدءاً من التأسيس وحتى الوقت الحاضر.
وقيادة الحزب حكر على أسرة الملا مصطفى البارزاني تحديداً، فالبارزانيون كما هو سائد عنهم لا يشكلون قبيلة بحد ذاتها، ولم يعرف نظامهم الاقتصادي أي نوع من الإقطاع، فهم يشكلون اتحاداً قبلياً ظهر إلى عالم الوجود في العقد الأول من القرن العشرين حينما انقسمت قبيلة الزيبار (تقع مساكنها شمال قضاء عقرة) إلى قسمين إثر النزاع الذي حدث بين أغوات الزيبار وشيوخ بارزان، وتحول إلى صراع دموي كان النصر فيه حليف شيوخ بارزان، مما أدى إلى تشعب قبيلة الزيباريين إلى قسمين: قسم بقي خاضعاً للأغوات وهؤلاء استقروا في المنطقة الواقعة غرب نهر الزاب الكبير وكانوا موالين للحكومات التي تعاقبت على حكم العراق، والقسم الآخر انتصروا لشيوخ بارزان وهم المعروفون بالبروزيين (مقابل الشمس) الساكنين أصلاً شرق نهر الزاب الكبير، وانضم إليهم قبل وبعد ذلك عشائر أخرى مجاورة بتأثير الدعوة الصوفية النقشبندية كالشيروانيين والمزوريين والدولمريين وغيرهم.
ويبدو أن تاريخ بارزان يبدأ منذ العقد الثالث من القرن التاسع عشر حينما سلم الشيخ طه النهري خلافة الطريقة النقشبندية إلى الشيخ تاج الدين البارزاني رأس عائلة الشيوخ في بارزان.
والحزب الآخر هو الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال الطالباني وقد كان سابقاً اتحاداً بين ثلاثة أجنحة: الرئيس منه ويدعى (العصبة الماركسية اللينينية الكردستانية ومختصره (الكومله)، وثانيهما الحركة الاشتراكية الكردستانية، ومختصره (البزوتنه وه)، والثالث الخط العريض، وهو يضم شخصيات عشائرية ومثقفة مرتبطة شخصياً بالسيد الطالباني.
وتعود بداية تأسيس العصبة الماركسية اللينينية (الكومله) إلى فترة الانشقاق الذي حدث بين جناحي الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي عام 1964م، المحافظ بقيادة ملا مصطفى البارزاني، واليساري أو ما يطلق عليه جناح المكتب السياسي بقيادة المحاميين إبراهيم أحمد وجلال الطالباني. وقد استثمر جلال الطالباني أجواء الحرية التي وفرها لهم التحالف مع نظام الفريق عبد الرحمن محمد عارف رئيس الجمهورية العراقية عام 1966م لتطبيق نظريات كبار المفكرين الماركسيين في العالم وخصوصاً الزعيم الصيني (ماوتسي تونغ) على المجتمع الكردي في العراق الذي تطغى عليه الصبغة العشائرية. وترجع أسباب تأثر الطالباني بالفكر الماوي وبالتجربة الصينية في تطبيق الاشتراكية إلى اعتقاده أنها أكثر ملاءمة للتطبيق في كردستان العراق من التجربة السوفيتية التي تعتمد على وجود طبقة عاملة متماسكة، وهو ما يفتقده مجتمع كردستان العراق ذو الطبيعة الفلاحية والذي يتشابه مع المجتمع الصيني.
كما أن الطالباني شأنه في ذلك شأن كل المتأثرين بالتيار الصيني الماوي كان يتهم القيادة السوفيتية آنذاك بالتحريفية وبالخروج عن الخط الذي ينبغي أن تسير عليه الحركة الاشتراكية العالمية. وفي ظل تلك الظروف التقى جلال الطالباني بالسياسي الإيراني الدكتور (كورش لا شائي) الملقب بالدكتور جلال مسؤول منظمة الثورة الإيرانية (سازمان انقلاب إيران) الذي انشق عن حزب توده الإيراني، ودخل إلى العراق عام 1965م كمعارض سياسي للشاه محمد رضا بهلوي، فتأثر الطالباني بأفكاره الثورية واقتنع منه بضرورة العمل على إنشاء نواة ماركسية خالصة تتحول بالتدريج إلى حزب ثوري قادر على النهوض بمسؤولياته وفق الشروط التالية: الأولى وجود منبر إعلامي يبث أفكاره بين الجماهير ويمهد الطريق أمام الحزب الثوري. وثانيهما تكوين خلايا تنظيمية سرية يتم تثقيفها على ضوء ما يجري طرحه في برنامج المنبر الإعلامي.
وبرغم وجود بقايا ماركسية ماوية ويسارية في الحزب، إلا إنه يتجه أكثر فأكثر نحو الاتجاه القومي الصرف على نمط الديمقراطي الكردستاني، وتتحدث أدبيات الحزب الآن عما يمكن تسميته اتجاهاً اشتراكياً ديمقراطياً على نمط الأحزاب الاشتراكية الدولية.
وهناك عدد كبير من الأحزاب القومية إلا إن الفارق بين وزنها ووزن الحزبيين الرئيسين هو من الضعف بمكان.
والحزب الآخر الرئيس في كردستان تركيا هو حزب العمال الكردستاني ويعرف اختصاراً PKK، أو (كاركه ر- باللغة الكردية)، وهو حزب منبثق من منظمة تركية شيوعية كانت تعمل في السبعينات باسم منظمة الشباب الثوري. وقد أسس الحزب عبد الله أوجلان الذي كان معروفاً شعبياً باسم «آبو» وتعني العم. مع بعض زملائه عام 1978م عندما كان طالباً في كلية العلوم السياسية في جامعة أنقرة، حيث أحس بمدى الظلم والإجحاف الذي كان الشعب الكردي يعانيه في تركيا على يد الأنظمة العلمانية التي تعاقبت على حكم تركيا بدءاً من حكم أتاتورك ومروراً بحكم عصمت إينونو، وانتهاءً بنظام كنعان أفرين وغيره.
وقد أعلن هذا الحزب النضال الشعبي ابتداءً من عام 1984م بحرب الأنصار ضد نظام الرئيس التركي الجنرال (كنعان أفرين)، انطلاقاً من قواعده في سوريا والعراق.
ويؤكد الحزب في برنامجه الداخلي على أن الماركسية اللينينية أيدلوجيته في العمل. وهو يهدف إلى إنشاء دولة كردية ديمقراطية مستقلة في الشرق الأوسط، وكانت إستراتيجيته ترتكز على استعمال العنف وتصعيده في مواجهة عنف القوات التركية مما خلق هوة واسعة بينه وبين الأحزاب الكردية الأخرى. وقد دعم هذا الحزب بكل قوة الرئيس السوري السابق (حافظ الأسد) وأنشأ له مقرات في سهل البقاع اللبناني حيث كان المقر الرئيس لعبد الله أوجلان، كما كانت له قواعد داخل الأراضي السورية، ومنها كان ينطلق لشن هجمات ضد النظام التركي. ولكن بعد القبض على زعيمه عبد الله أوجلان عام 1999م أوقف الحزب أنشطته المسلحة بدعوة من أوجلان الذي أعلن عن مبادرة سلام تتضمن الحوار مع أنقرة، غير أنه غير اسمه إلى «مؤتمر كردستان الحرية والديمقراطية»، ثم عاد عام 2005م إلى النشاطات المسلحة متخذاً من مناطق قنديل وغيرها في كردستان العراق مأوى له. وللحزب نفوذ سياسي وعسكري قوي في المناطق الحدودية مع العراق وسوريا، كما يحظى حزب PKK بنفوذ قوي لدى العلويين من الكرد في منطقة تونجلي (درسيم).
ولهذا الحزب الماركسي أجنحة في أجزاء كردستان الأخرى في إيران (حزب الحياة الكردستاني) والعراق وسوريا بأسماء مختلفة، لا شك أن أقواها هو حزب (الاتحاد الديمقراطي الكردستاني) المعروف باختصار (به يه ده) بزعامة المهندس صالح مسلم المدعوم أمريكياً وروسياً على حد سواء.
وبخصوص كردستان الشرقية (إيران) فهناك الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وهو حزب يساري تأسس عام 1945م متطوراً من جمعية زياني كورد (جمعية البعث الكردي) ذي التوجه الماركسي، وكانت غالبية قياداته تنتمي إلى البرجوازية الصغيرة ذات النفس اليساري الماركسي، وقد لقي دعماً من الاتحاد السوفيتي نظراً لهيمنته على مناطق أذربيجان وكردستان خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، وكان لهذا الحزب دور رئيس في تأسيس جمهورية مهاباد الكردية بقيادة القاضي محمد عام 1946م، والتي سقطت خلال أقل من سنة بعد توقف الدعم السوفيتي المادي والمعنوي نتيجة انسحابهم من شمال إيران بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وتوالت على قيادة الحزب شخصيات يسارية مهمة من أبرزهم (الدكتور عبد الرحمن قاسملو) الذي اغتيل على يد السلطات الإيرانية في يوليو 1989م في فيينا عاصمة النمسا. وكان قد انشق تيار من هذا الحزب تحت اسم (الكومله) أي عصبة الكادحين 1967م بقيادة الشيخ عز الدين وهو تنظيم ماركسي ينحو نحو العنف والقتال، وتحاول السلطات الإيرانية الحد من نشاطه عبر اتهام نشطائه بالعنصرية (العرقية - القومية والجاهلية (الماركسية ومعاداة الإسلام)، عن طريق إعدام كوادره ونشطائه.
وفي الآونة الأخيرة ظهر منافس قوي لهما وهو (حزب الحياة الحرة الكردستاني)، أي جناح حزب العمال الكردستاني الإيراني، وهو تنظيم ماركسي متشدد على غرار تنظيم الحزب الأم العمال الكردستاني (PKK).
الماركسيون: يعتبر الحزب الشيوعي العراقي أقدم الأحزاب العراقية وله مقرات في كردستان، وقد كان الكرد الشيوعيون يعملون بداخله، وكان لهم مركز ثقل كبير داخل قيادة الحزب، فقد وصل إلى سدة القيادة - سكرتارية اللجنة المركزية كل من (بهاء الدين نوري وهو من أهالي منطقة السليمانية، وسلام عادل سكرتير الحزب الذي أعدمه البعثيون والقوميون العرب سنة 1963م، بالإضافة إلى (عزيز محمد) سكرتير الحزب طوال سنوات السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، وعلاوة على ذلك كان من بينهم عدد كبير من أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي، لكن يبدو أن الحزب ارتأى أنه من الأفضل مراعاة الخصوصية الكردية فتشكل من ثم الحزب الشيوعي الكردستاني عام 1992م بعيد انتفاضة مارس 1991م. وكلا الحزبين لهما وجود ضئيل وهامشي، وقد كان الحزب الشيوعي دوماً ضعيف التأثير في كردستان بسبب الخلفية الإلحادية للحزب وبسبب عدم تبنيه لطروحات قومية، وكان عالة على الأحزاب الكردية الرئيسة من ناحية التمويل والدعم، ولكن كان له تأثير مباشر على البنية السياسية والفكرية والعقائدية لغالبية الأحزاب الكردية برمتها ما عدا الإسلامية.
كما تجب الإشارة إلى الحزب الشيوعي السوري، حيث كان قائده (خالد بكداش) من أصول كردية، لذا كان الحزبان الشيوعيان العراقي والسوري يسميان بأحزاب الأقليات، لكثرة الكرد والأرمن والكلدان والآشوريين في صفوفه.
بالإضافة إلى تيار ماركسي متطرف مراهق (الحزب الشيوعي العمالي الكردستاني) يتبنى طروحات طفولية بعيدة عن الواقع، ومن ثم ليست له شعبية على أي مستوى حتى بين باقي اليساريين.
اليساريون: قد كان هناك في ثمانينات القرن العشرين خصوصاً تيار اشتراكي غير ماركسي، مراعاة للعادات والتقاليد السائدة في المجتمع الكردي (الإسلام)، وكذلك مسايرة لموضة العصر الاشتراكية، إلا إنه ما لبث أن تلاشى خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والحقيقة أن التيار اليساري لم يكن له في السابق شعبية برغم أنه استطاع كسب قطاع من المثقفين، أما الآن فهو يعاني من تقهقر كبير، ويمثله الآن الحزب الاشتراكي الكردستاني (حسك)، ومركز ثقله الرئيس يتركز في جنوب شرق السليمانية حيث معقل زعيمه (محمد الحاج محمود).
وهناك حزب يساري آخر يدعى (حزب كادحي كردستان) يؤمن بالاشتراكية العلمية (الماركسية - اللينينية)، وبالربط الجدلي بين النضالين القومي والطبقي في كردستان العراق، وهذا الحزب انشق عن الحركة الاشتراكية الكردستانية وكان يقف على يسارها وانشق عنها بسبب مواقفه القريبة من إيران.
«إن المراقب والمتتبع يرى بوضوح أن العلمانية التي تنادي بها الطبقة الحزبية والمثقفة على الأبجديات الماركسية - اللينينية والماوية هي علمانية متشددة (لائكية) على الطراز الفرنسي أو الأتاتوركي؛ التي تحاول استئصال جذور الإسلام من كردستان، بشتى السبل».
وصل الأمر بأحد المسؤولين الكبار في حكومة الإقليم إلى القول أنه «يحب أن يرى كرداً دخلوا في المسيحية على أن يراهم مسلمين متشددين».
«في عام2015م تم ولأول مرة على مستوى الشرق الأوسط افتتاح الجامعة الكاثوليكية في بلدة عينكاوه المسيحية إحدى ضواحي العاصمة أربيل، برعاية السيد نيجيرفان بارزاني رئيس حكومة إقليم كردستان».
حينما كانت الدولة العثمانية إسلامية كان الجميع يعيشون في ظلها إخوة متحابين عملاً بالحديث النبوي الشريف: «لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى».
«جمعية الاتحاد والترقي قامت بانقلابها الشهير في شهر يوليو 1908م ضد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1876-1909م) التي كانت لها آثار عميقة في مصائر شعوب البلدان التي شكلت الدولة العثمانية».
«حظي حزب PKK بنفوذ قوي لدى العلويين من الكرد في منطقة تونجلي (درسيم)».
بقلم/ فـرسـت مرعـي..
2017/10/19..
09:39..
العدد: 366..