الصدمات الوعظية
محمد علي يوسف
يحدث الخلل الأخطر في تلك المجازفات الجريئة أن ينسب للشرع ما ليس فيه ولا منه الغرض نبيل والغاية طيبة والنوايا حسنة إن شاء الله لكن هذا كله لا يصلح الخلل ولا يبرره
- التصنيفات: الدعوة إلى الله -
لا أجد أنسب من ذلك الاصطلاح لأصف به تلك النوعية من الخطاب الذي يفضله بعض إخواني من الدعاة الأفاضل اختيار أغرب الأمثلة وأكثر الجمل إثارة للدهشة والتعجب مفاجآت وصدمات لا تخلو منها خطبة أو محاضرة أو مقال حتى العناوين يفضل أن تكون صادمة مثيرة مدهشة..
لابد أن يشعر المتلقي أنه في حالة مستمرة من التعجب وأن ثمة لطمة أو هزة زلزالية تحملها إليه الدقائق القادمة الحقيقة أن لهذه الطريقة ثمارها وأقر أن كثيرا الناس من لا يتأثر إلا عبر هذا الأسلوب الصادم وهذه اللطمات المباغتة وأقر أيضا أن لذلك الأسلوب ما يستند إليه من السُنّة وفعل السلف الصالح.. «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ»..
مشهد مفاجئ هو معلومة مباغتة السماوات تأط لثقل ما عليها من الجباه الساجدة والأقدام المصفوفة لمخلوقات عابدة لا نراها ولا نشعر بوجودها لكنها موجودة هذا نموذج واضح لتلك الطريقة التي أتحدث مشهد مثير وغير مألوف وربما غير متصور لكنه حقيقي.. «وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ».
يكمل النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا حديثه عن تلك الحقائق المفاجئة التي لا يعلمها جل الخلق ولو علموها لتغير حالهم كثيرا طريقة موجودة هي إذاً اعتمدها النبي ووعظ بها فكان أحسن الواعظين لكنها ليست الأصل الدائم ليست الطريقة الأساسية التي اعتمد عليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لإيصال المعلومة لو قارنت نسبة هذه النوعية من الأحاديث لكم الأحاديث الأخرى الواردة عنه صلى الله عليه وسلم لوجدت أنها نذر يسير جدا مقارنة بكلماته التي وجه بها الأمة وعلمها لطالما بيَّن وعلَّم ووضح وفصّل وأسس ورسخ معانٍ وأخلاق وسلوكيات وعبادات أكثر من أحصيها في مقال كلها بلهجة مباشرة هادئة بسيطة..
لهجة لا تحمل مفاجآت ولا تعتمد على الصدمات لا تغضب..
لا يزال لسانك رطبا بذكر الله..
بني الإسلام على خمس..
كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت فليكرم جاره فليكرم ضيفه إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت..
ومثل ذلك ما لا يسعنا إحصاؤه هكذا كان جل حديثه بسيطا سهلا مباشرا محددا كان هذا هديه وخير الهدي هديه مشكلة الاعتماد الدائم على طريقة الصدمة الوعظية تكمن في عدة أمور ليس أخطرها اعتياد المتلقي عليها اعتيادا قد يؤدي لإلف ثم صعوبة تأثر بعد ذلك كعرض طبيعي لأي إدمان يحتاج دوما لجرعة زائدة لاستعادة التأثير القديم وليس أخطرها أيضا تململ معتادي تلك الطريقة من التلقي العلمي والفكري الهادئ وربما احتقارهم له بعد حين أو زهدهم فيه وفي أصحابه الذين لا يجيدون مس أوتار الإثارة كما يجيده أصحاب طريقة الصدمة إن أخطر مشاكل تلك الطريقة في تقديري هو الوقع في المجازفات جنبا إلى جنب مع الوقوع في التكلف حين يكون مبتغى الواعظ دوما أن يأتي بجملة صادمة أو يختار مثالا شديد القسوة فإنه كثيرا ما يقع في مبالغات بل كثيرا ما يقع في مغالطات أبعد ما تكون عن الحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم حين فاجأ المتلقين بغيب زماني أو مكاني فإنه لم يفعل ذلك إلا بوحي لكن مشكلة الصدمات الوعظية المعاصرة أنها غالبا لا تكون كذلك إنها في الحقيقة وعلى أحسن الفروض تكون استقراء أو استنباطا اضطر إليه الواعظ لاحتياجه المستمر لمفاجآت مثيرة يضمنها في دعوته التي ينضب معين كتب التراث منها بعد حين حيث أنها كما قلنا كانت محدودة في كلام حامل الوحي وطبعا لتكتمل الإثارة وتتم الصدمة وتظهر المفاجأة لابد من الجزم لا مناص من القطع..
لا فكاك من الإخبار بيقين حاسم وينسى الواعظ أن من يقول أو يختار لم يزل مجرد استقراء أو استنباط وأنه لا يوحى إليه ولا سبيل لديه لمعلومة غيبية مفاجأة عندئذ يظهر التكلف ويحدث الخلل الأخطر في تلك المجازفات الجريئة أن ينسب للشرع ما ليس فيه ولا منه الغرض نبيل والغاية طيبة والنوايا حسنة إن شاء الله لكن هذا كله لا يصلح الخلل ولا يبرره وذلكم الواعظ الذي يصر في هذا الزمان الذي انفتحت فيه سبل التعلم والتثبت وصارت النظرة النقدية المتفحصة أسبق من تلك المستكينة المتقبلة لكل ما يقال هو في الحقيقة يضع بكل مجازفة صادمة مسمارا في نعش دعوته دون أن يشعر وكان الأسلم والأبرك لدعوته أن يلزم الغرس المعصوم ويقتفي الأثر الملهم ويقتدي بهديه وخير الهدي هديه.