من وحي الزنزانة

محمد جلال القصاص

إن سبب الاختلاف الرئيسي يكمن في الجهل بالتخصصية، في الجهل بأننا لسنا سواء، في الجهل بشمولية الإسلام، وتعدد جوانبه، ولذا يظن كل واحدٍ أنه هو – وجماعته- الحل.

  • التصنيفات: التصنيف العام - قضايا إسلامية معاصرة -
من وحي الزنزانة

بسم الله الرحمن الرحيم

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم


في أول اعتقالٍ لي في عهد النظام الحالي، كنت مسئولًا عن النشاط الديني في الزنزانة، وهي مسئولية محدودة جدًا، ليس فيها غير ترتيب إمامة الصلاة: من يصلي إمامًا؟، وتذكير أصحاب السجن بالأذكار في أوقاتها

كانت مساحة الحركة محدودة، ففي الزنزانة خمسة عشر (وأقل عدد وصلنا إليه تسعة) أغلبهم شباب لا يكاد يسكن، في فراغٍ لا يزيد عن عشرة أمتار إلا قليلًا، ولم يكن يسمح لنا بإدخال كتبٍ للقراءة، وكنا نحصل على الورق والأقلام بصعوبة بالغة، ومما يفيض من الطلبة الذين معنا في المعتقل!!

رحت أفكر فيما يرد على خاطري مما تراه عيني أو تحس به جوارحي أحاول أن أفهم الإشارات بحثًا عن فرصة لمغنمٍ أو دفعًا لمغرم. والعقل مآلات، والتفكير فريضة على المؤمنين وضرورة للعاقلين. فكان أول ما لاحظت أن المنشغلين بالذكر والعبادة قليل جدًا.. كنت أظن الناس في المعتقلات يسبحون ويصلون ويصومون، ولا يفترون. فوجدتهم كما بالخارج إلا قليلًا. عامة الوقت يقضى في جدالٍ مذهبي وتحليلاتٍ سياسية. يتجادلون مع أن كلَّ واحدٍ مستمسكٍ برأيه، ويحللون مع أن الأخبار في المعتقل شحيحة جدًا!!

احتدم الجدال حول كليات العمل الإسلامي المعاصر. ذات الأسئلة التي طرحت على الحركة الإسلامية من عشرات السنين هي هي التي تطرح الآن؛ ما هي الوسيلة الأنسب لاستئناف الحياة الإسلامية من جديد؟، الكل يبحث عن طريقة لتمكين القيم الإسلامية من الواقع، أو لإدارة الواقع تبعًا لرؤى إسلامية، ويختلفون على الوسيلة؟، أو كل واحدٍ يريد أن يحمل أخاه على وسيلته التي ارتضاها لنفسه. مع أن الوسائل تخضع لإمكانات الأفراد ورغباتهم أو لإكراهات الواقع. والدين شامل ومتعدد الجوانب، ففي الإسلام السياسة، وفي الإسلام الجهاد، وفي الإسلام الحفظة.. أهل القرآن، وأهل الفقه، وأهل الحديث، والأدباء، والحرفيون.

كل يذهب إلى ما يحسن أو إلى ما يحب، والسياق يتحكم فيمن يتقدم، فحال الجهاد يبرز أرباب التفكير العسكري لتحديد زمان ومكان وخطط المعركة، وحين تتلقي الوجوه يبرز الأشداء المحترفون للقتال بين الصفوف، وحال الزحف يبرز الرماة، ولأهل اليسر والنفقة موطن لايقوم به غيرهم، ولأهل العلم حضور لا يغني عنهم فيه غيرهم، وكذا أهل المروءات وأهل الرأي. كل حيث يحسن، فلم يختلفون؟

إن سبب الاختلاف الرئيسي يكمن في الجهل بالتخصصية، في الجهل بأننا لسنا سواء، في الجهل بشمولية الإسلام، وتعدد جوانبه، ولذا يظن كل واحدٍ أنه هو – وجماعته- الحل، وأن غيره يضيع وقته، ولذا يتعدى كل واحدٍ على أخيه ويحاول حمله على مذهبه، وربما يستعلي عليه ويحقر من شأنه.

وكان الكل يحلل سياسيًا، ولم يكن تحليلًا، وإنما رغائب يتمنونها ويلوون الواقع ليًا لينطق برغباتهم، وإن لم يجدوا في الواقع شاهدًا استدعو الأحلام، وبعض الرؤى حق. ولم أكن أحلل –رغم تخصصي-، ولم يستنطقوني إلا مرة أو مرتين: ولم يعجبهم قولي: كنا وقتها في حديث عن مصالحة وطنية، وكنت أقول لهم: لا مصالحة، لا يريدوننا، السياق العام هو التخلص من الحركة الإسلامية على الدولة والإقليم، أو على الأقل تخضيب شوكتها حتى تعود جزءًا من الفسيفساء التي تزين به العلمانية ساحتها.. كن أقول: إن مفاهيمنا وثوابتنا تتعرض للإبادة، يراد لنا أن نخرج من الطريق ونقف على جانبه. وكنت أقول: أنهم يسيرون بخططٍ طويلة المدى، وإننا أقل من إدراك المكر الذي يحاك لنا فضلًا عن منازلة دوائر الخصوم التي تحيط بينا: النخبة العلمانية (المثقفين وأصحاب المال)، والعسكر، والنظم الإقليمية، والنظم الدولية بهياكلها المتعددة.

وحين يغشاهم شعور بالهزيمة يتحركون في نواحيها بحثًا عمن يلقون عليه التبعة. فقائل: الإخوان مع أن الكل شارك كما شارك الإخوان، ومع أن جلهم زايد على الإخوان في مواقفهم؛ وقائل شيوخ وعواجيز الحركة الإسلامية وأن الخير في الشباب، مع أن الشباب هم من جروا الشيوخ لهذه الموجة من الأحداث، ومع أن غالبية الشباب فعل ما أراد ولم يملِ عليه أحد شيئًا يكرهه، ومع أن الشيوخ حين كانوا شبابًا كانوا أكثر إقدامًا وتضحية، فكل خير في شباب اليوم وجد في الشيوخ يوم كانوا شبابًا، فالحديث عن أنهم سبب الهزيمة لقلة وعيهم حديث جائر، بل إن حال الصحوة وهي تقع في ذات الأخطاء جيلًا بعد جيل يعطي إشارة شديد الوضوح أننا نتعرض لذات الكبوات ولا نتعظ..ولا نفكر، ولا نملك أدوات الفهم اللازمة؛ بل ولا نسعى لامتلاكها. كالثور الأسباني.

كمسئولٍ عن النشاط الديني في الزنزانة وجدت أن من الحكمة أن نغلق النقاش العام، وأن من شاء أن يتحدث فمع نفسه أو مع واحدٍ آخر، كما أوصى الله:
{قل إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}، فالجمع له عقل خاص ويرتدي الفرد –في الغالب- مع الجماعة ثوبًا آخر غير ثوبه الحقيقي. ولذا لم يظهر في زنزانتنا أي خلاف، مع أنها كانت مصدر كل خلاف حين تخلت عن هذا المبدأ بعد ذلك (وكنت قد خرجت).

أخرج أحدنا من أمتعته (كورة صغيرة) وسخر بعضهم، ورأيت أن في اللعب شيئًا جميلًا، وبدأنا باللعب في الزنزانة، في هذا الضيق الشديد، كانت المباراة بين اثنين، يجلس الجميع ويقف المتسابقان، ويتقازفان كورة الأطفال هذه بأيديهما حتى تسقط، ومن تسقط منه الكورة يجلس ويقوم آخر، والبقية يشجعون. ثم انتقلنا لساحة التريض نلعب فيها.

وكانت ساحة التريض بعرض متر وربع أخذنا منها ثلاثة أمتار للعب، فكان الملعب بطول ثلاثة أمتار وعرض متر وربع (أرجو قراءة السطر الأخير مرة أخرى). وأصبح ملعبًا، يلعب فيه فريقان: ثلاثة في مقابل ثلاثة، وأقبل مشاهير الفكر والتنظير على اللعب. ثم أصبح العنبر كله ملاعبًا، انتشرت الملاعب (ثلاثة أمتار في متر وربع) في جنبات العنبر، وحين اختفى التريض عادوا للجدال واقتتلوا.

عادوا يطرحون الأسئلة، وعاد الجميع يجيب دون علم ودون مراعاةٍ للتخصص وإكراهات الواقع.

وبعد ثلاثة أعوام اعتقلتُ للمرة الثالثة، دفعت لزنزانةٍ بها ستة عشر كريمًا فاضلًا. بالكاد يجد أحدهم مكانًا يجلس فيه، وكلهم يرتعد من شدة البرد. وعلى حالهم الأول، يحللون.. يتجادلون.. يتساءلون: من السبب في مصيبتنا؟، وكيف الخروج منها؟، الإخوان؟، أم السلفيين؟، العقيدة..الابتداع، وكل واحدٍ منهم يلقي بالتبعة على صاحبه.. وكل منهم يحاول أن يحمل أخاه على ما يريد.

حاولت منذ خروجي من السجن في المرة الأولى أن القي أسئلة أخرى على الحركة الإسلامية، أسئلة التحدي الخارجي، أسئلة تلفت النظر للأدوات التي تستخدمها الصحوة، أسئلة تبرز للجموع أننا في ورطة: نتعرض لذات الكبوات ولا نتعظ، أسئلة تبرز أن رموز الصحوة في مصر تراجعوا إلى المجال التربوي، ايمانًا بأننا دخلنا صدامًا لم نستعد له، وان الذين يصطدمون غير جاهزين وفي سياق غيرهم.. موظفون عند غيرهم. وإن ورمت أنوفهم. ولو بيدي لفكفكت الجماعات وجعلتها تخصصات كل حسب ما يحسن أو ما يحب..